أزمة الفضائية إلى متى؟

 


 

 


mohamed@badawi.de
لم أتعلم قط ضرب الرمل ولا استشارة الودع، ولست أحسن التنبؤ بما سيكون في غد، ولا حظٌّ لي من القدرة على التحدث بالغيب ولا قراءة خطوط الكف ولا استنباء الورق ما سيكون. ومع ذلك ورغم هذيانها المفرط فإن فضائيتنا عزيزة علينا وأيتما معزّة - ولو لا ذلك لما سال مداد اليراع فيها ولو بكلمة واحدة – وليست هذه، كما يزعم قلّة من أولئك النفر ممن يعملون بها، حملة حقد دون معنى عليها، وأننا لنقدر جهد عامليها ومهندسيها حق التقدير، لما يبذلونه من جهود مكثفة ولما ينهضون به من مثابرة، بغية توصيل رسالة ربما هي ليست برسالتهم، وتقديم برامج، أغلب الظّن، مُليت غصبا عليهم، كما يقول المثل "مكره أخاك لا بطل". كثر الحديث وتلاطمت أمواج "الثرثرة" على أزمة الفضائية السودانية، ونحن ما زلنا نحسّ أن ٩٠٪ من برامجها ما هي إلا ابتلاء من ابتلاءات يوم مفعم بثقله، يقتحم عالم المواطن السوداني البسيط من أوسع أبوابه. إن حاج التوم ومن معه من أهل السودان ما زالوا يعلقون كل آمالهم ليروا فضائيتهم نجما ساطعا يدور في مدارات فضائيات العالم العربي، وليس الأمر بصعب ولكل مجتهد نصيب والأمثلة كثيرة. لكن للأسف، فما يفتأ هذا الحلم إلا أن يتبدد في خضم واقع بغيض سدا، وترجع حليمة إلى قديمها لتقول: إن الفضائية السودانية تزداد يوما بعد يوم فقرا وقفرا وهل هذه هي بداية النهاية التي لا نتمناها لها؟ للأسف، هناك بعض السياسات التي تقف عائقا أمام إبداع خلّاق وحيوية ثرّة فيظل "محبوسا في العِلب إلى أن يحين الطلب"، ومن أسباب تواضع الأفكار وتقلص الإبداع بها، دون التطرق إلى علمية العمل الإعلامي ومنهجية التطبيق البرامجي، علّه يكمن في تفشي روح الخوف والحذر نظرا لتواجد عناصر أمنية وبسبب تشديد الرقابة الصارمة التي توئد بل وتبتر وتقص بلا رحمة كلما لا يتماشى وتوجّهات الأنظمة الحاكمة على مدى السنين، وهذه أسباب جديرة بأن نطلق عليها لقب "قاتلات الإبداع". الحقيقة المرّة، لم يولد التلفزيون السوداني بالأمس، فهو مؤسسة عريقة منذ زمن الاستقلال، لكنه آل إلى التصدع حاله حال كل هيئات ومؤسسات البلد، إذ إننا نُجَابه ظاهرة عامة لانهيار كل المؤسسات الحكومية والخدمية وتلك مرآة تعكس تدهور الحال السائد في جلّ المجالات، في التعليم والصحة والثقافة والرياضة، فإلى أين نسير يا صحابي والأمم قد بلغت المريخ؟ أهل يوجد مرتبة أقل من "أسفل السافلين"؟ خطورة الأمر تكمن في أن الفضائية هي نافذتنا للعالم الخارجي، يعنى هي وسيلة الإشهار ربما الوحيدة للدعاية عن البلد وعن وحضارته، وذاك سلاح ذو حدين. قال أحد رجال الأعمال من بلاد العم سام في هذا السياق جملة شهيرة: "لو بقي معي من رأس المال ١٠٠ دولارا فقط، لأنفقت منها ٩٠ دولارا للدعاية"، وهذه العبارة البسيطة تعكس مدى أهمية العمل الإعلامي لدولة كالسودان الذي هو بمثابة مرآة للحضارة وسفيرة لثقافاته المتنوعة. إذا لا يجب أن تكون هذه الدعاية مكرسة – كما هي الحال الآن – كأداة لترويج واشهار رسائل الحكام، إن صُلحت أو طلُحت، ناهيك عن السب والشتيمة وارهاب الرأي العام وبين هذا وذاك، حصص ودروس البروبقاندا "لاحسة العقول" والتي تستخف بعقول الأخرين ببرامج هائفة وعبارات جوفاء (كأرضنا طاهرة) (وخيرها كثير) الخ، لعمري إن هذا لحديث بيزنطي وذاك خطاب عديم المضمون لا يسمن ولا يغني من جوع.
نسمع منذ زمن بعيد أن الخزائن الفارغة هي السبب في دونية العمل ونحن نقول: على رسلكم يا سادة يا كرام، ليس هذا هو بيت القصيد، لكن لعله سوء إدارة المال العام وتوجيهه لأغراض تُهضم فيها حقوق المواطن في الثقافة وتنفق لأمور متعلقة بالحرب، باردة كانت أم ساخنة، فيزداد اجيجهما بين أهل البلد الواحد كما هي الحال في أحداث الانفصال التي ما زلنا نعيشها واقعا ملموسا في الفضائية. منذ التسعينات وإلى يومنا هذا لم نحسّ تغييرا ملموسا في سياسة ومنهجية عمل الفضائية السودانية بصورة تواكب روح العصر وما يطلبه المشاهد داخل وخارج السودان. ولنذكر مثال بسيط لرجل بسيط لم يفهم التخبط في طريقة البث والحشو الفارغ للفقرات أينما كانت وكيفما جاءت: كنت أجلس مع حاج التوم تحت ظلّ نيمة بيته قبل المغارب عندما كنت مارّا بداره، فدعاني للجلوس وتبادل الأخبار. كان ممسكا بيده راديو ترانستور ويسمع نشرة الأخبار. قلت له:
- الحكاية شنو يا حاج التوم، قلبت راديو بعد ما كنت من عشاق التلفزيون؟
- لا يا ولدي، والله أنا زولا وطني خالص، وبموت في مشاهدة تلفزيون السودان ...
- أه الجديد شنو في البرامج؟ لأني أنا حقيقة ما زول تلفزيون يا حاج التوم.
- الليلة ديك بعد ما حضرت برنامج د. عبدالرحمن "الرحيق المختوم"، وكان موضوع الحلقة عن أعظم سور القران الكريم، سورة البقرة وفضلها الكبير لمن الواحد يتهجّد بيها، تووووووش بعد نهاية البرنامج مباشرة وبدون أي "بريك" خشَّ برنامج "كل الجمال"؛ طوالى اتذكرت ليك الواحد لمن يطلع من حوليّة ومباشرة يلقى ليهو حفلة مدورة ويخش توووووش يسكسك فى نصها، سكسكة لي ربّ السما.
-  في برنامج كل الجمال جابوا لينا فيه فنانين عليَّ النعمة أنا وبصوتي الشين دا أغنى أحسن منهم، بالله يا ولدي ديل بقوا فنانين كيفن؟ والله كل الجمال ده ما فيهو حِتة جمال يا ولديّ ... ده لحم راس سااااااااااااااااااااي!
حاج التوم يلخص المشكلة حسب فكره ومستوى تعليمه، لكن تلك عبارات صريحة تقول بأن التلفزيون فشل في اختراق أفئدة الناس داخل وخارج السودان من خلال خلق برامج جاذبة، تضم كل شرائح المجتمع وتساعد في تقريب وجهات النظر بين أهل السودان جمعا، فباتت الفضائية آلة للإعلام الرسمي والحكومي، فتجاهلت الكم الهائل للثقافات المتعددة التي تذخر بها البلاد وكما تناست مهمتها ورسالتها النبيلة في توصيل مضامين تعليمية لصغارنا وشبابنا. ليست الصور التراثية القليلة التي تبثها بين الفقرات هل الحل الناجع في تقديم تلك الثقافات ودورها الفاعل داخل بوتقة النسيج الاجتماعي بالسودان، وما هذا إلى تضليل للحقائق ودفن الرأس في الرمل واستسهال الأمر والنوم على القفا "آكلين بعقل الناس حلاوة". ربما يجد التلفزيون القومي ضالته عندما يستند لباحثين ومستشارين مؤهلين في مجالات العمل الإعلامي الجاد، لكي يخرج من النمط التقليدي الذي ينحصر في الأدب والشعر والموسيقي - التي لم تخرج من نمطها التقليدي العام والمكرور إلى الآن. يجب أن تدخل الفضائية عالم التجربة بإدخال أنماط جديدة تشمل برامج تعليمية للصغار والكبار تستند إلى أسس علمية قويمة، ومن ثمّ أدخال برامج على سبيل المثال، للأزياء و الأطعمة السودانية والقطاعات الرعوية وعن اللهجات والمآثر التاريخية وتوضيح أهمية تاريخ السودان المتمثلة في مملكة مروي؛ انطلاقا من برامج الفضائية عن مروي مثلا كيف يمكن لأحد أن يعرف هذا الحقبة التاريخية الهامة من تاريخ الأمة؛ نرى الصور كل يوم لكن دون المضمون، وأخيرا لا بد من إخراج الكاميرا من حيز العاصمة إلى الولايات والأقاليم، وإيصال المشاهد إلى أصل الثقافة السودانية. ربما تكون هذه خطوة في الاتجاه السليم!

 

آراء