لعل المسافة الفاصلة بين الشاعرة روضة الحاج وهي تشنف آذان الحضور في مكتبة الأسكندرية الشهر الماضي بقصيدة رائعة يسير مطلعها في البحر وينتهي مصرعها في هوي الطين ، وبين الناقد والكاتب المبدع عبدالحفيظ مريود ليست شاسعة من حيث المعني و لكنها بعيدة في جدل الهوية وحفريات التاريخ.
عندما اعتلت الأستاذة روضة الحاج منصة التتويج في عروس البحر المتوسط بدعوة كريمة من قنصل السودان بالإسكندرية الدكتور محمد صغيرون الزين، سكبت علي آذان المستمعين قصيدة جاءت علي تواقيع قريحة العباسي ذات الحاجب النون ، لكنها نسجت علي منوال الغابة والصحراء كأنها تجدد انشودة الخلاسية وتستدعي اسماعيل صاحب الربابة وهو يغني بلسان ويصلي بلسان. إذ تقول
أنا الغريبة كل الأرض تسألني من أنت من أين ماذا هل أجيبيني
أجيب والسمرة الأنقي تجللني أنا سليلة أحفاد السلاطين
حتي تقول
أنا العروبة في عرق الزنوجة في فرادة حملت كل الأفانين
أما الناقد والكاتب عبدالحفيظ مريود فقد أوغل في التاريخ وسبح بعيدا عن القوافي وهو يشيد بالكشف الأثري للبروفيسور علي عثمان محمد وهو يزيح ركام التاريخ منذ العام 350 قبل الميلاد عن مدينة عيزانا الأثرية بالقرب من جبل أم علي بالشمالية. وجعل مريود من الكشف الأثري لمدينة عيزانا قاعدة معرفية لترقيع ما أسماه النسق الحضاري والإجابة علي أسئلة الهوية.وقدم مريود حججا وسيمة وبراهين قسيمة في الدفع بمنطقه في إستقلالية المركز الحضاري للسودان وتمايزه التاريخي عن مصر، وأن غزو عيزانا يكشف عن وعي مبكر للإرتباط بأحد مراكز الحضارة الأفريقية التي أمتد أرتباطها الثقافي والعرقي بغرب أفريقيا والجزيرة العربية واليمن.وأتهم ما اسماه تردد الحكومة السودانية في ترفيع العلاقات مع أثيوبيا الي درجة التكامل الي عقدة نفسية تعود الي أزمة الهوية والأنساب.
لقد هدهدت روضة الحاج جماليات القافية فلم تعد تكترث الي أي جنب كان مصرع هويتها بعد أن ضرجته بنقيع التلاقح، أما مريود فأستمسك بهوية تاريخية تقوم علي مركزية العلاقة الحضارية مع أثيوبيا، وهو يترسم ما وقع من جيل السلف الذين أختزنوا تاريخ السودان وهويته التاريخية في مركزية مصرية تاريخية طاعنة في السن. ويخترط ازائها نظرية موازية تستبدل قبط مصر بأمهرة أثيوبيا.
ما دعاني لإعادة الضوء لترميزات جدل الهوية عبر حفريات البحث التاريخي عند مريود وقافية الشعر عند روضة الحاج، هو الهرج من إعلان الإتحاد الأوروبي دعم برنامج مكافحة الهجرة غير الشرعية في السودان،وذلك بتخصيص مساعدات تقنية وعينية لوكالات أنفاذ القانون وبناء القدرات. وكشفت بعض وسائط الإعلام الأوروبية منها وكالة رويترز أن سفراء 28 دولة في الإتحاد الأوروبي تعاهدوا علي سرية الكتمان لإتفاق تواصوا عليه لتقديم مساعدات للسودان لوقف تدفق الهجرة الي أوروبا، وأعتمد الإتحاد مبلغ 40 مليون دولار لتقديم مساعدات لثمانية دول من ضمنها السودان. وبلغت سقف الهواجس الأوروبية مداها وهي تكتم هذا الدعم في اضابير السرية لأنه موجه الي دولة متهمة بالدكتاتورية وأنتهاكات القانون الإنساني. ولعل الدول التي صاغت قرار الإتحاد الأوروبي لتقديم المساعدات للسودان من اجل بناء القدرات الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية تدرك أن السودان لا يقبل عطية مزين تحت جنح الظلام مغلفة بوصم الديكتاتورية والإنتهاكات،لأنه ظل يقوم بدوره الإنساني وفق أمكاناته الذاتية المحدودة، أما وقد وقع الضرر علي الدول الأوروبية وهي تعاني من تدفقات اللاجئين عبر البحر المتوسط فإن المساعدات المطلوبة والتي وافقت علي تقديمها لحماية مصالحها ليست رشاوي للدولة السودانية بل هي لتقوية الاليات الوطنية لإنفاذ ما تقوم به اصلا ضمن واجباتها الراتبة. ولكن للأسف تصور مجلة دار اشبيغل الألمانية التعاون مع السودان من اجل مصالح الدول الأوروبية لوقف تدفقات الهجرة غير الشرعية كأنها عملية اجبار ورشوة أكراه تتم دون إرادتها الحرة بسبب اتهامات ومزاعم المحكمة الجنائية لتغطي بها أوروبا عن عجزها وخوفها حيال استقبال هؤلاء اللاجئين.
من المفترض أن يرفع العالم القبعات للسودان ليس لأنه أول أقطار أفريقيا استقبالا للاجئين منذ عهود حركات التحرر الوطني الأفريقية، بل لأنه يأوي في الوقت الراهن أكثر من ثلاثة ملايين لاجيء من دول الجوار رغم تحديات ظروفه الإقتصادية المعلومة ، ويتعجب الأوروبيون في العواصم الغربية المختلفة عن تفضيل عدد لا يستهان به من الأسر العربية السورية السفر الي السودان بدلا عن القبول بأوضاع اللجوء في عدد من كبريات الدول الغربية،هروبا من المن المبذول مع الرفاه المادي في اوروبا الي سعة القبول الإنساني في السودان رغم تقلبات الشظف والمسغبة.
وكشفت صحيفة النيويورك تايمز الصادرة في 17 مايو الماضي أنه بعد سريان أتفاق الإتحاد الأوروبي مع تركيا الذي يمنح أنقرة ثلاثة بليون يورو لإيواء اللاجئين كقسط أول تليه دفعيات أخري، طالبت بعض دول غرب أفريقا خاصة النيجر أكثر من بليون يورو لمنع تدفقات اللاجئين عبر أراضيها الي ليبيا ومن ثم الي أوروبا عبر البحر المتوسط. وفي ذات السياق قررت كينيا إغلاق معكسر دهب الذي يعتبر أكبر معسكرات اللاجئين الذي يأوي 600 ألف صومالي نسبة لإنعدام الميزانيات الكافية لذلك إلا إذا توفر مبلغ 45 مليون دولار لإستمرار المعسكر. ونعت النيويورك تايمز علي الدول النامية استخدامها قضية اللاجئين كبطاقة ضغط وسلعة مساومة للحصول علي مزيد من الأموال من دول الإتحاد الأوروبي.
وذلك علي عكس موقف السودان الذي لم يستخدم قضية اللاجئين كبطاقة ضغط ومساومة للحصول علي الأموال الأوروبية المبذولة كما طالبت بذلك بعض الدول ليحتمل أيواء اللاجئين دون أن يساوم علي ذلك بالأموال، استعصم بتاريخه الإنساني وقيمه الموروثة وهو يأوي ثلاثة مليون لاجيء في مدنه وأريافه يقاسمهم اللقمة والمأوي. وبعد هذا الموقف الإنساني الصميم تستخذي الدول الغربية عن تقديم دعمها للسودان تحت ضوء الشمس وفق مبررات سياسية واهية وعقيمة منها مزاعم المحكمة الجنائية وتقدم عطاء منّها القليل كصدقة السر التي يفضحها شجو النهار وهو فتات لا يبريء جرحا او يقيم أودا أو يسكت فاقة.
ولعل الأدهي والأمر أن هذه الدول تسعي في خاتمة المطاف لتوطين هذه الملايين في ارض السودان وهي تقدم المواعظ و ترمي بالفتات في وجهنا. فإذا رضي السودان وهو يراهن علي كبريائه الوطني وواجبه الإنساني في أيواء اللاجئين من مواطني دول الجوار في اوقات الجوع والمسغبة والتحديات فإنه من ناحية أخري شديد الوعي بتأثير سياسة توطين هؤلاء اللاجئين علي تركيبة هويته القومية علي المدي الطويل. وهذا ما يعيد جدل الهوية وترميزاتها بين قافية روضة الحاج وحفريات عبدالحفيظ مريود التاريخية. لأن خلاسية السودان هي جزء من مكتسبات تراكم وعيه التاريخي، انصهرت كبوتقة اختطلت فيها الأثنيات والقوميات والثقافات والألسن حتي غدت فسيفساء مشرقة من التنوع رغم عوارض النزاعات والتوترات الأخيرة. وهذا هو جوهر النبع الجمالي الناظم لدوزنات قوافي الغابة والصحراء كأحد ألسن التعبيرالمبدع عن هذا التنوع ، وهو الأمر الذي جعل الشاعرة روضة الحاج تستحصد لهفة الإعجاب و صدي التصفيق في قاعة مكتبة الإسكندرية علي ضفاف المتوسط. وفي ذات السياق فإن توطين اللاجئين في السودان ربما يسبب خللا ليس في تركيبة هويتنا القومية، ولكن ربما يزيد كذلك من هشاشة التماسك الوطني لأن أندغام هذه المجموعات رغم القواسم الثقافية والأثنية المشتركة في قلب وروح الأمة والشخصية السودانية يتطلب وقتا يستغرق أكثر من جيل، و لأن استيعاب الثقافات الفرعية الوافدة في تيار الثقافة السائدة والرئيسية يواجه في الغالب الكثير من العثرات خاصة مع فشو النزاعات مما يشي ببروز كثير من التوترات علي السطح الإجتماعي. وعليه فإن بقاء الأمر علي ما هو عليه في الوقت الراهن واستمرار تغذية الرصيد الديمغرافي بتيار اللجوء عبر توطينه علي المدي البعيد سيعيد من جديد الجدل حول جدوي قيام تيارات فرعية للثقافات الوافدة علي هامش المجري الكبير لنهر الثقافات السودانية المستقرة. وهذا يعني مزيد التوترات الديمغرافية لضعف فعالية مصاهر التنوع والإندماج الثقافي في اللحظة التاريخية الراهنة. وهذا من وجه آخر يعارض الفرضية النظرية التي تطرق اليها عبدالحفيظ مريود في حفرياته استنادا علي اكتشاف مدينة عيزانا الأثرية في جبل أم علي. لأن التحرر من العقد النفسية حسب وصفه للتصالح مع تاريخنا المفتقد في علاقتنا مع الحضارات التاريخية في اثيوبيا لم يعد يحتاج الي ضرب اكباد الإبل وفحيح الطائرات الي الهضبة بل تكفي زورة الي الجريفات لتجد أن الرمزيات الظاهرية للتكامل المفتقد آخذة في التبلور الآن لكن دون إرادة أو تخطيط من السلطة أو المجتمع بل بدفع من الحاجة والمسغبة والهجرة واللجوء. وهذه مقتضيات عالم ثقافي جديد يتشكل وحقائق ديمغرافية تتخلق في المدن والبنادر. وسيأتي زمان قريب تعجز فيه كل مواويل الغابة والصحراء أن تعبر عن مواجدها، لأنها خالفت مذهب اسماعيل صاحب الربابة الذي كان يصلي بلسان ويغني بلسان.وستتقاصر الحفريات الأثرية عن اكتشاف نظائرها، وسيكتب حينها أنها ولدت في زمن التيه لأن العقل السياسي نهي عن التوالد ورضي بالتكاثر ولكن دون ان يحدث نفسه بزيارة المقابر؟.وسيبقي رهز الموسيقي عاليا في الأحياء الشعبية أديس ا ب ب با با.
رسالة الي احد ابرز حراس التراث الثقافي المشترك:
(عفوا الصديق محمد حامد جمعة غلبتني المواجد ولكن ردتني المواعظ.تكفيك التخوم دون الغيوم، ورمضان كريم).