أوراقي الافريقية رقم (9): نيلنا الابيض
السفير/ فاروق عبدالرحمن
20 August, 2021
20 August, 2021
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو انني قد استنفذت نصيبي من السباحة يوم سقطت في الماء وخرجت منه بأعجوبة لانال عقوبة لازلت اذكرها ولا عجب انها ابعد شئ اذكره في حياتي التي احمد رب العالمين أن مد لي فيها حتى اليوم (2020- 2021).. لم احقق عدة رغبات دارت في خاطري وشغلتني.. سعيت لبعضها بتخصيص الوقت والمال والمجهود ولكني لم اوفق فاستسلمت ورددت قول القائل ما كل ما يتمناه المرء يدركه … احب الاغاني واحفظ عديداً منها وبلغات مختلفة وكان صوتي مش بطال لكني فشلت في تعلم العزف على أي آلة موسيقية.. بدأت بالصفارة ( المزمار ) وتمنيت الوصول للبيانو مروراً بالعود والكمنجه و الأكورديون ( مثل الذي أتى به شقيقي صلاح الدين من فرنسا ويجيد العزف عليه) وفشلت فتركت الامور تسير كما أراد لها المولى .. مارست اضراباً من الرياضة ( ماعدا كرة السله ) وشاهدت عدد من البطولات والألعاب الأولمبية في قارات مختلفة ولكني فشلت تماماً في السباحة بالرغم انني حاولت في عدة أماكن وتحت إشراف بعض الموجهين.. اذكر حوض السباحة في جامعة الخرطوم عندما جئتها في مثل هذه الأيام ( يوليو قبل 60 عاماً بالضبط) اذكر حارس الموقع العم سعد ( والد العميد محمد نور سعد الذي قاد العملية العسكرية ضد نميري عام 1976) بجلابيته البيضاء وعمامته وهو يقوم بجمع أوراق الشجر التي تتساقط على الماء مستعملاً شبكة حديدية فانظر للسباحين المهرة من الطلبة الذين يلعبون البولو( كرة الماء ) وفي المقدمة منير يوسف الحكيم وعبدالله محجوب سيد أحمد (زميلنا فيما بعد بوزارة الخارجية الذي طردته حكومة الإنقاذ عام 1990 من منصبه كسفير لدى المملكة المغربية فاضطر للهجرة للولايات المتحدة الأمريكية) .. الرحمة للاثنين و جربت حظي في احواض سباحة كثيرة في أفريقيا وأوروبا وآسيا … وكله ما نفع .. المهم قررت الا يتعرض اولادي لمثل هذا الفشل لذلك سعدت بان رايتهم يعومون ويستمتعون بالماء منذ باكر أعمارهم ..
جوانب أخرى كنت على قناعة بأنني لست من أهلها لذلك لم اقترب منها اطلاقاً مع ان بعضها يصنف ادبي والآخر علمي ومع احترامي الشديد للطرفين كالطب والشعر فانا فقط متفرج أو مستمع .. شاءت الصدف أن رافقت اثنين من كبار شعرائنا المعاصرين .. محمد المكي ابراهيم اطال الله في عمره وسيد احمد الحردلو له الرحمه - كانا من أعز اوالطف زملاء المهنة . مع مكي لم نترك مسرحاً او معرضاً او متحفاً في مدينة النور ونحن نجاهد باللغة الفرنسيه غير الموجودة الا زرناه واستمتعنا به حتى الثمالة .. عامين في باريس و مكي يكتب الشعر وينشره ثم عامين آخرين في الخرطوم مع الحردلو نبدأ يومنا سوياً في سيارة واحدة إلى نفس المكتب في عمارة جلاتلي هانكي ثم نتغدى سوياً حيث ما كان ونعود ثانية الى نفس المكتب لنواصل العمل ثم السهرة حيث ما يكون لنعود لمنزلنا المشترك في حي المقرن وعناقريبنا المفروشة في الحوش انتظاراً ليوم جديد .. والحردلو يكتب الشعر وينشره ثم يغنيه المغنون الكبار وردي واخرون وانا مستمع ومشاهد لم تصبني جايحة الشعر والحمد لله ..
لذا عندما سقطت في النيل فقد أخذت نصيبي من كل انواع السباحة والقصة اعزائي القراء بسيطه مر عليها حتى الآن خمسة وسبعون عاماً او اكثر قليلاً فقد كنت في نحو الثالثة وفي رفقة شقيقي الكامل ( له الرحمه ) والفاضل اطال الله عمره كنا في مدينة الدويم أهم مدن نيلنا الأبيض العظيم ذهبت معهما نلهو ونلعب على حافة النهر طبعاً لم اكن صاحب قرار ولكني في رفقة آمنة والا لما كانت الأسرة تسمح لنا بالذهاب إلى النهر..
كان قد مضى على وجودنا هنالك أكثر من عامين وانا اكاد اكون من مواليد الدويم فوالدتي عليها الرحمة حكت لي انني سافرت معهم وعمري اقل من شهر واحد وهو أمر غير معتاد في تلك الايام اذ من المتبع ان تبقى الوالدات اربعين يوماً لايتحركن خارج غرفهن الا للضرورة القصوى أما السفر فمن غير الوارد حتى في الخيال ولكن انضباط تلك الأيام والتزام والدنا الشديد بمواعيد المدارس كان وراء سفرنا بالقطار اولاً من الابيض الى كوستي ثم المواصلة بباخرة نهرية الى الدويم وكل ذلك في الأسبوع الأخير من شهر يونيو 1942 فالمدرسون ( الاصطاف) عليهم التواجد في مواقعهم قبل أسبوع من افتتاح العام الدراسي الجديد في الأول من يوليو من كل عام .. ولا غرو أن مدرسة الدويم الريفية كانت من أميز المدارس ليس في السودان وحده ولكن على نطاق الإقليم ( كتاب ابراهيم منعم منصور يشير في صفحة 113 إلى أن "ضابط" المدرسة هو عبد الرحمن احمد عيسى وكان هذا اللقب (ضابط) يمنح للمدرس المسئول عن الإدارة لكل ما تتطلبه من الانضباط والالتزام قبل كل شيء بالمواعيد..
اخذني التيار إلى داخل النهر .. حاول شقيقي الفاضل الذي يكبرني بثلاثة اعوام ونصف ان يمسك بي لكنه سقط ولحق بي .. هنا تنبه كامل الذي كان في نحو الثامنة فأخذ يستغيث الناس فكان ان ارسل الخالق جلت قدرته تلميذا من المدرسة ذاتها لا أظن أن عمره يتجاوز الرابعة عشر فكانت نجاتنا على يديه .. كنت حسب ما روي لي قد وصلت الى منتصف النهر واقتربت من بعض السفن الراسية .. لم نكن في موسم الفيضان كما لم تكن هناك تماسيح اوغيره لكني شربت ماءً كثيراً .. كان والدنا قد اشتعل غضباً حتى انه لم يترك فرعاً من فروع نبتة الحناء الموجودة في منزلنا الا وقطعها على جلودنا .. اتذكر هذه " الجلدة" جيداً بينما والدتنا عليها رحمة الله تحاول إفراغ الماء الذي امتلأت به بطوننا الصغيرة .. فكنت اصرخ مرتين .. بعد سنوات قلائل انتقلنا الى القولد فكان سفرنا إليها من كريمة بالبواخر النهرية لكن المدرسة نفسها ( وهي الاولى المدعومة مالياً من مؤتمر الخريجين ) تبعد كثيراً من النيل بعد أن قضى فيضان عام 1946 على اغلب بيوت القرية ولذلك كنا ( في نظر والدينا ) في مأمن من الماء .. عدنا ثانية للدويم وبخت الرضا وكنت قد بلغت الحادية عشر فرأيت اول حوض سباحة في حياتي هو ذلك المقام قرب مدرسة مبروكة ( بخت الرضا) وكان هناك بعض الإنجليز يقفزون في الماء ويعرضون علينا مهارات في العوم والغوص ونحن نصفق.. انتقلت بعد ذلك الى ام روابة ثم خور طقت الثانوية فارتحنا جميعاً لأنه ليس في وارد ذهن أي شخص هناك حوض سباحة لكن بعض " أولاد البحر" الذين جاءوا لكردفان اول مرة في حياتهم ملتحقين بمدرسة خور طقت خلقوا مشكلة "لاولاد الغرب" مثل صديقنا العزيز احمد وادي ( مدير إدارة السجون فيما بعد الذي حكى ليّ بلهجته الكردفانية اللطيفه)بانه من غير المقبول ألا يكون بخور طقت حوض سباحة مثل وادي سيدنا وحنتوب ( كانت المنافسة بين المدارس الثلاثة على أشدها في كل شيء.. لكن اولاد البحر نسوا ان الابيض ( وخور طقت على أطرافها ) تبعد أكثر من 300( ثلاثمائة ) كيلومتر عن النيل الأبيض الأقرب لكردفان فكيف لهم بحوض سباحة..(كنا نحن في الابيض في ذلك الوقت نشتري الماء من الدونكي والسقايين ) أضرب طلاب خورطقت فلم يتردد الناظر ( المدير بلغة اليوم ) النصري حمزة بقفل المدرسة وفصل 119 تلميذاً .. صديقنا احمد وادي عاد الى قريتهم قرب الرهد ( شرق كردفان) مغيوظاً من هؤلاء " البحارة" الذين قالوا اولاً ان الاكل سيء وان المدرسة مليئة بالشوك و الحسكنيت ثم اضافوا شيئاً غريباً وغير مفهوم ان المدرسة ليس بها حوض سباحة .. ياللهول .. عندما عادوا بعد ثلاثة أشهر كان هو أول من نال - وعن رضا كامل - العقوبة البدنية المتمثلة في عشر جلدات انتفض بعدها مشمراً عن ساعديه قائلاً لمن تبقى من التلاميذ واغلبهم اكبر منه سناً .. الراجل فيكم تاني يقول لي اضراب .. والله ادقوا انا قبل الناظر ..( كانت خور طقت بالنسبة للعديد من تلاميذها تشابه فندقاً من خمسة نجوم ).
لم نقترب ثلاثتنا من السباحة لكن كاملاً ناداه البحر .. لم يدخل رجليه في النيل الأبيض ذلك اليوم إلا أنه قفز - حته - واحده - الى البحر الأحمر فقد قرر وهو المقبول في جامعة الخرطوم عام 1958 وكان ميالاً للهندسه و الجغرافيا الطبيعية - ان يلتحق بالبحرية والمواني ( التابعة آنذاك لمصلحة السكك الحديد) التى اعلنت عن وظائف ضباط بحرية ومرشدي الموانئ .. تم قبوله مع زميله حسن شريف فغادرانا نهاية ذلك العام إلى بريطانيا واعالى البحار حتى المحيط الهندي والهادي .. وصار كابتنا ثم مديراً لميناء بورتسودان عدة سنوات إلى أن اختاره المولى إلى جواره عام 1993 ووري الثرى في تلك المدينة التي أحبها كما احبها والداه للذين بدءا حياتهما الزوجيه بها منتصف ثلاثينيات القرن الماضي و رزقا بمولودهما الاول " كاملا" الذي رزق هو ايضاً فيها بمن سار في دربه فكان ان تسلم الرايه " كابتن زهير كامل"..
في منتصف العام 1955 قمنا ثلاثتنا بأطول رحلة داخل السودان قاربت اسبوعين على ظهر باخرة اخذتنا من كوستي حتى جوبا لزيارة والدنا الذي كان قد انتقل إلى هناك كمساعد مفتش للتعليم معاوناً للسيد سر الختم الخليفة ( رئيس وزراء السودان عام 1964 بعد سقوط نظام عبود ) .. كل تلك المحطات المذكورة في الاغنية الشهيرة "من الاسكلا وحلا" للشاعر الكبير ود الرضي تلحين وغناء الحاج سرور توقفنا عندها ولكن دون هبوط .. الجبلين كانت الأولى بعد كوستي ثم تتالت المحطات في القصيدة الرنك وجلهاك كاكا ملوط كدوك ملكال تنجا شامبي منقلا وجوبا. كانت فرصة ثمينة لمعرفة القليل عن النيل الأبيض الذي ينبع اساساً من بحيرة فكتوريا التي شاهدتها عام 1969 عندما جئنا مع الرئيس اسماعيل الازهري في زيارة الى الكونغو والتوقف في مطار عنتبي .. أراد الرئيس الأوغندي عيدي أمين الذي استولى على السلطة بعد ذلك أن يعدل اسمها الى اسمه اسوة بما فعله الرئيس موبوتو بتعديل اسم بحيرة ألبرت الواقعة داخل بلاده الكونغو/ زائير وأصبحت تسمى بحيرة موبوتو ومافي حد احسن حد فإذا كان الأوربيون قد أطلقوا اسمائهم على المواقع الافريقية فأهل افريقيا أولى بها ..
بعد عودتنا من جوبا بقليل حدث أهم حدث ( وكما يقولون هذه الايام حدس ما حدس) في تاريخ السودان ألا وهو التمرد في توريت الواقعة شرق الاستوائية قرب الحدود مع كينيا في 1955/8/18 وكان ذلك أول مسمار في نعش الوحدة السودانية، لكني مع صغر سني آنذاك اذكركم كانت جوبا جميله ومنعشه وبها كثير من الفواكه الاستوائية الأناناس والبابايا .. كما لا انسى شابة نزلت ضيفة عندنا ( كان والدنا مسئولاً عن تعليم البنات) قالوا لنا انها تخرجت لتوها من الجامعه ( التي كانت شيئاً غير مفهوم ليّ) فكانت بذلك بين الاوائل .. هي الاستاذه والمربية الكبيرة فيما بعد فاطمة طالب..
بعد عودة الاستقرار للجنوب وانتظام الملاحة النهرية جاءتني فرصة ثانية لرحلة اطول دامت شهراً كاملا ًلم أغادر فيه ظهر السفينة الى البر ..
كان والدي واعمامي قد قرروا اعادة شقيقتهم - عمتي مريم - من مريدي في غرب الاستوائية بعد ان تدهورت صحتها وهي تقترب من وضع طفلها الأول بينما لم يكن زوجها - ونقول عمنا - محمود حاج المهدي ( من أهلنا ناس الكوة ) في وضع يمكنه من مرافقتها الى الشمال خاصة وأحوال الأمن في الجنوب تتدهور والتمرد الذي بدأ في الشرق تمدد غرباً .. لكن البواخر بين جوبا وكوستي كانت منتظمة والأحوال العامة آمنه .. كانت الباخرة التى كنت على ظهرها تستعد عائدة الى كوستى بمجرد وصولها جوبا وانزال الركاب ثم صعود الآخرين المتوجهين عائدين لشمال البلاد .. استغرقت الرحلة اسبوعين بزيادة يومين وذلك بسبب انغراسها (انشحاطها) في الرمال التى تظهر وسط النهر جنوباً من ملكال او الجزء المسمى بحر الجبل .. أما الجزء الواقع شمال ملكال فتأتيه مياه اضافية من كل نهر السوباط القادم من الحبشة وكذلك بحر العرب القادم من بحر الغزال ( ويسميه الإخوة الجنوبيون نهر كير ." وهو اسم أقدم من السيد سلفا كير" ) ويمثل الآن - على ما اعتقد - حدوداً بين السودانيين الاثنين.
يتعرج بحر الجبل تعرجاً متعباً ومملاً يستمر ايام وايام ( ومن أراد المزيد عليه الرجوع لكتاب الان مورهيد المعنون النيل الأبيض .. وللمؤلف كتاب آخر هو النيل الأزرق وقد صدرا في العام 1964 و لقيا ترحيباً كبيراً في المجتمع الخرطومي حيث تمت ترجمتهما للعربية ترجمة جيدة أقبل عليهما مثقفو الخرطوم و السودان آنذاك بالاطلاع والاقتناء..
وجدت العم محمود حاج المهدي ومعه عمتي مريم وبرفقتهما طفلين في حوالي العاشرة أحدهما ابنه فاروق والثاني ابن شقيقه عباس حاج المهدي وصعدوا الى الباخرة التي استدارت ميممة الشمال ..بعد توقف عدة ساعات فقط في عاصمة المديرية الاستوائية حسبما كانت تعرف عندما كان بالسودان تسع مديريات ثلاثة بالجنوب هن بحر الغزال - وأعالي النيل .. عم محمود منحني أكبر مبلغ في حياتي آنذاك هو خمسة جنيهات عدت بها حتى الابيض وسلمتها لوالدتي وخالتي ستنا الفحيل التي كانت تقيم معنا .. استغرقت رحلة العودة ايضاً نحو أسبوعين بسبب المزيد من الانشحاط والنيل الذي كان في ادنى حالات جريانه ابتداء من منطقة منقلا الواقعه شمال جوبا بنحو تسعين كيلومتر .. وكان المفترض أن يساعد التيار في تقليص طول الرحلة بيومين عن رحلة الذهاب ( إلى جوبا ) التي تتم عكس التيار .. وهكذا احضرت لشقيقي الاصغر امين عبد الرحمن عروسه فالبنت التي وضعتها عمتي مريم بعد شهور قلائل من عودتنا للابيض شبت وعادت للجنوب لتعود عروساً من اجمل بناتنا لشقيقي الاصغر امين ..
نالت اسماً متداولا كثيراً وسط اخواتنا نعزه كثيراً فهو اسم جدتنا زينب( بت الفارس).. وهي الآن أم وجدة وترعى في ذات الوقت بنات أخيها فاروق الذي توفي قبل بضع سنوات عليه رحمة الله وسبقته ام بناته عليهما رحمة ..
حفظت أسماء كل المدن والقرى ولكني ازددت قناعة بانه يحب تطوير الخدمة اما بوسائل نقل اسرع واقل تكلفة أو تقصير المسافة بحفر قنوات صغيرة بين تلك المنعرجات الكثيرة .. كما جاءت فكرة قناة جونقلي لتوفير الماء المنساب في منطقة السدود والضائع بسبب التبخر ( وكنا نرى في الأطلس المدرسي المطبوع آنذاك في مصر وان لم تخني الذاكرة كان اسمه اطلس عبيد ) قناة جونقلي الممتدة بطول 300 كيلومتر من شمال بور إلى قرب ملكال .( ونفس الأطلس يبين حلايب وشلاتين داخل السودان مع مثلث آخر كبير داخل ليبيا الحالية ) . وعندما اتفق البلدان مع شركة فرنسية كبرى ( مرسيليا للأعمال الكبرى GTM ) لحفر الترعة كنت من أسعد الناس بها وأخذت اتحين الفرص لزيارتها على الارض بعد ان شاهدتها على الخرائط منذ المدرسة الوسطى (سن11-15) وكانت الشركة الفرنسية قد اتت بأكبر آلة حفر في العالم تماثل عمارة من ثمانية طوابق كانت تعمل في الباكستان فحضر معها مئات من العمال الباكستانيين وغيرهم .. ومن موقعي كمدير لإدارة غرب أوروبا بالوزارة اقبلت على الرحلات الداخليه في سوداننا العريض فسافرت يوماً مع القائم بالأعمال الهولندي الى بور ثم براً الى جوبا حيث شيدوا كبرى على نهر النيل ( بحر الجبل ) وسهلوا كثيراً التنقل بين ضفتيه .. ثم في العام 1980سافرت مع وفد ألماني إلى شرق الاستوائية ( مريدي ويامبيو وليرانقو ) ثم بحر الغزال ( واو ) ولكني ما ان بدأ العمل يتقدم في ترعة جونقلي الا وانفجر التمرد الثاني عام 1983..كنت وقتها قد انتقلت سفيراً لدى جمهورية الوسطى البعيدة عن العالم وكل شيء .. ليس بها صحف او تلفزيون او حتى سينما فكنا نعتمد اساساً على الاذاعات وبعضها يأتينا بصعوبه وكان أن ظهرت اذاعة الحركة الشعبية ( جون قرنق) التي كانت في الاصل اذاعة صوت الانجيل من اثيوبيا منقستو هايلي مريم .. والصحف السودانية التى تأتينا مرة في الاسبوع بتأخير يقارب الاسبوعين لتاريخ صدورها حملت لنا إحداها خبر تحرير " قواتنا الباسلة " لعدد من الرهائن الفرنسيين وآخرين اختطفتهم حركة التمرد في منطقة جونقلي .. وكلو تمام .. لكن شاءت الصدف أن جاءنا من الخرطوم سفير باكستان السيد صالح كوريجو المعتمد ايضاً لدى جمهورية أفريقيا الوسطى في زيارة قصيرة شأن كل السفراء غير المقيمين ..وحيث كنا في سفارتنا تلك نقوم بدور المضيف لكل من هو ات من السودان ( واحياناً الكويت والسعودية التي لم يكن لأي منهما سفارات في بانغي ) فكان أن حكى لي قصة الكراكه والعمال الباكستانيين الذين اختطفتهم بالفعل الحركة الشعبية ثم أطلقت سراحهم دون مواجهة مع " قواتنا الباسله "..
|استمع السفير لمواطنيه الذين اجلتهم الحكومة من جونقلي الى الخرطوم طالبةً منه اعادتهم لباكستان فوراً فحكوا القصة كاملة .. قالوا إنهم لم يروا اي جندي او ضابط من الجيش السوداني .. فكل الذي حدث يومذاك هو أن قوة مسلحة من الحركة الشعبية أحاطت بأحد المواقع التى كانوا موجودين فيها يقومون بعملهم العادي تحت إشراف رؤسائهم الفرنسيين فاختطفتهم على ظهر لوري ( شاحنة ) وذهبت بهم - دون شد أو جذب - الى مكان يبعد عدة كيلومترات حيث انزلتهم في بعض القطاطي في معسكر تابع لهم وابقتهم هناك عدة أيام ثم جاءت بعد ذلك بنفس اللوري وارجعتهم الى مكانهم الاول !! لم تستعمل ضدهم أي عنف كما لم تحرمهم من أكل أو شرب أو دواء كانت الحكومة وعلى لسان نائب رئيسها اللواء عمر محمد الطيب قد قالت إنها ستحرر الرهائن المخطوفين ثم أتت باعلان في الصحف أن ذلك قد تم ببسالة .. ونشرت احدى صحف الخرطوم صورة لقطية يقف أمامها جندي .. عاد الباكستانيون إلى بلادهم وكذلك الفرنسيون بعد أكملوا أكثر من من ثلثي حجم العمل (270ميلومتر ) راحت ياللخساره..
في مطلع العام 1986 سافرت مع الاخ اللواء اسماعيل صغيرون قائد القيادة الجنوبية على طائرته الخاصة ( نعم لقائد القيادة الجنوبية طائرة - طراز انتنوف كانت لنميري بصفته القائد الأعلى ) في مهمة دبلوماسية الى جوبا لمقابلة الرئيس اليوغندي الهارب من بلاده ولجوئه للسودان بعد ان استولى موسفيني على كمبالا العاصمة وفي جوبا انضم الينا اللواء بيتر سيرلو حاكم الاستوائية خلال المفاوضات التى توسطنا فيها بين وفد يوغندي جاء لمقابلة الرئيس اللاجيء تيتو او كيلو ( بعد سنوات قلائل جاءت " الانقاذ " فجمعتني بالاخ صغيرون في العاصمة القطرية الدوحة كلانا بلا ألقاب يقدم خبرته في مجال تخصصه .. وقلنا الحمد لله ) ..
في تلك الرحلة كنت حريصاً على مشاهدة تلك الكراكة العملاقة عندما طرنا عدة دقائق فوق القناة التى نمت فيها من جديد الاعشاب والاشجار وتهدم خطها المستقيم ذلك وتاكلت بعض أطرافه ..ياللاسف .. سنوات من العمل الفني الدؤوب وملايين من الأموال مليارات من الأمتار المكعبة من الماء تدفقت ثم تبخرت..
في رحلة سابقة مع وفد ألماني (غربي) برئاسة وزير التعاون الدولي الى جوبا ثم غرب الاستوائية ( مريدي ويامبيو وليانقو) حتى واو عاصمة بحر الغزال كان الناس متفائلون بالديمقراطية الممارسة في الجنوب دون الشمال الذي كمم نميرى أفواه برلمانه وحكام أقاليمه ثم فرض الشريعة و جوزيف لاقو كانت حكومته تترنح ، النيليون يتربصون به حتى أسقطوه .. كان نميري قد حاول منع الخمر ( بعد أن ارتوى هو نفسه منها .. وهكذا حكام العالم المستبدين) وقرر قفل مصنع البيرة الذي كان تحت التشييد في ضواحي واو بعد ان قاربت تكلفته عشرة ملايين دولار راحت هباء منثوراً.. رأيت الزجاجات المستوردة من بلجيكا وعلاماتها الورقية Trademark طائرة في الهواء حتى ملأت المنطقة .. ولكن هل توقف تعاطي البيرة ؟.. طبعاً لا .. وبتكلفة اكبر .. فالحدود مع الكونغو ( زائير) قريبة وشبه مفتوحة طوال الوقت ولذلك جرت البيرة البلجيكية مجري النيل وانتعش القوم ولم نسمع بأي مواطن جلد في الجنوب ..
ولكن ما لم استطع نسيانه في تلك الرحلة بعد مشاهدتنا لذبابة التسي تسي التي تسبب مرض النوم وهروبنا من أمامها عندما عرفنا طبيب أوروبي وزوجته في ليرانقو انها تطير من فوقنا فكان أن طار قلبنا والرجل وزوجته يعيشون وسط المرضى في غاية الاطمئنان ) هو أن حط رحالنا في معسكر للجزام اسال الله السلامه به عدد من المتطوعات الألمانيات حرص الوزير الألماني على زيارتهن وتقليدهن أوسمة تقديرية مستحقة حملها معه من بون العاصمة ( انذاك) لا يمكنك عزيزي القارئ - بعد أن تدخل الطمأنينة إلى قلبك وأنت هناك في ذلك المركز المعروف ب المركز القومي للجذام National Leprosy Centre ويسمى احياناً بـ مستعمرة الجذام إلا أن تنحني اجلالا لأولئك المتطوعين .. بنات شابات أتين من شمال جبال الالب وحتى بحر البلطيق ينثرن العطف والحنان في رقة وتفان عجيب على مرضى الجذام الذين أتوا من كل أطراف السودان وأكثرهم من الشمال .. فقدوا اطرافهم ولا يستطيعون المشي او المسك بالأشياء أو بأطفالهم المرافقين - وبعض النساء مرضعات كان هناك طبيب سوداني وحيد من أبناء الجنوب نال تدريبه كما قال في إثيوبيا .. ونال بالتالي استحساننا وشكرنا ..
من داخل السودان كنت انظر عبر الحدود الى شمال شرق الكونغو استعيد زيارتي لازيرو ( حكيت قصتها تحت عنوان قصة الهليكوبتر 1970) ثم اتطلع الى الحدود مع جمهورية افريقيا الوسطى حيث تلتقي البلدان الثلاثة وتسكنها قبيلة الزاندي فقد جيئتها العام1983 مع الرئيس السنترافريقاني الجنرال اندريه كولنقبا في رحلة داخلية حتى اوبو Obo القريبة من الحدود المشتركة والتي ينبع فيها نهر يحمل نفس الاسم يقول له السودانيون سورس ابو وهي التسمية فرنسيه Source Obo الذي يجري داخل السودان ليصب في نهر الجور الذي تقع عليه مدينة واو ثم يواصل جريانه ليصب في بحر العرب الذي ينتهي في بحر الجبل ( أو النيل الأبيض) قرب ملكال . كنت مع محدودية تخصصي في الجغرافية الطبيعية اتبين الحقائق على الأرض واسترجع تعابير ومفردات فنية مرت عليّ في المرحلة الثانوية مثل " خط تقسيم المياه" ونعرفه باللغة الانجليزية التي كانت لغة التدريس على أيامنا وكان المثل الذي ضرب لنا وقتها هو خط تقسيم مياه الكونغو والنيل Congo Nile Water Divide الذي يمثل الحدود الإدارية بين السودان وكل من الكونغو ( البلجيكي) وجمهورية أفريقيا الوسطى .. فالنيل الأبيض وفروعه يجري شمالا حتى الخرطوم بينما الكونغو وفروعه ( الاوبانقي والشاري) يجري جنوباً ثم غرباً إلى المحيط الأطلنطي .. في العام 1985 جاءتنا دعوة من وزير خارجية مصر الدكتور بطرس غالي لاجتماع في القاهرة لدول حوض النيل اسموه " انديقو" وتعني " الصداقه "كانت جمهورية أفريقيا الوسطى حاضره فيه وكنت انا قادماً منها واعرف انها ليست من دول حوض النيل ولكنه لم يكن مستغرباً أن تسعى مصر لدى كل الدول كبيرها وصغيرها من أجل كسب كل نقطة ماء ( أو تأييد سياسي) .. اخذونا بطائرة هيلكوبتر حتى الإسكندرية لمقابلة الرئيس حسني مبارك الذي كان يمضي الصيف في قصر فخم وعدنا بعد لقاء دام فقط عدة دقائق ..
( لمصر سفارات وبعثات دبلوماسية تفوق لما ألمانيا .. وسفارتهم في بانغي - حيث أمضيت أربعة أعوام اكبر ولهم بعض الخبراء ( أطباء وزراعيين ) بينما نحن دولة مجاورة ( حتى بعد انفصال الجنوب الذي نال الجزء الاكبر من الحدود فتبقى للشمال ذلك الجزء المجاور لجمهورية تشاد حيث تقع بحيرة أم دافوق .. في الآونة الاخيرة ومع ظهور أزمة سد النهضة والتصعيد الإعلامي مع إثيوبيا بل والتهديد بالحرب وابراز العضلات - وهو أمر مضحك لأنني استذكرت فوراً ما كان يقوله المصريون عام 1990 من أن صدام حسين قد أرسل بعض صواريخه لحسن الترابي وجماعته لضرب السد العالي .. كنت وقتها قد جئت مصر طافشاً من نظام الانقاذ الذي قطع عيشنا و بعثرنا في الأرض .. فما أن يحادثك مصري ( اي مصري) في مقهى او مركبة او في الشارع الا ويبادرك بالسؤال "ليه عايزين تضربونا بالصواريخ .. ليه عاوزين تهدوا السد العالي ؟" كان يصعب الرد فهم لا يفهمون انك انت اول المضروبين وإن حسن الترابي كذاب أشر لكنه وجد ضالته فيهم .. كنت قبل ذلك قد قابلت صدام حسين ( في العاصمه الايرانيه طهران ) فعرفت انه اكبر الكذابين .. لكن ماذا نفعل يا ناس اذا كان البعض يستغل جهل المساكين ليدخل الرعب في نفوسهم .. دعوني اكمل الجملة أعلاه فأقول إن مصر أعلنت أنها ستحل مشكلة الماء بالاتجاه للكونغو بحفر قناة ضخمه تأتي بالماء من منطقة كسنقاني حتى جنوب السودان ثم مع النيل الأبيض عبر المستنقعات ( السدود) ثم من جبل اولياء حتى منحنى النيل الكبير في الدبه .. كما قلت وأكرر لست انا بالخبير في مثل هذه الاعمال الهندسيه والمائيه ولكن يصعب عليّ تصديق مثل هذا المشروع الذي ان اراد احدهم ان يقدمه لنا فعليه أن يتحدث عن عشرات السنين ومئات المليارات من العملات المختلفة بعد أن نفترض موافقة دول المصدر والمجرى ( الكونغو وجنوب السودان ثم السودان ) .. تذكرت انه قبل سنوات عندما انتشر مرض الإيدز ( نقص المناعة ) وقال البعض أنه جاء من اواسط افريقيا ان اعلنت مصر و الكونغو / زائير وأمام كاميرات العالم بحضور الرئيسين مبارك / و موبوتو سيسيكو أن أطباء وعلماء البلدين قد توصلوا إلى علاج بينما كان السباق على أشده بين العلماء الفرنسيين والامريكان وبالطبع لم نرى ذلك الدواء المصري الكونغولي خاصة وقد راح القائدان أحدهما طريد بلاده بعد 32 عاماً قضاها في الحكم والثاني الى قفص الاتهام بعد ثلاثة عقود كان يريد أن يختمها بتوريث ابنه .
النيل الابيض هو شريان الحياة لنا ولاخوتنا في الجنوب وسيظل قناة تواصل بيننا .. علينا اعادة بناء أسطول نهري على نحو ما فعلناه عام 1979عندما استطعنا من موقعنا في وزارة الخارجية السودانية أن نقنع وزارة التخطيط الاقتصادي تحت قيادة الوزير المهندس نصر الدين مصطفى بقبول العرض النرويجي المتمثل في ثمانين (80) جراراً نهرياً وصندلاً وخزاناً كانت إدارة النقل النهري قد استعانت بنا بعد أن سد الآخرون الدرب امامهم فذهبنا - فرانسيس دينق وزير الدولة بالخارجية وشخصي الضعيف مدير إدارة غرب اوربا إلى وزارة التخطيط و برفقتنا مبعوث نرويجي (سفير سابق لبلاده) تمت الصفقة بنجاح واشتغل الخط الى أن جاءت الانقاذ وقامت بالهدم ..
اوراقي القادمة :- من طابا الى طنجه
farhmaneisa@gmail.com