أبيي: صحوتنا أو غضبتنا.. قبل الغضب!
رباح الصادق
11 June, 2011
11 June, 2011
ralsadig@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
للأوطان ذواكر ولها أعين وآذان. ولأبيي ذاكرة خصبة تغشتها اليوم المرارة. وحجم أبيي كوطن أكبر من تلك الرقعة الصغيرة إذا قيست بمساحتها. فتراجيديا أبيي تمتد لتشمل قارة بأسرها، بل كل كوكب الأرض في منعطفات الصراع.
تختلط في تراجيديا أبيي خطوط التاريخ والحداثة والإثنية وصدام الحضارات أو حوارها. خطوط تلاقحت وتلاحقت وهطلت عليها عوامل التعرية (الإنقاذية)، وكان سوء الخاتمة التسوية الرعناء التي تم الاتفاق عليها في نيفاشا!
في كتاب ابن الناظر بابو السيد الصادق بابو نمر بعنوان: أبيي حقائق ووثائق، وهو الأول من نوعه الصادر عام 2008م، وفي كتاب البروفسر سليمان محمد الدبيلو، الأضخم والأشمل بعنوان (أبيي من شقدوم إلى لاهاي) الصادر عام 2010م، حقائق واضحة وصادمة حول تاريخ المنطقة. ربما لم يدونا الكثير حول ذاكرة أبيي السحيقة، ولكن الثابت أنه ومنذ القرن الثامن عشر حل بالمنطقة المسيرية بشقيهم حُمر وزرق، وسجل بعض الأوربيين الرحالة والإداريين إبان الاحتلال الثنائي خاصة في المجلة عالية القيمة العلمية والتوثيقية (السودان في رسائل ومدونات Sudan notes and Records) الكثير من تراث المسيرية وأن زعيمهم الروحي أبو قرون (أبو نفيسة) مدفون في المنطقة جنوب بحر العرب. إذ تقول المدونات إنهم بعد انتصارهم على ملك الشات ومطاردته جنوبا عثروا على مراعي بحر العرب الخصيبة وصاروا يرتادونها سنويا أيام الجفاف ولم يكن فيها سكان آخرين. أما قدوم الدينكا ماريق (أو نقوك أو نوك) فكان في القرن التاسع عشر ولم يكتمل إلا في القرن العشرين. تاريخ المنطقة المتفق عليه يؤكد أن المسيرية جاءوا للمنطقة أولا وأنهم كانوا يهاجرون جنوبا في أشهر الجفاف للمراعي حول بحر العرب، وإن المسيرية والدينكا أبرموا عهدا للإخاء عام 1905م وبناء عليه زاد توافد الدينكا للمنطقة التي تعتبر جزءا من دار المسيرية، وأن العلاقة تطورت من استضافة كريمة للدينكا من قبل المسيرية إلى حسن جوار مع الأيام، حتى جمعتهم المواطنة في رحم أبيي الذي ضمهم جميعا كأبناء متساوي البنوة. هذه هي خطوط التاريخ.
أما الحداثة. فنحن نعلم أن مدارس الفرنجة قد أدخلت في ديارنا أمور عجبا. لطالما قرأنا للأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي، وهو من أنبه الأقلام وأحكمها في بلادنا، وهو يتحسر على عهد تنوير فات أو انزوي منذ السبعينات وما بعدها، إنه يبحث عن تنوير أسه إصلاح معرفي ونحن نوافقه لكننا نجرؤ أن نقول إن التعليم لدينا لم يكن أبدا كما يجب حتى ذلك الذي حاز على قدر من الرضا لدى الصاوي. إن الصحراء ليست فقط في تصورات الإسلامويين المعرفية، كذلك النقل الشيئي للمعرفة الغربية سوف يوردنا المهالك وقد فعل. متعلمونا منذ بدأ التعليم الغربي ينشب أظفاره في جسد أمتنا يأخذون حفنة من سكر المعرفة ويرتشفونها في فنجان من الغرور والتعالي على مجتمعاتهم وبدلا عن البناء على خير الواقع وتطويره بالمعرفة الحديثة وتهذيبه يخلقون قطيعة مع مجتمعاتهم، وهذا أول ما أورث أبناء دينكا نقوك الاختيال! وحتى بعيدا من أثر التنصير والتفرقة الحضارية التي تبعته كما سنرى، فإنه مقابل دينق مجوك سلطان الدينكا الذي كان محبا لأخوانه المسيرية لدرجة بعيدة، والسلطان كوال أروب الذي كان أكبر معجب بالناظر علي الجلة كما قال مفتش المركز الإنجليزي في 1920! كان أحمد دينق مجوك من أوائل متعلمي دينكا نقوك الذين رفضوا العلاقة بالعرب وارادوا الالتحاق بالجنوب، ولذلك لا يستغرب أن يكون أخوه د.فرانسيس دينق الذي تنصّر (بينما أهله مسلمون وأنصار بايعوا المهدي) من السائرين في ركاب الفرقة والابتعاد عن المسيرية والتوجه جنوبا.. أبناء دينكا نقوك المتعلمون هم الذين قادوا أبيي للشقاق منذ خمسينات القرن العشرين، وكانوا في كل مرة يفشلون في جر مجتمع نقوك معهم فقد رفضوا لهم ذلك مرارا وتكرارا ووبخوهم في عام 1980م حينما حاولوا من داخل مجلس الشعب، ولكن، في النهاية نجحوا.. يتحدث البعض الآن عن بعض عقلاء داخل مجتمع نقوك لم يجرجروا خلف صيحات التفرقة والخصومة مع المسيرية، ولكن لن يغالط كثيرون أن الاتجاه العام وسط نقوك هو في الشقاق.
أما التفرقة الإثنية والخصومة الحضارية فلها أوجه عديدة في أفريقيا ليس في السودان وحده، في تشاد وفي أثيوبيا وفي نيجريا وغيرها نجد العامل الديني الإسلامي/ المسيحي متشابكا مع الإثنية ومع السياسة والحكم والعلاقات الدولية. لقد أثبت العلامة الراحل السفير عبد الهادي الصديق في كتابه القيم (السودان والأفريقانية) دور الإسلام في القارة وفي إعطائها هويتها، ثم كيف كان احتلالها منذ القرن الخامس عشر متضافرا مع الهبة البرتغالية الصليبية ولماذا انتظم الغزو كامل القارة إلا إثيوبيا لوقت طويل بسبب أنها كانت حصن النصرانية الحصين في القارة، فحيدت من هبة إفريقيا للتحرر وكانت مقر منظمة الوحدة الأفريقية/ الاتحاد الأفريقي لاحقا! تلك العلائق النصرانية هي منجاة إذن من رياح الكولونيالية الجديدة، وفي أبيي شكل جديد!
كل ذلك الذي حسبنا وزيادة لم يكن واعظا للجماعة التي تقلدت أمر بلادنا، فبعد أن جاؤا بالعصبية الإثنية والدينية وتعاليها وعنجهيتها ما نفّر الجماعات الزنجية وغير المسلمة وجلب لهم اللوبيات المتعاطفة، أخذوا من السناتور الأمريكي المتدين جون دانفورث وصفته (بروتوكول أبيي) كلها بدون لكنة واحدة! قال الدبيلو وهو يبرر لما فعله الأستاذ علي عثمان محمد طه بقبول بروتوكول أبيي إن الجميع قبل بحق تقرير المصير، مستشهدا بقرارات أسمرا للقضايا المصيرية التي أخرجها التجمع الوطني الديمقراطي في 1995م. وذلك لعب على الذقون! طالما أن أهل أبيي في شقاق فليس بغريب أن يقبل حق تقرير المصير سواء في شقدوم أو في أسمرا، ولكن الغريب أن يكون بوصفة دانفورث: تكوين لجنة أو مفوضية لأبيي من خمسة من المؤتمر الوطني وخمسة من الحركة الشعبية والقول الحكم فيها لخمسة خبراء أجانب (محايدون) وهم لا هم خبراء ولا هم محايدون بل يلعنون الخرطوم (كرئيسها السفير دونالد بيترسون) ويكون كلامهم هو الفصل الذي لا يراجع! قاد ذلك لحكمهم الجائر الذي حاولت الخرطوم التملص منه بلاهاي، وفي حكم محكمة التحكيم الدائمة بلاهاي أعطوا الخرطوم غالبية النفط، وأعلنت الخرطوم رضاها، لكن معضلة المسيرية ظلت قائمة: الأرض التي يقضون فيها ثمانية أشهر من عامهم أخذت عنهم واستعيضوا عنها بكلام إنشائي حول حقوق الرعي لا تغني ولا تسمن من جوع.. وهذا هلاك لهم ولبهائمهم.
إن ما كان من هجوم على قافلة الأمم المتحدة والجيش السوداني في يوم 19 مايو كان أمرا إدا، فقد جاء بعد يومين من المهلة المعطاة لسحب القوات تنفيذا لاتفاقي كادقلي في في 13 و 17 يناير واتفاق أبيي في 4 مارس 2011، وبعد أن قابلت لجنة الاتحاد الأفريقي والأونمس كبارات الحكم في الخرطوم (الأستاذ علي عثمان محمد طه) وجوبا (السيد سلفا كير ميارديت) وأكد الجميع الموافقة على التهدئة. هل كان إحدى حماقات أولاد أبيي داخل الحركة الشعبية لكيلا يأتي 9 يوليو وأبيي معلقة؟ وهل كان شركا من الحركة ككل للمؤتمر الوطني حتى يرتكب حماقاته الحالية إذ بلع الطعم؟ لا ندري، ولكنا ندري أن المؤتمر الوطني ارتكب فظائع في أبيي فوق الحسبان: القصف بدون تروي، المأساة الإنسانية، مقاطعة مجلس الأمن الزائر في بطن الخرطوم وبعد أن ضربت لهم المواعيد، إلغاء رحلة المجلس لأبيي بحجة عدم الأمن، الشنشنة حتى مع أقرب الأقربين داخل الحركة مثل الدكتور رياك مشار، ثم الحرب في جنوب كردفان.. ببساطة أخرجت الخرطوم (للمفتش) وجه الصندوق وكان عليها أن تتجمل! سوف تندم، هذا ما قاله السيد إدوارد لينو في مقاله (فأس من طين). وليس سرا أن المجتمع الدولي يطبخ للخرطوم في التاسع من يوليو طبخات لا تسرها.
بالطبع دائما توجد حلول (خارج الصندوق) من بينها ربما وسائل استقرار الرحل، ولكن مهما كان الحل فأمر أبيي ليس شأن المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ولا (الخبراء) بل هو شأن قاطنيها من مسيرية ودينكا نقوك وجماعات أخرى. كانت أبيي بحكم تاريخها منطقة تصل ولا تفصل بين جماعات شقي السودان شماله وجنوبه وينبغي أن يترك تحديد شكل الوصال لأهلها وأن يرفع المؤتمر الوطني والحركة الشعبية يدهما. وقبل ذلك أن يرفع المجتمع الدولي يده.
لكن طالما كان المؤتمر الوطني على رأسنا، فستكتب علينا أيام سوداء ويد المجتمع الدولي ستقود اللعبة، وربما بعد (فجر الأوديسة) على طرابلس جاءنا ضحاها في الخرطوم.. أوديسة تعني "رجل الغضب" كما جاء في رائعة هوميروس شرحا لاسم بطله الأسطوري.. وفي الخرطوم نرجو أن تكون صحوتنا مانعة ومراجعة لكل تلك الأخطاء، فإن لم تحدث صحوة المؤتمر الوطني الحاكم، ولا نظنها تحدث، فغضبتنا التي نرجو أن تكون أسبق من غضبة عالم تسوقه مصالحه لا مصالح شعبنا ولا حقوقه، مهما كانت الخطب.
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]
بسم الله الرحمن الرحيم
للأوطان ذواكر ولها أعين وآذان. ولأبيي ذاكرة خصبة تغشتها اليوم المرارة. وحجم أبيي كوطن أكبر من تلك الرقعة الصغيرة إذا قيست بمساحتها. فتراجيديا أبيي تمتد لتشمل قارة بأسرها، بل كل كوكب الأرض في منعطفات الصراع.
تختلط في تراجيديا أبيي خطوط التاريخ والحداثة والإثنية وصدام الحضارات أو حوارها. خطوط تلاقحت وتلاحقت وهطلت عليها عوامل التعرية (الإنقاذية)، وكان سوء الخاتمة التسوية الرعناء التي تم الاتفاق عليها في نيفاشا!
في كتاب ابن الناظر بابو السيد الصادق بابو نمر بعنوان: أبيي حقائق ووثائق، وهو الأول من نوعه الصادر عام 2008م، وفي كتاب البروفسر سليمان محمد الدبيلو، الأضخم والأشمل بعنوان (أبيي من شقدوم إلى لاهاي) الصادر عام 2010م، حقائق واضحة وصادمة حول تاريخ المنطقة. ربما لم يدونا الكثير حول ذاكرة أبيي السحيقة، ولكن الثابت أنه ومنذ القرن الثامن عشر حل بالمنطقة المسيرية بشقيهم حُمر وزرق، وسجل بعض الأوربيين الرحالة والإداريين إبان الاحتلال الثنائي خاصة في المجلة عالية القيمة العلمية والتوثيقية (السودان في رسائل ومدونات Sudan notes and Records) الكثير من تراث المسيرية وأن زعيمهم الروحي أبو قرون (أبو نفيسة) مدفون في المنطقة جنوب بحر العرب. إذ تقول المدونات إنهم بعد انتصارهم على ملك الشات ومطاردته جنوبا عثروا على مراعي بحر العرب الخصيبة وصاروا يرتادونها سنويا أيام الجفاف ولم يكن فيها سكان آخرين. أما قدوم الدينكا ماريق (أو نقوك أو نوك) فكان في القرن التاسع عشر ولم يكتمل إلا في القرن العشرين. تاريخ المنطقة المتفق عليه يؤكد أن المسيرية جاءوا للمنطقة أولا وأنهم كانوا يهاجرون جنوبا في أشهر الجفاف للمراعي حول بحر العرب، وإن المسيرية والدينكا أبرموا عهدا للإخاء عام 1905م وبناء عليه زاد توافد الدينكا للمنطقة التي تعتبر جزءا من دار المسيرية، وأن العلاقة تطورت من استضافة كريمة للدينكا من قبل المسيرية إلى حسن جوار مع الأيام، حتى جمعتهم المواطنة في رحم أبيي الذي ضمهم جميعا كأبناء متساوي البنوة. هذه هي خطوط التاريخ.
أما الحداثة. فنحن نعلم أن مدارس الفرنجة قد أدخلت في ديارنا أمور عجبا. لطالما قرأنا للأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي، وهو من أنبه الأقلام وأحكمها في بلادنا، وهو يتحسر على عهد تنوير فات أو انزوي منذ السبعينات وما بعدها، إنه يبحث عن تنوير أسه إصلاح معرفي ونحن نوافقه لكننا نجرؤ أن نقول إن التعليم لدينا لم يكن أبدا كما يجب حتى ذلك الذي حاز على قدر من الرضا لدى الصاوي. إن الصحراء ليست فقط في تصورات الإسلامويين المعرفية، كذلك النقل الشيئي للمعرفة الغربية سوف يوردنا المهالك وقد فعل. متعلمونا منذ بدأ التعليم الغربي ينشب أظفاره في جسد أمتنا يأخذون حفنة من سكر المعرفة ويرتشفونها في فنجان من الغرور والتعالي على مجتمعاتهم وبدلا عن البناء على خير الواقع وتطويره بالمعرفة الحديثة وتهذيبه يخلقون قطيعة مع مجتمعاتهم، وهذا أول ما أورث أبناء دينكا نقوك الاختيال! وحتى بعيدا من أثر التنصير والتفرقة الحضارية التي تبعته كما سنرى، فإنه مقابل دينق مجوك سلطان الدينكا الذي كان محبا لأخوانه المسيرية لدرجة بعيدة، والسلطان كوال أروب الذي كان أكبر معجب بالناظر علي الجلة كما قال مفتش المركز الإنجليزي في 1920! كان أحمد دينق مجوك من أوائل متعلمي دينكا نقوك الذين رفضوا العلاقة بالعرب وارادوا الالتحاق بالجنوب، ولذلك لا يستغرب أن يكون أخوه د.فرانسيس دينق الذي تنصّر (بينما أهله مسلمون وأنصار بايعوا المهدي) من السائرين في ركاب الفرقة والابتعاد عن المسيرية والتوجه جنوبا.. أبناء دينكا نقوك المتعلمون هم الذين قادوا أبيي للشقاق منذ خمسينات القرن العشرين، وكانوا في كل مرة يفشلون في جر مجتمع نقوك معهم فقد رفضوا لهم ذلك مرارا وتكرارا ووبخوهم في عام 1980م حينما حاولوا من داخل مجلس الشعب، ولكن، في النهاية نجحوا.. يتحدث البعض الآن عن بعض عقلاء داخل مجتمع نقوك لم يجرجروا خلف صيحات التفرقة والخصومة مع المسيرية، ولكن لن يغالط كثيرون أن الاتجاه العام وسط نقوك هو في الشقاق.
أما التفرقة الإثنية والخصومة الحضارية فلها أوجه عديدة في أفريقيا ليس في السودان وحده، في تشاد وفي أثيوبيا وفي نيجريا وغيرها نجد العامل الديني الإسلامي/ المسيحي متشابكا مع الإثنية ومع السياسة والحكم والعلاقات الدولية. لقد أثبت العلامة الراحل السفير عبد الهادي الصديق في كتابه القيم (السودان والأفريقانية) دور الإسلام في القارة وفي إعطائها هويتها، ثم كيف كان احتلالها منذ القرن الخامس عشر متضافرا مع الهبة البرتغالية الصليبية ولماذا انتظم الغزو كامل القارة إلا إثيوبيا لوقت طويل بسبب أنها كانت حصن النصرانية الحصين في القارة، فحيدت من هبة إفريقيا للتحرر وكانت مقر منظمة الوحدة الأفريقية/ الاتحاد الأفريقي لاحقا! تلك العلائق النصرانية هي منجاة إذن من رياح الكولونيالية الجديدة، وفي أبيي شكل جديد!
كل ذلك الذي حسبنا وزيادة لم يكن واعظا للجماعة التي تقلدت أمر بلادنا، فبعد أن جاؤا بالعصبية الإثنية والدينية وتعاليها وعنجهيتها ما نفّر الجماعات الزنجية وغير المسلمة وجلب لهم اللوبيات المتعاطفة، أخذوا من السناتور الأمريكي المتدين جون دانفورث وصفته (بروتوكول أبيي) كلها بدون لكنة واحدة! قال الدبيلو وهو يبرر لما فعله الأستاذ علي عثمان محمد طه بقبول بروتوكول أبيي إن الجميع قبل بحق تقرير المصير، مستشهدا بقرارات أسمرا للقضايا المصيرية التي أخرجها التجمع الوطني الديمقراطي في 1995م. وذلك لعب على الذقون! طالما أن أهل أبيي في شقاق فليس بغريب أن يقبل حق تقرير المصير سواء في شقدوم أو في أسمرا، ولكن الغريب أن يكون بوصفة دانفورث: تكوين لجنة أو مفوضية لأبيي من خمسة من المؤتمر الوطني وخمسة من الحركة الشعبية والقول الحكم فيها لخمسة خبراء أجانب (محايدون) وهم لا هم خبراء ولا هم محايدون بل يلعنون الخرطوم (كرئيسها السفير دونالد بيترسون) ويكون كلامهم هو الفصل الذي لا يراجع! قاد ذلك لحكمهم الجائر الذي حاولت الخرطوم التملص منه بلاهاي، وفي حكم محكمة التحكيم الدائمة بلاهاي أعطوا الخرطوم غالبية النفط، وأعلنت الخرطوم رضاها، لكن معضلة المسيرية ظلت قائمة: الأرض التي يقضون فيها ثمانية أشهر من عامهم أخذت عنهم واستعيضوا عنها بكلام إنشائي حول حقوق الرعي لا تغني ولا تسمن من جوع.. وهذا هلاك لهم ولبهائمهم.
إن ما كان من هجوم على قافلة الأمم المتحدة والجيش السوداني في يوم 19 مايو كان أمرا إدا، فقد جاء بعد يومين من المهلة المعطاة لسحب القوات تنفيذا لاتفاقي كادقلي في في 13 و 17 يناير واتفاق أبيي في 4 مارس 2011، وبعد أن قابلت لجنة الاتحاد الأفريقي والأونمس كبارات الحكم في الخرطوم (الأستاذ علي عثمان محمد طه) وجوبا (السيد سلفا كير ميارديت) وأكد الجميع الموافقة على التهدئة. هل كان إحدى حماقات أولاد أبيي داخل الحركة الشعبية لكيلا يأتي 9 يوليو وأبيي معلقة؟ وهل كان شركا من الحركة ككل للمؤتمر الوطني حتى يرتكب حماقاته الحالية إذ بلع الطعم؟ لا ندري، ولكنا ندري أن المؤتمر الوطني ارتكب فظائع في أبيي فوق الحسبان: القصف بدون تروي، المأساة الإنسانية، مقاطعة مجلس الأمن الزائر في بطن الخرطوم وبعد أن ضربت لهم المواعيد، إلغاء رحلة المجلس لأبيي بحجة عدم الأمن، الشنشنة حتى مع أقرب الأقربين داخل الحركة مثل الدكتور رياك مشار، ثم الحرب في جنوب كردفان.. ببساطة أخرجت الخرطوم (للمفتش) وجه الصندوق وكان عليها أن تتجمل! سوف تندم، هذا ما قاله السيد إدوارد لينو في مقاله (فأس من طين). وليس سرا أن المجتمع الدولي يطبخ للخرطوم في التاسع من يوليو طبخات لا تسرها.
بالطبع دائما توجد حلول (خارج الصندوق) من بينها ربما وسائل استقرار الرحل، ولكن مهما كان الحل فأمر أبيي ليس شأن المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ولا (الخبراء) بل هو شأن قاطنيها من مسيرية ودينكا نقوك وجماعات أخرى. كانت أبيي بحكم تاريخها منطقة تصل ولا تفصل بين جماعات شقي السودان شماله وجنوبه وينبغي أن يترك تحديد شكل الوصال لأهلها وأن يرفع المؤتمر الوطني والحركة الشعبية يدهما. وقبل ذلك أن يرفع المجتمع الدولي يده.
لكن طالما كان المؤتمر الوطني على رأسنا، فستكتب علينا أيام سوداء ويد المجتمع الدولي ستقود اللعبة، وربما بعد (فجر الأوديسة) على طرابلس جاءنا ضحاها في الخرطوم.. أوديسة تعني "رجل الغضب" كما جاء في رائعة هوميروس شرحا لاسم بطله الأسطوري.. وفي الخرطوم نرجو أن تكون صحوتنا مانعة ومراجعة لكل تلك الأخطاء، فإن لم تحدث صحوة المؤتمر الوطني الحاكم، ولا نظنها تحدث، فغضبتنا التي نرجو أن تكون أسبق من غضبة عالم تسوقه مصالحه لا مصالح شعبنا ولا حقوقه، مهما كانت الخطب.
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]