أعمال الحفريات في ميناء سواكن على البحر الأحمر إبان العصور الوسطى بالسودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
23 December, 2023
23 December, 2023
Excavations at the medieval Red Sea Port of Suakin, Sudan
كولين برين، وويس فورسايث، ولورنس سميث، ومايكل ماليسون
Colin Breen, Wes Forsythe, Laurence Smith & Michael Mallison
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لأهم ما ورد في مقال نُشِرَ في العدد الثاني من المجلد 46 لمجلة آزانيا Azania (المتخصصة في الأبحاث الآثارية بأفريقيا)، صفحات 205 – 220. ويتناول المقال جزءاً من نتائج الحفريات الأثرية التي أجراها فريق بريطاني متخصص في الآثار ضمن مشروع متكامل عن آثار سواكن ومعمارها والحفاظ عليه. وكان ذلك العمل قد بدأ في عام 2002م، بعد عقود من الإهمال والتجاهل.
وكُتَّاب المقال من مدرسة علوم البيئة بجامعة أولستر Ulster، وجامعة كمبردج، ومكتب هندسي / معماري خاص، على التوالي. ويحوي مقالهم عدداً من الصور التاريخية والرسومات المعمارية، منها على سبيل المثال الحوش الخلفي لـ "بيت الباشا" وقطع خزفية من القرنين الخامس عشر والسادس عشر وُجدت في تلك الحفريات الأثرية؛ وخريطة بيانية للطابق الأول من ذلك المبنى.
تعرض المؤرخ محمد إبراهيم أبو سليم لتاريخ "بيت الباشا" في هذا المقال القصير (https://shorturl.at/iRSWZ)
المترجم
*********** *********** ***********
1/ ذكر كُتَّاب الورقة في المقدمة نبذة تاريخية مختصرة عن تاريخ سواكن، وكيف أنها كانت الميناء والمدينة الأهم في هذه المنطقة عبر سنوات الألفية الثانية بعد الميلاد، وأنها أكثر المواقع شهرةً وغموضاً في شرق السودان، وحُكِيَتْ عنها الكثير من القصص الشعبية والخرافات، التي رسخت صورتها في جائِشَة وروح (psyche) المنطقة بأكملها. وبدأت سواكن في التدهور مع إنشاء ميناء بورتسودان في ثلاثينيات القرن الماضي، وهجرها سكانها وتهدمت مبانيها. وبدأت منذ السبعينيات محاولات مترددة للمحافظة على ما تبقى من مباني المدينة. وفي عام 2002 بدأ "مشروع سواكن" الذي يهدف لإجراء أبحاث علمية، والحفاظ على المباني القديمة بالمدينة. وجمع المشروع علماء في علوم الاثار والبيئة والمعمار من جامعات الخرطوم وكمبردج وأولستر ولندن (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية). وتم حتى الآن (أي عام كتابة المقال في 2011م) إجراء حفريات اختبارية في جميع أنحاء جزيرة سواكن لتقييم إمكانات وجود مواد أثرية مدفونة، ودراسة طبيعتها علمياً. ولم تُجْرَ – حتى الآن - تدخلات باستخدام طرق الحفاظ المختلفة إلا بشكل محدود فقط، وشمل ذلك إعادة بناء مسجد وأجزاء من بيت يقع على الشواطئ الشرقية للجزيرة. وتتعلق هذه الورقة في الأساس بأعمال الحفريات الأثرية في مبنى يسمى "بيت الباشا". وكان جان بيير قرين لو هو أول من تعرف على "بيت الباشا" بحسبانه واحداً من أقدم المباني بالمدينة، إذ يرجع تاريخه إلى القرنين الرابع عشر أو الخامس عشر (ذكر أبو سليم أن ذلك البيت قد بُني في 1815م. المترجم). ورغم أن الكتاب الذي أصدره قرين لو غني بالرسومات ولا غنى للباحثين عنه، إلا أن بعض الباحثين اللاحقين انتقدوه بدعوى أن كثيراً من رسوماته كانت فَرْضِيّة / حدسية (conjectural)، وبحوثه شَظَوِيّة مجزأة تفتقر إلى إحالات مرجعية. لذا هدف "مشروع سواكن" للتركيز على مبنى "بيت الباشا" لجمع معلومات عن أوائل من سكنوا هذه الجزيرة، والقاء ضوء على الاستيطان والنشاط إبان العصور الوسطى في هذه المنطقة.
2/ تناول الكُتَّاب بعض الملامح الجغرافية والتاريخية لجزيرة سواكن. ومن ضمن ما ذكره عن سواكن أنها "توفر مرسىً محمياً على ساحل غير مضياف. وتعتبر مداخلها آمنة وسهلة نسبيا للملاحة بالنسبة للسفن الشراعية الخشبية ذات الغاطس الضحل، التي تتراوح بين قوارب وسفن الصيد المحلية الصغيرة إلى السفن الأوروبية الأكبر حجماً التي تبحر في المحيطات". وذكر كُتَّاب الورقة أنه كانت هناك في العهد الروماني خمسة موانئ على الساحل الغربي للبحر الأحمر، منها ثلاثة في مصر (هي كليزما Clysma على رأس خليج السويس؛ وميوس هورموس التي عرفت بمدينة القُصيرالقديمة وميناء برنيس Berenike؛ ورابعها هو ميناء عدوليس Aduli في أرتيريا؛ وخامسها هو مدينة Ptolemais Theron التي أسسها بطليموس، والتي يُعْتَقَدُ بأنها كانت تقع على ساحل السودان. ومع التخلي عن مينائي برنيس وعدوليس في القرنين الخامس والثامن الميلادي، على التوالي، صعد نجم مينائي عيذاب وبادي على الساحل السوداني. وعزا بعض الباحثين ذلك الصعود للتوسع الكبير في النشاط التجاري في تلك المنطقة، وللمناورات السياسية التي هدفت لمنافسة القوة البحرية لإمبراطورية أكسوم (بأثيوبيا). وقد أُجري بحث أثري محدود في هذه الموانئ التي تعود إلى العصر الإسلامي، ولا يزال هناك عمل كبير يتعين القيام به بشأن الطابع العام لساحل البحر الأحمر بالسودان إبان القرون الوسطى. وذكر الكثير من المعلقين أن موقع سواكن هو ذات موقع ميناء إيفانجيلون بورتوس (Evangelon Portus) الروماني الذي ذكره بطليموس. غير أنه لم يُعثر بعد على أي دليل آثاري على صحة هذا الافتراض. وزعم البعض أن التجويف/ الحوض (cistern) المبني بالطوب الذي عُثر عليه في الجزيرة هو من العصر الروماني، غير أن أبحاثاً حديثة أثبتت أنه من العصر الإسلامي. وتزايد في القرن التاسع الميلادي نشاط خارجي في تجارة الذهب بمنطقة تلال البحر الأحمر، أفضى لصدام بين مجموعات من المنقبين ورجال البجا، الذين كانوا يقطنون تلك المنطقة منذ قرون. ووافق البجا في معاهدة أبرمت في عام831 على عدم المساس بالمساجد في أماكن محددة عديدة، في مقابل السماح لهم بالعبور الآمن إلى مصر (1).
3/ تناول الكُتَّاب بعض الملامح التاريخية القديمة لجزيرة سواكن، وذكروا أن المسعودي (2) كان هو من وثق لأول استيطان في سواكن، ووصفوا سكانها بأنهم من "بجا الحسا Hassa Beja" يدينون بالإسلام. وأشاروا أيضاً لطرق التعدين الممتدة من شنكير Shenkir بالقرب من النيل، إلى موانئ سواكن وبادي وأرخبيل دهلك (في أرتيريا). ومع حلول القرن الثاني عشر غدا ميناء سواكن ميناءً مشهوراً. وسجل التاجر "أبو الخيرات" في عام 1132م أنه أشترى أقمشة من الهند إنابة عن تاجر يهودي في القاهرة، وسافر بها إلى عدن (حيث ابتاع أيضاً أخشاب برازيلية وقرفة وراوَند rhubarb)، وأرسلها جميعا إلى مصر عبر ميناء سواكن، التي باع فيها 20 حبلاً سدد بقيمتها ما عليه من جمارك (بلغت 10 دنانير مصرية). وفي عام 1213م وصف شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الحموي المدينة "الشهيرة" سواكن بأنها ميناء تأتي إليه السفن من جدة، ووصف أهلها بأنهم من "المسيحيين البجا". ومع توسع دورها في تجارة البحر الأحمر، شرعت القوى الاقتصادية الأكبر في المنطقة في التعامل سياسياً مع الميناء. ففي عام 1264م هاجم حاكم قوص (3) سواكن بعد أن اشتكى بعض التجار للقاهرة من مضايقات تعرضوا لها من سكان سواكن. وكانت سواكن في ذلك الوقت تخضع – للمرة الأولى - رسمياً للإدارة المصرية. وذكر ابن فضل الله العمري في عام 1320 أو نحوها، بأن كل سكان سواكن هم من المسلمين، وأن حاكمها هو الشريف زياد بن أبو نمي الحسني، وهو ابن أمير سابق لمكة (4). وكان ابن بطوطة قد أتى أيضاً على ذكر الشريف زياد بعد زيارته لسواكن في 1320م؛ وكتب ما يفيد بأن سواكن: "جزيرة كبيرة تقع على بعد ستة أميال من الساحل، وليس بها ماء أو حبوب أو أشجار؛ ويأتيها الماء بالقوارب، وبها خزان تتجمع فيه مياه الأمطار. وبها أيضاً لحم النعام والغزلان والحمر الوحشية، وفيها الكثير من الماعز مع اللبن والسمن، وكانت كلها تصدر إلى مكة. وطعامهم الأساسي هو عصيدة من حبيبات الدخن المهروس؛ والدخن هو أيضاً مما يُصدر لمكة. وعندما زرتها كان سلطانها هو ابن أمير مكة. وأخذنا سفينة من سواكن إلى اليمن". وكان ابن بطوطة قد سجل هذه المذكرات بعد سنوات طويلة من زيارته لسواكن، وربما يكون قد نسي بعض التفاصيل، مثل قوله عن موقعها أنها تبعد ستة أميال (نحو 10 كيلومتر) عن الساحل. وفي القرن الخامس عشر كانت سواكن هي الميناء الذي يركب منه حجاج شمال أفريقيا البواخر لمكة عبر ميناء جدة، التي يحكمها سلطان مسلم يتبع لملك حماسين /همسين Hamsen (بالقرب من أسمرا). وفي ذات الوقت كانت سواكن محطة مغادرة إلى القدس بالنسبة لحجاج الحبشة المسيحيين. وعند نهاية ذلك القرن سيطر مماليك مصر على سواكن مجدداً، لكنها أصبحت مندمجة في المجال الاقتصادي والثقافي الأوسع لسلطنة الفونج (التي اتخذت من سنار عاصمةً لها) بعد أن قامت مع بداية العقد في القرن السادس عشر (1504 – 1821م). وعلى الرغم من غموض العلاقة بين سواكن وسلطنة الفونج، إلا أن السيطرة على الميناء كانت فيما يبدو تتقلب وتتغير في غضون القرنين التاليين، مع وجود تأثير ونفوذ دائم لسلطنة الفونج على سياسة الجزيرة، إذ كانت تلك السلطنة تحصل على جزء مما تجنيه الميناء من جمارك وصفقات تجارية. وبعد أن أخفق البرتغاليون على السيطرة على البحر الأحمر، تنازلوا عن سواكن للعثمانيين في عام 1517م، رغم أنها احتفظت بنوع من الحكم الذاتي. وفي عام 1555م سيطرت حملة عثمانية أخرى على سواكن، وصار أوزدمير باشا أول حاكم عثماني على مديرية عثمانية كانت عاصمتها هي سواكن. ولم تثن سيطرة العثمانيين على سواكن قوى أخرى من محاولة السيطرة عليها. فقد كان البرتغاليون يحاولون – دون جدوى – السيطرة على سواكن، وظل قادة البجا والفونج يسعون للحصول على نصيب من ريع اقتصاد المدينة وأربحاها التجارية. وكان عتمان باشا (ابن أوزدمير باشا) قد كتب في مايو 1564 عن تمردٍ لبدويين أفلح في السيطرة على مصادر المياه التي كانت تأتي لسواكن، وطالب في رسالته بعون عسكري لإزالة ذلك التهديد. وأفلح عتمان باشا بعد سبعة أعوام على تلك الحادثة في صد هجوم للبجا بعد أن طلب من الولاة المصريين النظاميين (المعينين خصيصاً للمنصب من قبل السلطان العثماني) إرسال أسلحة وذخائر للقلعة العثمانية في سواكن. ودارت عدة معارك حربية ومناورات سياسية بسواكن في القرن السادس عشر حتى استقرت السيطرة الكاملة للعثمانيين على الجزيرة.
4/ أما فيما يتعلق بالحفريات الأثرية في "بيت الباشا"، فقد جاء في الورقة أن ذلك البيت الآن هو في حالة مزرية من التقويض والتهديم. فقد انهارت كل جدرانه، وغدا كومةً من الأنقاض. وقام بعض الخبراء بدراسة ذلك البيت بحسبانه أول بيت بني في سواكن (بحسب ما جاء في كتابي قرين لو البريطاني وهنكل الألماني (5)، ولأنه بُني بهندسة معمارية تختلف عن تلك المباني التي شيدت بالجزيرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولإنه شُيد في وسط الجزيرة بالقرب من مسجدي المدينة.
تناول الكاتب بتفصيل شديد عدداً من المسائل الهندسية المعمارية (المعقدة) للمبنى، ونتائج دراسات استخدمت فيها الكربون المشع بعد أن أزيلت من أرضه بعض أكوام الأنقاض. واعتمدوا في ذلك على ما جاء في مسح باكر قام به قرين لو، وعلى نتائج ورقة علمية قام بها فريق بحثي مكون من 27 باحثاً ونُشِرَتْ في مجلة Radiocarbon. يقع مدخل "بيت الباشا" في أقصى جداره الشمالي، ويقود إلى دهليز. وهناك نافذتان بالجزء الشرقي من البيت توفران الإضاءة في مدخل البيت. وهناك باب يقود من الدهليز إلى غرفة واسعة، ربما كانت تستخدم مخزناً. وهناك بئر سلم يتيح الوصول إلى الطابق الأول، وإلى فناء صغير، بينما يقود ممر آخر إلى مرحاض ودرج يؤدي للطابق الأول.
5/ وفي جزء "المناقشة" بالمقال، ذكر مؤلفو الورقة أن الحفريات الآثارية التي قاموا بها ساهمت – رغم محدوديتها – في توفير الكثير من المعلومات عن التطور الزمني للاستيطان بجزيرة سواكن. وإلى الآن لا يوجد دليل موثوق على أي نشاط فيها إبان العصر الروماني. وتشير كل الدلائل إلى أن أول استيطان بشري للجزيرة كان في بدايات القرن الحادي عشر. وشهدت الألفيتان الأخيرتان تغيرات كبيرة في البيئة المحيطة بالجزيرة، وتشير كثير من الدلائل القوية على حدوث حركات استيطان سابقة في الجزيرة. وسيستكشف المزيد عن الاستيطان في المناطق الساحلية حول الجزيرة الحالية. وتشير الرواسب الأثرية إبان القرون التالية إلى تكثيف النشاط في الجزيرة. وبحلول القرن الرابع عشر، تم إنشاء منطقة مركزية لإعداد الطعام في هذا الموقع الذي كان يقع بالجزء المركزي من الجزيرة، وهو أيضاً مكانها الرئيسي. فلا عجب إذن أن كانت تلك المنطقة المركزية تشتغل بإنتاج المواد الغذائية وتصنيع الحبوب على نطاق واسع، حيث أن احتياجات الميناء وهو ينمو غدت متنوعة وواسعة النطاق. وعلى وجه الخصوص، فقد كان التدفق المستمر لأطقم السفن والتجار والحجاج الزائرين سيتطلب استجابةً لطلب واسع النطاق للمواد الغذائية. ومع وصول العثمانيين للجزيرة في بدايات القرن السادس عشر تغير نوع النشاط الذي كان يُمَارَسُ في المنطقة المركزية بالجزيرة من نشاط مجتمعي عام إلى نشاط حصري وأكثر نخبوية. ونشطت في بدايات ذلك القرن أعمال البناء بالحجارة، وشِيدَ "بيت الباشا" في منتصفه. وأعقب ذلك انتشار كبير لاستخدام الحجارة في بناء البيوت. ولعل "بيت الباشا" كان المركز الإداري للنخبة العثمانية بوسط المدينة. وتطور المخطط الحضري لسواكن في تلك الفترة مستخدماً نسقاً وطرقاً إسلامية نموذجية، مع منطقة مركزية أقيمت حول المساجد، ومباني للنخب التجارية والإدارية. وكانت سواكن آنذاك خاضعة للعديد من التأثيرات الثقافية. وظهرت بالجزيرة منطقة تجارية حصرية يقطنها أو يقدم عليها الزوار من مختلف المناطق بالبحر الأحمر، بل ومن مناطق أبعد. وغدت الجزيرة أيضا مركزاً للنشاط الكلولونيالي والإداري الخارجي. وساهم كل من الفونج والعثمانيين والبريطانيين، كل بدوره، في تنمية وتطوير الجزيرة بما يتوافق مع أفكارهم الخاصة حول التنمية الحضرية. فأقيمت بالجزيرة سلسلة من المباني التي استخدمت لإدارة شؤونها الإدارية، وبُنِيَتْ عدد من القلاع والمنشآت العسكرية من أجل الدفاع عنها.
لقد كانت الجزيرة في كل العهود تقريباً مكاناً منفصلاً، معزولًا (بالمعنى المادي والمجازي) عن البر الرئيسي. وكانت تمثل مساحة نخبوية، تشارك في المقام الأول في تسهيل التدفقات الاقتصادية، وتقوم بإدخال عدد لا يحصى من السلع والهويات. ومن هنا عملت سواكن بحسبانها حلقة وصل بين طرق القوافل الداخلية والموانئ على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، بالإضافة إلى مناطق أبعد في المحيط الهندي. وسهلت سواكن طرق الحج (للمسلمين إلى مكة، والمسيحيين إلى القدس)، وسمحت بحركة مستمرة للبضائع التجارية في كل المناطق بصورة عامة.
وتوسعت أعمال الحفريات منذ حوالي عام 2007م إلى المنطقة المفتوحة إلى الجنوب بنحو 20 متراً جنوب غرب الحريم (Harim)، و10 متراً إلى جهة شمال الجدار الخلفي لمنزل الشناوي بيه (6) الأحدث. هنا تم فيه فحص مساحة قدرها 4 X 6 متر عبر موسمين. ووضح أن تلك المساحة كانت قد استخدمت منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى نهايته كمكبات للقمامة، كان عمقها يصل في بعض الأحايين إلى متر ونصف في بعض الأماكن.
وبحلول القرن الخامس عشر، كانت تلك المنطقة التي تم الاستيطان فيها تتميز بنشاط بشري كثيف، خاصةً في كل ما يتعلق بإعداد الأطعمة. فقد وجدت فيها في مستويات القرنين الخامس عشر والسادس عشر نحو 10 كيلوجرامات من العظام (خاصة عظام المعز، وبعض الأسماك)، وقشور الرخويات، وبقايا أواني الطبخ (مثل القدور الفخارية وحجارة الطحن والمسن / الشحذ). وتناقصت تلك الكمية في مستويات القرنين الثالث عشر والرابع عشر إلى ما يزيد قليلاً على 4 كيلوجرامات.
وتناقص النشاط في المنطقة في الجزء الباكر من القرن السادس عشر، وظهرت بها مبانٍ لأول مرة في التَصْويرٌ الطِباقِي stratigraphy (7). وفي حين لا يمكن اعتبار وجود أخدود / خندق trench في المدينة بمثابة بيان نهائي عن النشاط الثقافي في جميع أنحاء المدينة، فهو يمثل التسلسل العام للمستوطنة ووجود المباني في الجزيرة. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن كلاً من هذا الخندق وحفرة الاختبار (test pit) في الجزء الداخلي من المنزل يظهران بوضوح إدخال البناء الحجري في العقود الأولى من القرن السادس عشر. ويمكن للمرء أن يربط بين الظهور الرسمي للوجود العثماني في المنطقة إبان العقد الثاني من القرن باعتباره حافزاً للبناء بعد عقود من الاستقلال ووجود الفونج في الميناء.
ولا يمكن ذكر الكثير عن ذلك المَعْلَم المعماري (بيت الباشا) سوى أن ارتفاعه يبلغ في الوقت الراهن ثلاث طبقات، وكان مبنياً بحجارة مرجانية لُصِقَتْ ببعضها بملاط (مونة) رملي، ربما تمثل المستوى الأساسي للجدار الخلفي للمبنى، أو معلما لحدوده. وفي كلتا الحالتين، تمت تسويته لاحقاً، ربما في القرن الثامن عشر، عندما تم وضع سطح /"ساحة yard" مضغوطة بقوة فوق ذلك الجزء من الخندق. وكانت مستويات القرن السادس عشر لبيت الباشا تحتوي كذلك على زيادة ملحوظة في الأواني الخزفية المزججة المستوردة، التي كانت تمثل نحو 31٪ من إجمالي ما تم جمعه total assemblage (أورد الكتاب هنا صورة لواحدة وثلاثين قطعة من بقايا الأواني الخزفية بسواكن في غضون القرن الخامس عشر وبدايات القرن التاسع عشر، التي عثر عليها في حفريات "بيت الباشا").
************ ************ ************
إحالات مرجعية
1/ استند الكُتاب هنا على كتيب بعنوان "Medieval Nubia" بقلم عالم الآثار البريطاني بيتر لويس شيني P.L. Shinnie (1915 – 2007م) ومن إصدار "مصلحة الاثار السودانية" عام 1954م. https://shorturl.at/vEQTW
2/ أبو الحسن المسعودي (~896 - 957م) هو مؤرخ وجغرافي ورائد نظرية الانحراف الوراثي. وهو من أشهر العلماء العرب، ويعرف بهيرودوتس العرب https://shorturl.at/dkwBS
3/ تقع قوص على الشط الشرقي للنيل في محافظة قنا بمصر، وكانت في الماضي مركزاً تجاريا مهماً. وبها عدد من المساجد العتيقة والآثار الفرعونية.
4/ للمزيد عن شهاب الدين العمري وأمير مكة أبو نمي الحسني انظر الرابطين https://shorturl.at/hkuU4 و https://shorturl.at/dzGX1
5/ لجان بيير قرين لو كتاب مشهور عن سواكن عنوانه: The Coral Buildings of Suakin، ولهنكل كتاب عنها صدر بعنوان: The Archeological map of the Sudan: Red Sea Coast… .
6/ للمزيد عن "بيت الشناوي" بسواكن يمكن النظر في هذا الرابط: https://shorturl.at/qLX12
7 / بحسب موسوعة الويكيبديا فعلم طبقات الأرض (ويُعرف كذلك باسم علم "دراسة طبقات الأرض" أو السِّدَاكة) هو علم يهتم بدراسة القوانين والظروف المختلفة التي تتحكم في تكوين طبقات الصخور في السلم الجيولوجي، وأماكن ترسيبها في مختلف مناطق العالم، ويحدد أنواعها وخصائصها الصخرية وأعمارها، مع تركيز خاص على الصخور الرسوبية.
alibadreldin@hotmail.com
كولين برين، وويس فورسايث، ولورنس سميث، ومايكل ماليسون
Colin Breen, Wes Forsythe, Laurence Smith & Michael Mallison
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لأهم ما ورد في مقال نُشِرَ في العدد الثاني من المجلد 46 لمجلة آزانيا Azania (المتخصصة في الأبحاث الآثارية بأفريقيا)، صفحات 205 – 220. ويتناول المقال جزءاً من نتائج الحفريات الأثرية التي أجراها فريق بريطاني متخصص في الآثار ضمن مشروع متكامل عن آثار سواكن ومعمارها والحفاظ عليه. وكان ذلك العمل قد بدأ في عام 2002م، بعد عقود من الإهمال والتجاهل.
وكُتَّاب المقال من مدرسة علوم البيئة بجامعة أولستر Ulster، وجامعة كمبردج، ومكتب هندسي / معماري خاص، على التوالي. ويحوي مقالهم عدداً من الصور التاريخية والرسومات المعمارية، منها على سبيل المثال الحوش الخلفي لـ "بيت الباشا" وقطع خزفية من القرنين الخامس عشر والسادس عشر وُجدت في تلك الحفريات الأثرية؛ وخريطة بيانية للطابق الأول من ذلك المبنى.
تعرض المؤرخ محمد إبراهيم أبو سليم لتاريخ "بيت الباشا" في هذا المقال القصير (https://shorturl.at/iRSWZ)
المترجم
*********** *********** ***********
1/ ذكر كُتَّاب الورقة في المقدمة نبذة تاريخية مختصرة عن تاريخ سواكن، وكيف أنها كانت الميناء والمدينة الأهم في هذه المنطقة عبر سنوات الألفية الثانية بعد الميلاد، وأنها أكثر المواقع شهرةً وغموضاً في شرق السودان، وحُكِيَتْ عنها الكثير من القصص الشعبية والخرافات، التي رسخت صورتها في جائِشَة وروح (psyche) المنطقة بأكملها. وبدأت سواكن في التدهور مع إنشاء ميناء بورتسودان في ثلاثينيات القرن الماضي، وهجرها سكانها وتهدمت مبانيها. وبدأت منذ السبعينيات محاولات مترددة للمحافظة على ما تبقى من مباني المدينة. وفي عام 2002 بدأ "مشروع سواكن" الذي يهدف لإجراء أبحاث علمية، والحفاظ على المباني القديمة بالمدينة. وجمع المشروع علماء في علوم الاثار والبيئة والمعمار من جامعات الخرطوم وكمبردج وأولستر ولندن (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية). وتم حتى الآن (أي عام كتابة المقال في 2011م) إجراء حفريات اختبارية في جميع أنحاء جزيرة سواكن لتقييم إمكانات وجود مواد أثرية مدفونة، ودراسة طبيعتها علمياً. ولم تُجْرَ – حتى الآن - تدخلات باستخدام طرق الحفاظ المختلفة إلا بشكل محدود فقط، وشمل ذلك إعادة بناء مسجد وأجزاء من بيت يقع على الشواطئ الشرقية للجزيرة. وتتعلق هذه الورقة في الأساس بأعمال الحفريات الأثرية في مبنى يسمى "بيت الباشا". وكان جان بيير قرين لو هو أول من تعرف على "بيت الباشا" بحسبانه واحداً من أقدم المباني بالمدينة، إذ يرجع تاريخه إلى القرنين الرابع عشر أو الخامس عشر (ذكر أبو سليم أن ذلك البيت قد بُني في 1815م. المترجم). ورغم أن الكتاب الذي أصدره قرين لو غني بالرسومات ولا غنى للباحثين عنه، إلا أن بعض الباحثين اللاحقين انتقدوه بدعوى أن كثيراً من رسوماته كانت فَرْضِيّة / حدسية (conjectural)، وبحوثه شَظَوِيّة مجزأة تفتقر إلى إحالات مرجعية. لذا هدف "مشروع سواكن" للتركيز على مبنى "بيت الباشا" لجمع معلومات عن أوائل من سكنوا هذه الجزيرة، والقاء ضوء على الاستيطان والنشاط إبان العصور الوسطى في هذه المنطقة.
2/ تناول الكُتَّاب بعض الملامح الجغرافية والتاريخية لجزيرة سواكن. ومن ضمن ما ذكره عن سواكن أنها "توفر مرسىً محمياً على ساحل غير مضياف. وتعتبر مداخلها آمنة وسهلة نسبيا للملاحة بالنسبة للسفن الشراعية الخشبية ذات الغاطس الضحل، التي تتراوح بين قوارب وسفن الصيد المحلية الصغيرة إلى السفن الأوروبية الأكبر حجماً التي تبحر في المحيطات". وذكر كُتَّاب الورقة أنه كانت هناك في العهد الروماني خمسة موانئ على الساحل الغربي للبحر الأحمر، منها ثلاثة في مصر (هي كليزما Clysma على رأس خليج السويس؛ وميوس هورموس التي عرفت بمدينة القُصيرالقديمة وميناء برنيس Berenike؛ ورابعها هو ميناء عدوليس Aduli في أرتيريا؛ وخامسها هو مدينة Ptolemais Theron التي أسسها بطليموس، والتي يُعْتَقَدُ بأنها كانت تقع على ساحل السودان. ومع التخلي عن مينائي برنيس وعدوليس في القرنين الخامس والثامن الميلادي، على التوالي، صعد نجم مينائي عيذاب وبادي على الساحل السوداني. وعزا بعض الباحثين ذلك الصعود للتوسع الكبير في النشاط التجاري في تلك المنطقة، وللمناورات السياسية التي هدفت لمنافسة القوة البحرية لإمبراطورية أكسوم (بأثيوبيا). وقد أُجري بحث أثري محدود في هذه الموانئ التي تعود إلى العصر الإسلامي، ولا يزال هناك عمل كبير يتعين القيام به بشأن الطابع العام لساحل البحر الأحمر بالسودان إبان القرون الوسطى. وذكر الكثير من المعلقين أن موقع سواكن هو ذات موقع ميناء إيفانجيلون بورتوس (Evangelon Portus) الروماني الذي ذكره بطليموس. غير أنه لم يُعثر بعد على أي دليل آثاري على صحة هذا الافتراض. وزعم البعض أن التجويف/ الحوض (cistern) المبني بالطوب الذي عُثر عليه في الجزيرة هو من العصر الروماني، غير أن أبحاثاً حديثة أثبتت أنه من العصر الإسلامي. وتزايد في القرن التاسع الميلادي نشاط خارجي في تجارة الذهب بمنطقة تلال البحر الأحمر، أفضى لصدام بين مجموعات من المنقبين ورجال البجا، الذين كانوا يقطنون تلك المنطقة منذ قرون. ووافق البجا في معاهدة أبرمت في عام831 على عدم المساس بالمساجد في أماكن محددة عديدة، في مقابل السماح لهم بالعبور الآمن إلى مصر (1).
3/ تناول الكُتَّاب بعض الملامح التاريخية القديمة لجزيرة سواكن، وذكروا أن المسعودي (2) كان هو من وثق لأول استيطان في سواكن، ووصفوا سكانها بأنهم من "بجا الحسا Hassa Beja" يدينون بالإسلام. وأشاروا أيضاً لطرق التعدين الممتدة من شنكير Shenkir بالقرب من النيل، إلى موانئ سواكن وبادي وأرخبيل دهلك (في أرتيريا). ومع حلول القرن الثاني عشر غدا ميناء سواكن ميناءً مشهوراً. وسجل التاجر "أبو الخيرات" في عام 1132م أنه أشترى أقمشة من الهند إنابة عن تاجر يهودي في القاهرة، وسافر بها إلى عدن (حيث ابتاع أيضاً أخشاب برازيلية وقرفة وراوَند rhubarb)، وأرسلها جميعا إلى مصر عبر ميناء سواكن، التي باع فيها 20 حبلاً سدد بقيمتها ما عليه من جمارك (بلغت 10 دنانير مصرية). وفي عام 1213م وصف شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الحموي المدينة "الشهيرة" سواكن بأنها ميناء تأتي إليه السفن من جدة، ووصف أهلها بأنهم من "المسيحيين البجا". ومع توسع دورها في تجارة البحر الأحمر، شرعت القوى الاقتصادية الأكبر في المنطقة في التعامل سياسياً مع الميناء. ففي عام 1264م هاجم حاكم قوص (3) سواكن بعد أن اشتكى بعض التجار للقاهرة من مضايقات تعرضوا لها من سكان سواكن. وكانت سواكن في ذلك الوقت تخضع – للمرة الأولى - رسمياً للإدارة المصرية. وذكر ابن فضل الله العمري في عام 1320 أو نحوها، بأن كل سكان سواكن هم من المسلمين، وأن حاكمها هو الشريف زياد بن أبو نمي الحسني، وهو ابن أمير سابق لمكة (4). وكان ابن بطوطة قد أتى أيضاً على ذكر الشريف زياد بعد زيارته لسواكن في 1320م؛ وكتب ما يفيد بأن سواكن: "جزيرة كبيرة تقع على بعد ستة أميال من الساحل، وليس بها ماء أو حبوب أو أشجار؛ ويأتيها الماء بالقوارب، وبها خزان تتجمع فيه مياه الأمطار. وبها أيضاً لحم النعام والغزلان والحمر الوحشية، وفيها الكثير من الماعز مع اللبن والسمن، وكانت كلها تصدر إلى مكة. وطعامهم الأساسي هو عصيدة من حبيبات الدخن المهروس؛ والدخن هو أيضاً مما يُصدر لمكة. وعندما زرتها كان سلطانها هو ابن أمير مكة. وأخذنا سفينة من سواكن إلى اليمن". وكان ابن بطوطة قد سجل هذه المذكرات بعد سنوات طويلة من زيارته لسواكن، وربما يكون قد نسي بعض التفاصيل، مثل قوله عن موقعها أنها تبعد ستة أميال (نحو 10 كيلومتر) عن الساحل. وفي القرن الخامس عشر كانت سواكن هي الميناء الذي يركب منه حجاج شمال أفريقيا البواخر لمكة عبر ميناء جدة، التي يحكمها سلطان مسلم يتبع لملك حماسين /همسين Hamsen (بالقرب من أسمرا). وفي ذات الوقت كانت سواكن محطة مغادرة إلى القدس بالنسبة لحجاج الحبشة المسيحيين. وعند نهاية ذلك القرن سيطر مماليك مصر على سواكن مجدداً، لكنها أصبحت مندمجة في المجال الاقتصادي والثقافي الأوسع لسلطنة الفونج (التي اتخذت من سنار عاصمةً لها) بعد أن قامت مع بداية العقد في القرن السادس عشر (1504 – 1821م). وعلى الرغم من غموض العلاقة بين سواكن وسلطنة الفونج، إلا أن السيطرة على الميناء كانت فيما يبدو تتقلب وتتغير في غضون القرنين التاليين، مع وجود تأثير ونفوذ دائم لسلطنة الفونج على سياسة الجزيرة، إذ كانت تلك السلطنة تحصل على جزء مما تجنيه الميناء من جمارك وصفقات تجارية. وبعد أن أخفق البرتغاليون على السيطرة على البحر الأحمر، تنازلوا عن سواكن للعثمانيين في عام 1517م، رغم أنها احتفظت بنوع من الحكم الذاتي. وفي عام 1555م سيطرت حملة عثمانية أخرى على سواكن، وصار أوزدمير باشا أول حاكم عثماني على مديرية عثمانية كانت عاصمتها هي سواكن. ولم تثن سيطرة العثمانيين على سواكن قوى أخرى من محاولة السيطرة عليها. فقد كان البرتغاليون يحاولون – دون جدوى – السيطرة على سواكن، وظل قادة البجا والفونج يسعون للحصول على نصيب من ريع اقتصاد المدينة وأربحاها التجارية. وكان عتمان باشا (ابن أوزدمير باشا) قد كتب في مايو 1564 عن تمردٍ لبدويين أفلح في السيطرة على مصادر المياه التي كانت تأتي لسواكن، وطالب في رسالته بعون عسكري لإزالة ذلك التهديد. وأفلح عتمان باشا بعد سبعة أعوام على تلك الحادثة في صد هجوم للبجا بعد أن طلب من الولاة المصريين النظاميين (المعينين خصيصاً للمنصب من قبل السلطان العثماني) إرسال أسلحة وذخائر للقلعة العثمانية في سواكن. ودارت عدة معارك حربية ومناورات سياسية بسواكن في القرن السادس عشر حتى استقرت السيطرة الكاملة للعثمانيين على الجزيرة.
4/ أما فيما يتعلق بالحفريات الأثرية في "بيت الباشا"، فقد جاء في الورقة أن ذلك البيت الآن هو في حالة مزرية من التقويض والتهديم. فقد انهارت كل جدرانه، وغدا كومةً من الأنقاض. وقام بعض الخبراء بدراسة ذلك البيت بحسبانه أول بيت بني في سواكن (بحسب ما جاء في كتابي قرين لو البريطاني وهنكل الألماني (5)، ولأنه بُني بهندسة معمارية تختلف عن تلك المباني التي شيدت بالجزيرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولإنه شُيد في وسط الجزيرة بالقرب من مسجدي المدينة.
تناول الكاتب بتفصيل شديد عدداً من المسائل الهندسية المعمارية (المعقدة) للمبنى، ونتائج دراسات استخدمت فيها الكربون المشع بعد أن أزيلت من أرضه بعض أكوام الأنقاض. واعتمدوا في ذلك على ما جاء في مسح باكر قام به قرين لو، وعلى نتائج ورقة علمية قام بها فريق بحثي مكون من 27 باحثاً ونُشِرَتْ في مجلة Radiocarbon. يقع مدخل "بيت الباشا" في أقصى جداره الشمالي، ويقود إلى دهليز. وهناك نافذتان بالجزء الشرقي من البيت توفران الإضاءة في مدخل البيت. وهناك باب يقود من الدهليز إلى غرفة واسعة، ربما كانت تستخدم مخزناً. وهناك بئر سلم يتيح الوصول إلى الطابق الأول، وإلى فناء صغير، بينما يقود ممر آخر إلى مرحاض ودرج يؤدي للطابق الأول.
5/ وفي جزء "المناقشة" بالمقال، ذكر مؤلفو الورقة أن الحفريات الآثارية التي قاموا بها ساهمت – رغم محدوديتها – في توفير الكثير من المعلومات عن التطور الزمني للاستيطان بجزيرة سواكن. وإلى الآن لا يوجد دليل موثوق على أي نشاط فيها إبان العصر الروماني. وتشير كل الدلائل إلى أن أول استيطان بشري للجزيرة كان في بدايات القرن الحادي عشر. وشهدت الألفيتان الأخيرتان تغيرات كبيرة في البيئة المحيطة بالجزيرة، وتشير كثير من الدلائل القوية على حدوث حركات استيطان سابقة في الجزيرة. وسيستكشف المزيد عن الاستيطان في المناطق الساحلية حول الجزيرة الحالية. وتشير الرواسب الأثرية إبان القرون التالية إلى تكثيف النشاط في الجزيرة. وبحلول القرن الرابع عشر، تم إنشاء منطقة مركزية لإعداد الطعام في هذا الموقع الذي كان يقع بالجزء المركزي من الجزيرة، وهو أيضاً مكانها الرئيسي. فلا عجب إذن أن كانت تلك المنطقة المركزية تشتغل بإنتاج المواد الغذائية وتصنيع الحبوب على نطاق واسع، حيث أن احتياجات الميناء وهو ينمو غدت متنوعة وواسعة النطاق. وعلى وجه الخصوص، فقد كان التدفق المستمر لأطقم السفن والتجار والحجاج الزائرين سيتطلب استجابةً لطلب واسع النطاق للمواد الغذائية. ومع وصول العثمانيين للجزيرة في بدايات القرن السادس عشر تغير نوع النشاط الذي كان يُمَارَسُ في المنطقة المركزية بالجزيرة من نشاط مجتمعي عام إلى نشاط حصري وأكثر نخبوية. ونشطت في بدايات ذلك القرن أعمال البناء بالحجارة، وشِيدَ "بيت الباشا" في منتصفه. وأعقب ذلك انتشار كبير لاستخدام الحجارة في بناء البيوت. ولعل "بيت الباشا" كان المركز الإداري للنخبة العثمانية بوسط المدينة. وتطور المخطط الحضري لسواكن في تلك الفترة مستخدماً نسقاً وطرقاً إسلامية نموذجية، مع منطقة مركزية أقيمت حول المساجد، ومباني للنخب التجارية والإدارية. وكانت سواكن آنذاك خاضعة للعديد من التأثيرات الثقافية. وظهرت بالجزيرة منطقة تجارية حصرية يقطنها أو يقدم عليها الزوار من مختلف المناطق بالبحر الأحمر، بل ومن مناطق أبعد. وغدت الجزيرة أيضا مركزاً للنشاط الكلولونيالي والإداري الخارجي. وساهم كل من الفونج والعثمانيين والبريطانيين، كل بدوره، في تنمية وتطوير الجزيرة بما يتوافق مع أفكارهم الخاصة حول التنمية الحضرية. فأقيمت بالجزيرة سلسلة من المباني التي استخدمت لإدارة شؤونها الإدارية، وبُنِيَتْ عدد من القلاع والمنشآت العسكرية من أجل الدفاع عنها.
لقد كانت الجزيرة في كل العهود تقريباً مكاناً منفصلاً، معزولًا (بالمعنى المادي والمجازي) عن البر الرئيسي. وكانت تمثل مساحة نخبوية، تشارك في المقام الأول في تسهيل التدفقات الاقتصادية، وتقوم بإدخال عدد لا يحصى من السلع والهويات. ومن هنا عملت سواكن بحسبانها حلقة وصل بين طرق القوافل الداخلية والموانئ على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، بالإضافة إلى مناطق أبعد في المحيط الهندي. وسهلت سواكن طرق الحج (للمسلمين إلى مكة، والمسيحيين إلى القدس)، وسمحت بحركة مستمرة للبضائع التجارية في كل المناطق بصورة عامة.
وتوسعت أعمال الحفريات منذ حوالي عام 2007م إلى المنطقة المفتوحة إلى الجنوب بنحو 20 متراً جنوب غرب الحريم (Harim)، و10 متراً إلى جهة شمال الجدار الخلفي لمنزل الشناوي بيه (6) الأحدث. هنا تم فيه فحص مساحة قدرها 4 X 6 متر عبر موسمين. ووضح أن تلك المساحة كانت قد استخدمت منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى نهايته كمكبات للقمامة، كان عمقها يصل في بعض الأحايين إلى متر ونصف في بعض الأماكن.
وبحلول القرن الخامس عشر، كانت تلك المنطقة التي تم الاستيطان فيها تتميز بنشاط بشري كثيف، خاصةً في كل ما يتعلق بإعداد الأطعمة. فقد وجدت فيها في مستويات القرنين الخامس عشر والسادس عشر نحو 10 كيلوجرامات من العظام (خاصة عظام المعز، وبعض الأسماك)، وقشور الرخويات، وبقايا أواني الطبخ (مثل القدور الفخارية وحجارة الطحن والمسن / الشحذ). وتناقصت تلك الكمية في مستويات القرنين الثالث عشر والرابع عشر إلى ما يزيد قليلاً على 4 كيلوجرامات.
وتناقص النشاط في المنطقة في الجزء الباكر من القرن السادس عشر، وظهرت بها مبانٍ لأول مرة في التَصْويرٌ الطِباقِي stratigraphy (7). وفي حين لا يمكن اعتبار وجود أخدود / خندق trench في المدينة بمثابة بيان نهائي عن النشاط الثقافي في جميع أنحاء المدينة، فهو يمثل التسلسل العام للمستوطنة ووجود المباني في الجزيرة. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن كلاً من هذا الخندق وحفرة الاختبار (test pit) في الجزء الداخلي من المنزل يظهران بوضوح إدخال البناء الحجري في العقود الأولى من القرن السادس عشر. ويمكن للمرء أن يربط بين الظهور الرسمي للوجود العثماني في المنطقة إبان العقد الثاني من القرن باعتباره حافزاً للبناء بعد عقود من الاستقلال ووجود الفونج في الميناء.
ولا يمكن ذكر الكثير عن ذلك المَعْلَم المعماري (بيت الباشا) سوى أن ارتفاعه يبلغ في الوقت الراهن ثلاث طبقات، وكان مبنياً بحجارة مرجانية لُصِقَتْ ببعضها بملاط (مونة) رملي، ربما تمثل المستوى الأساسي للجدار الخلفي للمبنى، أو معلما لحدوده. وفي كلتا الحالتين، تمت تسويته لاحقاً، ربما في القرن الثامن عشر، عندما تم وضع سطح /"ساحة yard" مضغوطة بقوة فوق ذلك الجزء من الخندق. وكانت مستويات القرن السادس عشر لبيت الباشا تحتوي كذلك على زيادة ملحوظة في الأواني الخزفية المزججة المستوردة، التي كانت تمثل نحو 31٪ من إجمالي ما تم جمعه total assemblage (أورد الكتاب هنا صورة لواحدة وثلاثين قطعة من بقايا الأواني الخزفية بسواكن في غضون القرن الخامس عشر وبدايات القرن التاسع عشر، التي عثر عليها في حفريات "بيت الباشا").
************ ************ ************
إحالات مرجعية
1/ استند الكُتاب هنا على كتيب بعنوان "Medieval Nubia" بقلم عالم الآثار البريطاني بيتر لويس شيني P.L. Shinnie (1915 – 2007م) ومن إصدار "مصلحة الاثار السودانية" عام 1954م. https://shorturl.at/vEQTW
2/ أبو الحسن المسعودي (~896 - 957م) هو مؤرخ وجغرافي ورائد نظرية الانحراف الوراثي. وهو من أشهر العلماء العرب، ويعرف بهيرودوتس العرب https://shorturl.at/dkwBS
3/ تقع قوص على الشط الشرقي للنيل في محافظة قنا بمصر، وكانت في الماضي مركزاً تجاريا مهماً. وبها عدد من المساجد العتيقة والآثار الفرعونية.
4/ للمزيد عن شهاب الدين العمري وأمير مكة أبو نمي الحسني انظر الرابطين https://shorturl.at/hkuU4 و https://shorturl.at/dzGX1
5/ لجان بيير قرين لو كتاب مشهور عن سواكن عنوانه: The Coral Buildings of Suakin، ولهنكل كتاب عنها صدر بعنوان: The Archeological map of the Sudan: Red Sea Coast… .
6/ للمزيد عن "بيت الشناوي" بسواكن يمكن النظر في هذا الرابط: https://shorturl.at/qLX12
7 / بحسب موسوعة الويكيبديا فعلم طبقات الأرض (ويُعرف كذلك باسم علم "دراسة طبقات الأرض" أو السِّدَاكة) هو علم يهتم بدراسة القوانين والظروف المختلفة التي تتحكم في تكوين طبقات الصخور في السلم الجيولوجي، وأماكن ترسيبها في مختلف مناطق العالم، ويحدد أنواعها وخصائصها الصخرية وأعمارها، مع تركيز خاص على الصخور الرسوبية.
alibadreldin@hotmail.com