“آفة النقل الهواء”

 


 

 

أبوذر بابكر

abuzar_mohd5@hotmail.com

"آفة النقل الهواء"

العنوان تحوير مقصود لمقولة بن دريد المعروفة "آفة الرأي الهوى"
وبالطبع فإن مضمونها ومعناها مدرك ومفهوم ومعلوم، وقد قصدت إستلاف واستخدام ذات المقولة بنفس معناها، وذلك للتعبير عما ابتلت به معظم إن لم نقل جميع المواقع الإسفيرية الرائجة والمعروفة، وذلك الإبتلاء هو "آفة النقل" اي نقل ما هو مكتوب ومنشور ومبذول في مواقع بعينها، حتما يكون الكاتب قد بذل فيما يكتب جهدا وسعيا وتعبا حتى اوصل ما يبتغي ايصاله، فيأت شخص آخر وبكل بساطة ولا مبالاة غريبة بنقل ما هو مكتوب الى موقع آخر، لا يهم إن كان الناقل يشير الى الكاتب الأصلي أو ينسب اليه المنقول، فالاحتجاج ليس على ذلك ابدا، بل ينصب على عملية النقل الساذجة وعلى ما هو مقصود منها، فبحسبة ذهنية سهلة وبسيطة، ندرك أن ما هو منقول الى موقع آخر، حتما وقطعا سيكون قد اطلع عليه ذات القراء المنقول اليهم، فيصبحوا على غير حاجة لمطالعته مجددا، لأنه أيضا وبكل ببساطة، يستطيع المتصفح ب "تكة" زر واحدة الولوج الى عشرات المواقع والمنابر ليجد كل ما هو منشور فيها في بضع دقائق معدودات.
يمكن تبرير آفة النقل، بقطعها ونسخها ولصقها، مثلا بأن يكون الموضوع المنقول ذا أهمية قصوى تستدعي النقاش فيه وتستصحب وتتطلب آراء الجميع، أو أن يكون منشورا في مكان غير متاح للآخرين أو لا يمكن الحصول والوصول اليه بيسر، لكن ليس هذا هو الحال، فجميع المواضيع المنقولة، مكتوبة ومرئية، متاحة ومبذولة في أماكن نشرها الأصلية ويمكن لكائن من كان الوصول اليها، بهذا تنتفي حجج كثيرة لتبرير عملية القطع واللصق لا يقتصر النقل فقط على المواد المكتوبة، بل يشمل المواد المرئية "مقاطع الفيديو المصورة"
لكم وددت أن أعرف السبب الحقيقي لأن يقوم اولئك الحمالون بما يقومون به، ستجدهم يفعلون ذلك بكل مثابرة واجتهاد وحرص، ولربما يتراءى أو يخيل اليهم أنهم يقومون بأمر ذي شأن وأهمية وقيمة، أو ربما فقط للتوقيع على دفتر الحضور وسجل التواجد.
وللتدليل على القول، لنأخذ موقعا رائدا ومتميزا هو منبر "سودانيزاونلاين" ذلك الموقع والهام وصاحب القيمة الأعلى بين رصفائه، أو هكذا كان، فقد كان لي شرف أن كنت ضمن ثلة خيرة من الناس، تشاركوا وساهوا في تشييد وتأسيس ذلك المنبر منذ اكثر من عقدين من الزمان، وبذل فيه كل ما يستطاع وبكل العزم والحرص والاهتمام حتى تربع المكان على هامة وقمة وذرى منابر الرأي والكتابة والإبداع بكل صنوفه وانواعه، وجذب صفوة العقول السودانية المثقفة بكل مشاربهم واختلاف وتنوع تخصصاتهم واهتماماتهم، فأتوا زرافات ووحدان من كل حدب وصوب، وقدموا وجادوا بمتحهم في ايما مجال وحقل، فكان الفكر وكانت الرؤى السياسية وكانت الأبحاث الإجتماعية، رفقة الأدب والثقافة من كل ضرب ونوع، فكانت الرواية والنقد والمسرح والشعر، وكان التاريخ والإجتماع والفلسفة، وكل ذلك بأقلام وعقول هي القمة والصفوة في مجالاتها وميادينها، لاحقا سيتسللون ويهربون جميعا، واحدا تلو الآخر.
ثم بدأ الإنحدار والتدهور، ربما منذ حوالي احدى عشرة سنة، وتبعا لذلك بدأ الهروب الكبير من المكان رويدا رويدا حتى وصل المكان الى ما هو عليه، اصبح موقعا لإعادة وضع ونشر ما هو اصلا منشور ومتاح في أمكنة أخرى، واصبح النقل هو السمة الأعم والمسيطرة، فأنت وبنظرة واحدة للصفحة الأولى، ولجميع بقية الصفحات، لن تجد ربما اكثر من موضوعين أو ثلاثة أو أكثر بقليل، من بين مائة موضوع، مما هو اصلا مكتوب من قبل العضو الناشر بنفسه وذاته، وجميع ما يتبقى ليس سوى اخبار مكتوبة أو مرئية وكلها منقولة.
فأصبح النقل آفة الآفات، واضحت المقولة "آفة النقل الهواء"، ذلكم الهواء والفضاء المتاح والمشاع لكل شخص يمتلك هاتفا أو حاسوبا.
فهؤلاء الحمالون يقذفون بجهد ونتاج الآخرين في هواء الأسافير الواسع، وهم يتوهمون أنهم يحسنون صنعا، غير عابئين أو ربما غير واعين بما يسببه ذلك من اضرار جانبية قد لا يكونوا على دارية بها أو بما تحدثه من أثر.
في ذلك المنبر الذي أتينا به كمثال، ومن خلال المتابعة والملاحظة، بحكم التواجد هناك والمشاركة شبه اليومية، يمكن أن نقول أن كل ما يجري الآن على جنباته لم يكن وليد يومه بل كانت بداية الإنحدار كما قلت آنفا، منذ حوالي احدى عشرة سنة خلت بالتقريب، ثم أصبح في زيادة وتراكم حتى وصوله لما فيه الآن من تردي.
قد يقول قائل، لا بل حتما سيفعل، لم التجني على آخرين لهم مطلق الحرية والإختيار فيما يفعلون، وكيف لأحد أن يحجر على رأي أو فعل أو فكر الآخرين، ومن أين له الحق في مصادرة وحجز خيارات الناس فيما يعملون، نعم هذا صحيح ومصادق عليه بكل ما يراه العقل والمنطق، لكن حين تصبح حرية الفعل والقول والتصرف تخريبا وتشويها وإهلاكا لأشياء مفيدة ومهمة ونافعة وجميلة، ينتفع بها الناس، بما فيهم هؤلاء الحمالون أنفسهم، حينها تصبح تلك الحرية المطلقة فعلا سالبا وضارا يتوجب تقويمه وتصحيحه، وفي أحيان كثيرة ينبغي إيقافه من أجل المصلحة العامة.
فقد ابتلينا مؤخرا في هذا الزمان العبوس، بما يسمى بوسائط التواصل الإجتماعي، والتي ينطبق عليها، ولكن بطريقة معاكسة تماما، قول "رب ضارة نافعة" ليكون "رب نافعة ضارة"، نعم، ينطبق عليها تماما، فقد اصبح وبكل يسر وسهولة ولأي إنسان على ظهر هذا الكوكب المنكوب، اصبح بإمكانه الكتابة والنشر وكل ما يتصل بهما، فأضحى الفضاء مكتظا بفراغ ليس كمثله شيء من الخواء والضحالة والركاكة والسذاجة المبكية المضحكة، وبالطبع هنا ايضا، ليس من حق كائن من كان التدخل في حرية ورأي وخيار الآخرين، وهذا هو الأشق والمضني والمتعب، سيقولون لك، ومالك بكل هذا وذاك، فأنت حر في تخير ما تشاء وما تحب مما هو مبذول في هذه الوسائط، فإن لم يعجبك تركته وإن أعجبك فهذا هو المراد والمبتغى، واشد ما كل ذلك، ما صار يطلق عليهم "اللايفاتية" أي اولئك الذين ينتجون مقاطعا مصورة ليوصلوا لك بها وعبرها العجب العجاب.
ومن نكد "الوسائط" على الحر أن يرى – "هواءًا" له ما من صداقته بد فأنت حر فيما ترى وتختار، ولكن حتما سيصيبك ما اصاب جليس نافخ الكير ذاك، والذي يجلس على مقربة من حامل المسك.
مع الإعتذار لابي الطيب بشأن تشويه بيت شعره

 

آراء