diaabilalr@gmail.com -1- أعزائي القراء، اسمحوا لي أن أحدِّثكم عن شخص استثنائي بكل ما تحمل هذه الكلمة من ظلال وأبعاد. نعم، وصْف شخصٍ ما بأنه استثنائي، أصبح من الأوصاف المستهلكة والمتكررة. كلمة استثنائي، أصبحت كلمة رتيبة، لا تحفز على المعرفة، ولا تحرّض على الفضول. ما أكثر الذين كنّا نظنهم استثنائيِّين، ومع الأيام والمواقف، اكتشفنا أنهم أقل من المعتاد، وأدنى من المتوقع. ليس لديَّ خيار غير استخدام هذا الوصف، فهو على مقاس قامة الرجل، وامتداد سيرته الناضرة. قد تطّلعون على اسمه لأول مرة، وربما يقرر البعض منكم مغادرة المقال قبل إكماله. كثيرون ليس لهم من الوقت ما ينفقونه على معرفة أشخاص مجهولين لديهم. وآخرون من القراء، عازفون حتى عن معرفة أخبار النجوم في السياسة والفن والرياضة، دعك من معرفة المجهولين البعيدين عن الأضواء وبريق الشهرة في الخرطوم. -2- لو كان لاعباً ماهراً في الولايات، لوجد طريقه إلى الشهرة عبر أندية القمة. لو كان مغنياً بارعاً، لوجد طريقه إلى الشهرة في برنامج (أغاني وأغاني). لو كان سياسياً طويل اللسان، أو خفيف اليد، لعرَّفته بكم منشيتات الصحف متمرداً أو مصالحاً أو مساوماً. هو رجل سوداني وِلائيٌّ بسيط جداً في ملبسه، قليل الكلام، وإذا تحدث فهو خفيض الصوت، وعلى وجهه ابتسامة دائمة ترحب بالجميع، ابتسامة مقاومة لكل مكدرات الحياة صيفاً وخريفاً وشتاءً. ليس فيه من حيث المظهر ما يغري بالتعرف عليه. لا أذكر في طفولتي وصباي يوماً، أنني تحدثت معه بأكثر من التحية وردِّها وسؤال وإجابته: (أهلك كيف؟ كويسين). -3- عربة الكارو تحمل على ظهرها أطباق الطعام، لا تتأخر عن موعدها المعتاد. كل مرافقي المرضى بمستشفى المناقل لعشرات السنين، هم في ضيافة يوميّة على وجبة غداء، تأتي على كارو الحاج سليمان خليل في الميعاد المعلوم. مقدم الوجبة اليومية الحاج أحمد حمد مشهور بـ(أبو كابورة). لا أعرف من أين جاء اللقب، وإن كنت أرجّح أنه من إرث الطفولة. كانت البدايات بحمار أبيض على غباش، ذاك ما قبل المشروع، كان العم قسوم بلسان ثقيل وأقدام مضطربة الخطوات، يردد من أرشيف مأثوراته: (المناقل سُكنة ليس عاقل). كان أبو كابورة يتاجر بالأواني المنزلية من على صهوة حماره. شاب في مقتبل العمر، ورغم محدودية تعليمه، كان شغوفاً بالمعرفة والابتكار في منطقة سكنيّة، كل شيء فيها يحرض على الاستسلام لواقع الحال. (دنيا تتغير ودنيا أدمنت عشق الثوابت). -4- مع انطلاقة مشروع المناقل في امتداد الجزيرة، في أواخر الخمسينيات، بدا أبو كابورة في تغيير نشاطه التجاري، ليلبي متطلبات الحياة العصرية الجديدة ما بعد قيام المشروع. تحوّل نشاطه التجاري من على ظهر الحمار، إلى عربة كارو خشبي يقودها حصان. كانت تلك أول عربة كارو عرفتها المناقل والمناطق المجاورة. كانت البضائع تفرش على الأرض. أبو كابورة لم يستحسن ذلك الوضع، فقام بإنشاء أول كشك حديد بغرب الجزيرة.
مع زيادة عدد الزوار للمدينة من الغرباء والعابرين، افتتح أبو كابورة أول لكوندة بالمنطقة. حينما مرضت زوجته، ولم تجد الدواء بمستشفى المناقل، واضطرا للسفر إلى ود مدني، ما إن عادا من هناك حتى شرع في افتتاح أول صيدلية خاصة بغرب الجزيرة إلى امتداد قرى النيل الأبيض. -5- لا يوجد شيء جديد بالمناقل يربطها بالحداثة والمدنية، إلا وكان أبو كابورة أول المبادرين به والسباقين إليه. دعوا كل ما ذكرت؛ عليكم أن تعرفوا الآتي: أول استديو تصوير في المناقل أسَّسه أبو كابورة. أول عيادات خاصة بالمناقل، تم افتتاحها بمنزل أبو كابورة. أول نشاط صناعي بغرب الجزيرة في الستينيات، ابتدره أبو كابورة بإنشاء مصنع للمشروبات الغازية. أول عمارة سكنية بالمدينة من خمسة طوابق، أسّسها أبو كابورة. رأسمالي وطني صميم، قطع مشواره من (الحمارة إلى العمارة)، عبر الطرق النظيفة؛ لم يصعد عبر المواسير الصدئة، ولم يلوث لقمة عيشه بدخن الربا ودهن الغش. -6- منذ ستينيات القرن الماضي إلى الألفية الثالثة، لم ينقطع طعام الرجل عن المستشفى، ولم تكف يده عن المساكين والبسطاء، ولم يفتر عقله من إنتاج الأفكار والمشاريع الجديدة التي تتقدم فيها مصلحة الجماعة على فائدة الفرد. كان يمتع نفسه بالابتكار، ويعظم أجره بالإحسان للفقراء والمساكين، والصلاة في الصفوف الأمامية بالمسجد. كان أبو كابورة من أوائل السودانيّين، الذين زاروا بيت المقدس قبل سقوطه في أيدي الإسرائيليّين الآثمين. رحم الله ذلك الرجل الاستثنائي، الزاهد البسيط، الذي رحل قبل أيام وشيَّعَتْه المناقل صغارها وكبارها بالدموع والدعوات.