“أم كُـــواكــــــيــــــــــة الـثانــيـــــة” ..دارفور.. من الحلم إلى الحريق (1)

 


 

 

إتكاءة على درنقل:

إسحق شاب من ضواحي كبكابية إحدى أشهر المدن بإقليم دارفور غربي السودان من أمام (عشته الصغيرة) أو (الكشقية) كما يسميها كان يحدثنا عن ماضيه القريب أيام صفو العيش وطيب الزمان في قريته الصغيرة التي لم تعد موجودة، بين القطية وراكوبة القش والضرا وفي المحيط تسرح الأغنام والطيور دجاجها وحمامها. لم تكن أحلامه تتجاوز هذا عالمه المتواضع هذا بكثير. وعندما يودع رفاقه ويعود مساءً من ساحة الرقص، كانت تسرح خواطره وهو يتمدد على (الدرنقل) وهو(العنقريب العالي). من بين أحزانه أختلس ابتسامة خفيفة وقال: ربما يكون في البيت (درنقل) واحد تحتله (الأم الكبيرة) بدواعي الإحترام وكنا نغني لها سراً.. كنا في ذلك الزمان نغني لكل شئ:

 

نسيبتي ماتت

 

حلو لي

 

الجمعة الفاتت

 

خلت الدرنقل

 

حلو لي

 

أرقد واتشنقل.

 

إسحق أطلق تنهيدة حرى وقال وقتها لم نعرف (أم كواكية دا) إلا في القصص. بدت الكلمة غريبة على أسماعنا فقال مفسراً: (ما ياهو الحرب والموت الكتير دا). ثم يستطرد كان أجدادنا (يحجون) الصغار بأحاجي أم كواكية وأبطالها كان بعضهم شرفاء صالحون وآخرون كانوا أشراراً وقتلة.

 

أم كواكية الأولى:

 

وفي الخرطوم كان الأكاديمي والأستاذ بجامعة الخرطوم بروفيسور الزين آدم يفسر مصطلح (أم كواكية) ويحدث عن أول أم كواكية شهدها إقليم دارفور في تاريخه: (هذه الحالة التي تعيشها دارفور أقل ما توصف به هو أنها حالة إنفلات أمني غير مقدور عليه يتم فيه الإعتداء على ممتلكات واعراض الناس ويقف حياله المواطن مكتوف الأيدي حين لا يجد جهة من الجهات تعمل على حمايته. وبالسؤال: هل مرت هذه الحالة على دارفور من قبل؟ التاريخ يقول نعم. مرت هذه الحالة على دارفور وأهل الإقليم يسمونها (أم كواكية) أو (أم كواك) (الجوطة) والإنفلات وهذه الحالة مرت على دارفور في الفترة من 1874 – 1916م مع نهاية حكم آخر سلاطين دارفور إبراهيم قرض سنة 1874م بعد معركة (منواشي) بينه وبين الزبير باشا التي هزم فيها السلطان إبراهيم قرض ولكن – كذلك- لم يسمح للزبير باشا بأن يستمتع بنصره إذ تم خداعه ونفيه من قبل الأتراك الذين ساموا أهل دارفور سوء العذاب وبدأت في ذلك التاريخ (أم كواكية) الأولى..) ويذهب د. آدم الزين إلى أن الأتراك أدخلوا دارفور إلى متاهات ودوامة من الشر المستطير حيث أن الإقليم وإلى عهد آخر سلاطين الفور كان يسوده سلام إجتماعي يحكمه قانون عرفي يعاقب على كل الجرائم والمخالفات، لكن بعد ذلك إنفرط الأمن وأختلط الحابل بالنابل وظهرت (أم كواكية) الأولى التي استمرت حتى الفترة الأخيرة من المهدية ولما عرج السلطان علي دينار إلى دارفور بعد معركة كرري حاول أن يسترد الأمن والنظام ولكن كان ذلك أكبر من طاقته ثم  أنه لم يترك لإكمال هذا العمل ولم يستتب الأمن إلا في ظل الحكم الإستعماري الجديد 1916 حيث تم ضم دارفور لبقية أجزاء السودان.

 

الإنجليز يعاقبون دارفور:

 

ولكن لماذا ترك الحكم الثنائي دارفور وشأنها كل هذه الفترة منذ إحتلاله السودان ثم لماذا تحرك المستعمر من بعد وسعى لإسقاط السلطان علي دينار والإستيلاء على دارفور؟ حول هذا الموضوع يعلق بروفيسور حسن مكي قائلاً: (حتى علي دينار لم يستكمل سيطرته على دارفور لأن هناك مناطق في دارفور ظلت سلطنات تابعة للمهدي خارجة على سلطان دولة الحكم الثنائي وخارجة على سلطان علي دينار الذي لم يستمر طويلاً ولم يعمّر وانتهي حينما خرجت عليه تجريدة بقيادة ونجت باشا والكبابيش وأنهت دولته في 1916م).

 

 وعن ما إذا كانت الغضبة الإنجليزية على السلطان علي دينار بسبب موقفه في الحرب العالمية إلى جانب تركيا مخالفاً حلف المملكة المتحدة يقول د. حسن مكي: (هذا جاء بعد سِفر الولاء الذي كان فيه كل القادة السودانيين قد أيدوا بريطانيا ضد حربها على الألمان ولكن أهل دارفور لم ينضموا لسفر الولاء الذي ضم السيد علي الميرغني والسيد شريف حسين الهندي والسيد عبد الرحمن المهدي وإنما مالوا إلى جانب الخلافة الإسلامية في تركيا التي كانت على الجانب الألماني. ولما أصبح علي دينار في السودان نشازاً ولم ينحز لبريطانيا كان جزاؤه أن تم قتله في معركة بالقرب جبل مرة وتم دمج دارفور. ولكن حتى هذا الدمج كان دمجاً شكلياً ولم تقم في دارفور تنمية أو نهضة كما حدث في مشروع الجزيرة لأنها كانت بعيدة ولأن الإنجليز أرادوا ان يعاقبوها على عدم إنصياعها للحكم الثنائي ولأنها لم تدخل في أولياتهم. لذلك كانت دارفور في هذا العهد خارج التنمية وظل مجتمع دارفور مجتمع رعوي وزراعي.

 

دارفور أصول النزاع:

 

مجتمع رعوي وزراعي.. متباين بين طبيعة حياة المزارعين المستقرين والرعاة المتجولين فكان أن نشبت الصراعات الأولى في دارفور نتيجة لهذا التباين بين المزارع الذي ينهض تلقائياً لحماية حقوله وبين الراعي الذي يقتحمها بمواشيه بحثاً عن الماء والكلأ والخصب الذي يتوافر كلما أتجه جنوباً، وقد عرف إقليم دارفور كثير من مثل هذه الصراعات التي سرعان ما تغذيها العصبية القبلية حين يتحيز كل طرف من المتخاصمين إلى قبيلته التي لا تلبث أن تكون له فئة، إلا ان غالب هذه النزاعات كان يتم إحتواؤها من خلال النظم والأعراف القبلية السائدة. وهذا ما يوافقه د. حسن مكي: (هذا صحيح الصراعات كانت مختلفة بين مزارعين ورعاة وبين عرب وزرقة وحتى بين عرب، عرب وزرقة، زرقة ولكن الصراعات أخيراً تفاقمت بإستخدام السلاح الناري ونسبة للحرب التشادية الليبية وحرب جنوب السودان كذلك والتوترات التشادية الداخلية وتفكك جيش أفريقيا الوسطى والتوظيف السياسي. في حين أن الحرب في السابق كانت بالسلاح الأبيض وكانت الخسائر محدودة، انتشار السلاح الناري وتطوره هو ما فاقم الأمر وضخم الخسائر.

 hameed506@gmail.com

 

آراء