أعذبُ الشِّعرِ أكذبه: كيف؟ ولماذا؟

 


 

 

 

لغة الشعر لغة مفارِقة، بمعنى أنها لغة مجاز في الأساس، وليست لغة المنطق العادي. فهي لغة لها خصوصيتها. لذلك لا يجوز لنا أن نحاكم العبارة الشعرية بلغة العلم والمعايير العادية لمنطق الكلام والنثر التواصلي. وقد قالت العرب قديما: أعذب الشعر أكذبه. وهم لا يعنون بالكذب هنا الكذب الأخلاقي المنهي عنه، ولكنهم يعنون المبالغة في التصوير والتمثيل البلاغي واستخدام المجاز. وكلما أوغل الشاعر وأغرب في التصوير المجازي كلما كان وقع كلماته أبلغ في النفس وأشد أثرا.

فحين يقول القائل (في حفل تأبين) مثلا: هذا الشبل من ذاك الأسد، فهو قد تحدث بلغة الشعر ولا يعني بذلك شبلا وأسدا بعينهما، فلا يجوز لنا أن نسأله يأتينا بأسد حقيقي. فهو إنما قصد إلى تصوير شجاعة وبسالة الممدوح. وحين يقول الشاعر مثلا:
هو البحرُ من أي النواحي أتيته * فلجته المعروف والجود ساحلُه
فهو لا يتحدث عن بحر حقيقي، لكنه يتحدث عن بحر مجازي. فهو يرمي إلى تصوير وتمثيل كرم وسماحة الممدوح. وقس على ذلك إلى ما لانهاية.
ويفيض شعرنا الوطني ويحتشد بأبلغ الصور الشعرية الساحرة التي إن حاكمناها بلغة المنطق والكلام التواصلي، غدت بلا معنى. مثلا يقول شاعر "الحقيبة": "البان يتعلم من قامتك الميسان". فبلغة المنطق العادي، هذا غير صحيح، ولكنها المبالغة في التصوير. أو حين يقول آخر: "ظلموك لو قالوا ليك الدّر شبيه أسنانكِ". فمن حيث الحقيقة، الدر هو المظلوم بهذا التشبيه! وهذا الضرب من البيان الشعري يسمى في علوم البلاغة: (التشبيه المقلوب) وهو أن تعكس الآية، وتجعل المشبه، مشبها به.
بلا أدنى ريب، كل ما ذُكِر من البدهيات، أو من قبيل المعلوم بالضرورة، بمصطلح المنطق الفلسفي، إن شئت. والمثل يقول: Gentle men shouldn’t discuss the common sense
غير أن ما حفزني على هذه الكلمة، ما ظللنا نسمعه منذ أيام الطلب بالجامعة من أن شاعر النشيد الوطني الخالد: (اليوم نرفع راية استقلالنا) قد خالف الحقيقة التاريخية، عندما حوّل الهزيمة في معركة "كرري" إلى نصر، وذلك بقوله:

كرري تحدث عن رجالِ كالأسود الضارية
خاضوا اللهيبَ وشتتوا كتل الغزاة الباغية
ما لان فرسان لنا بل فرّ جمعُ الطاغية

هذا تصوير شعري وليس تسجيلا لوقائع تاريخية، وعلينا أن ننظر إليه بعين الشعر. فالقصيدة ليست وثيقة تاريخية ولا ينبغي لها، ومن أراد وقائع التاريخ فلها مظانها المعروفة. بل القصيدة تمجيد شعري ونفسي لشجاعة الرجال الذين واجهوا بصدورهم المفتوحة بكل ثبات، أحدث الأسلحة الفتاكة في ذلك الزمان، والذين شهد ببسالتهم العدو نفسه.
وعلى أسوأ الفروض يمكنا أن نصف هذا التصوير بأنه "شطحة" شعرية، ولكن لا يجوز لنا بأية حال من الأحوال، أن نحكم عليه بأنه كذبة، بالمعنى العادي أو الأخلاقي لكلمة كذب، حتى نتخذ ذلك ذريعة للتقليل من تفاعل الناس مع هذا النشيد. وقديما قيل: يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره.

abusara21@gmail.com
//////////////

 

آراء