أي خطى مشاها؟! ..لمحات من سيرة الراحل أحمد سليمان
د. محمد وقيع الله
5 April, 2009
5 April, 2009
waqialla1234@yahoo.com
أحمد سليمان واحد من السياسيين السودانيين القلائل الذين كان لهم اهتمام حقيقي بالثقافة والكتابة، وفي أكثر أحاديثه الذكية اللماحة الطريفة، كان يزاوج بين الهموم السياسية والثقافية بصورة لا تكاد تتخلف.
لذا لم يكن غريبا أن يعمل بالكتابة الصحفية، لبرهة من عمره، في صحيفة (الراية) وغيرها، ولا أن يصدر مذكراته السياسية في جزءين كبيرين، ونرجو أن يكون قد أكمل، قبل اكتمال حياته، الجزء الثالث منها والأخير.
وقد عمرت مذكراته التي أصدرها بعنوان( ومشيناها خطا.. صفحات من مذكرات شيوعي اهتدى) بمعلومات كثيفة كشفت عن الكثير من خبايا الحياة السياسية، والصراع الحزبي التقليدي، قبل الاستقلال.
كما كشفت من جانب آخر، عن الجنين الحزبي، الذي يتكون في خارج رحم الحياة السودانية، والذي أتيح له من بعد أن يلعب دوراً كبيرا، وأن يكون من ألمع نجوم المسرح السياسي، وأكثر ممثليه حركة وديناميكية، وهو الحزب الذي مثل جماعات اليسار، منذ تجمعها في حلقات (حمتو) و(حدتو)، و(حستو)، بمصر، وحتى تبلورها فيما بعد، في التيار الناشط، الذي كاد أن يكتسح الوسط السياسي، والثقافي، في أواخر ستينيات، وأوائل سبعينيات القرن الماضي، وهو تيار الحزب الشيوعي السوداني.
اعتصر أحمد سليمان في مذكراته حلقات حياته الأولى، في خدمة الحزب الحزب الشيوعي السوداني. بادئا بقصة انتقاله إلى مصر لطلب العلم، والتقائه هناك بمن عرض عليه الفكرة الشيوعية، ونظمه في سلك الحزب. وجاءت سيرته الذاتية بطعم خاص، وملاحظات متعمقة نافذة، في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، وصارت أقرب إلى سيرة حزب في رجل، منها إلى سيرة رجل في حزب!.
انتبه أحمد سليمان إلى ناحية الضعف الخطيرة في الحزب الشيوعي السوداني، المتعلقة بدور الأجانب فيه. وهي الناحية التي أرابت قبله بعض كبار الشيوعيين الحركيين، مثل شهدي عطية الشافعي، الذي لم ينسلخ من الحزب مع ذلك، أو الذين انسلخوا من الحزب بقوة، وناهضوا الشيوعية نفسها كفكرة، مثل نهاد الغادري، ومحمد جلال كشك، وطارق البشري وغيرهم.
كشف المستور والمنكور:
وفي سياق تعقبه لدور الأيدي الخفية في توجيه الحزب الشيوعي السوداني، في أطوار نشأته الأولى، أورد أحمد سليمان معلومات كثيرة، منها قوله إن أول من نظم دراسة الماركسية، وسط السودانيين، كانوا ثلاثة من الأرمن، قضوا ثلاث سنوات بالسودان وهم: أرتين أركيان، وكان ميكانيكيا بمصلحة الوابورات، وبادارنيس ساهورتيان، وكان يعمل بالاشغال العمومية، وأنيس ظهربيان، وكان وكيلا تجاريا للترحيل.
وقد برزت أولى ثمار عملهم حلقة تنظيمية كان أعضاؤها كل من: علي أحمد صالح، ومحمد خير المرضى، وفرج الله سعد، وإبراهيم موسى، وكانوا من الموظفين والعمال. ويقول أحمد سليمان إن هذا التنظيم البكر قد اندثر بعد مغادرة الأرمن لأرض الوطن.
ولكن قبل ذلك سجل زعيم أعضاء هذه المجموعة التنظيمية الأولى، وهو على أحمد صالح، ارتكاسة كبيرة، في تاريخ الحزب والوطن بتحوله إلى شاهد ملك في محاكمات جمعية اللواء الابيض، في سنة 1924م.
ثم انقطع وجود الماركسية في السودان قرابة عشرين عاما، لتتأسس من جديد مع قدوم مستر ستوري إلى السودان، وهو عسكري إنجليزي، كان عضوا في الحزب الشيوعي البريطاني، وعمل وكيل عريف في جيش المستعمرات. وكان من أوائل حواريه كل من الأساتذة أحمد زين العابدين، وحسن الطاهر زروق، وحسن محمد حامد، والطاهر السراج، وعبد الحميد أبو القاسم. وقد قام هؤلاء بتجنيد نفر من كبار الشيوعيين، من أمثال الطاهر عبد الباسط، وتعهدوا أحمد سليمان بالتوجيه الفكري، وذلك في أولى مدارجه بالحزب.
ولدى خروج مستر ستوري، تولى مهمة نشر الدعوة الماركسية بالسودان (مسؤول) إنجليزي آخر، هو مستر (دكتسون). وقدعمل هذا مدرِسا في بالسودان، في أواسط الأربعينات، ونشط هو وزوجه فى بث دعاية الحزب في أوساط الطلاب.
وهذه البداية الثانية وبالرغم من أنها جاءت في أيام الحرب الثانية، أثناء قيام التحالف الروسي البريطاني، ضد الفاشية، إلا أنها لم تكن بداية مشرفة، هي الأخرى ، إذ أنها قادت الحزب إلى الوقوف مع أقصى اليمين، في رفض الحكم الذاتي للسودان، وفي الوقوف حتى من دون اليمين، في تأييد حق اليهود في بناء دولتهم في فلسطين.
وأما النشأة الثالثة فقد كانت في رحم تنظيم حمتو (الحركة المصرية للتحرر الوطني). وكان هناك الزميل (راشد) وهو الاسم الحركي لعبد الخالق محجوب، الذي كان هنري كورييل قد صعَّده بالعمود، إلى عضوية اللجنة المركزية للحزب، متخطيا بذلك السلم التنظيمي، وضاربا بلائحة الحزب عُرْض الحائط، إذ كان قد تنبأ بمستقبل لامع له، ومن ثم حرص على تشبيعه بروح المسئولية، وتدريبه على فن القيادة. وفي هذه النشأة اتصل أحمد سليمان بزعيم الحركة الأكبر هنري كورييل، وببعض قادتها المحنكين من أمثال (عبده دهب حسنين) وأحمد زين العابدين.
الفتي المشاغب:
وفي حديثه عن ماضيه تحدث أحمد سليمان بصراحة عجيبة مذهلة، تضاهي صراحة سيدنا مالكولم إكس في حديثه عن ماضيه الذي انزلق فيه إلى القاع، وخاض به في بؤر الجريمة، والمخدرات، وتجارة الجنس، ثم صعد منه إلى ذرى المجد والألق الفكري، والسياسي، والديني، الذي انقطعت دونه أعناق كل السود في أمريكا منذ أواسط القرن الماضي.
لم يحاول أحمد سليمان أن يخفي من وقائع ماضيه المهين أي شيئ، ولم يركز على سلبيات الحزب وحدها، وإنما ذكر معها سلبياته الشخصية، جنبا إلى جنب، ابتداء من قصص لهوه بصاحبتهم الإغريقية، التي عاشوا معها، والتي كانت تتفجر شباباً، وتفيض حسناً، ولا تنأى عن خطيئة، ولا تأبى معصية، وإلى سائر أخطائه في السلوك الحزبي والشغب السياسي الذي استهواه.
وحدة السلوك السياسي لأحمد سليمان، هي الظاهرة التي ميزته بين اليساريين السودانيين، تماماً كما ميزت الزعيم الكبير، أحمد خير، حدته، وفصمته عن فريقه من الاتحاديين. وكلا الرجلين كان، فيما بدا، غير منضبط تنظيميا ولا راعيا بقيوده في إسار الحزب!
وربما كان لذلك صلة بالطبائع الاتحادية. فقد كان أحمد سليمان قبل انضمامه إلى الحزب الشيوعي، اتحادياً متعصباً للزعيم الأزهري، ومراعيا لتوجيهات يحي الفضلى، ولا يسعه أن يسمع كلمة نقد واحدة في الاتحاديين. وقد أتعب كل من حاولوا تنظيمه في الحزب الشيوعي، وعلى رأسهم عبدالخالق محجوب وعبده دهب حسنين، إذ لم يسمع لقولهم بعد أن انتقدوا الزعيم الأزهري.
وبعد تجنيده في صف الحزب الشيوعي، لم يصبح أحمد سليمان عضوا منضبطا، إذ أفشى في الأيام الأولى سر انضمامه للحزب، رغم تحذيرات أحمد زين العابدين له من مغبة التحدث بالأسرار. وواصل سيرته في النزق والفوضى، جامحاً، شرساً، نزقاً، مسارعاً بالإثم، والعدوان، والطيش، والاستفزاز، كما وصف نفسه. وأدى ذلك إلى تطبيق عقوبات لائحة الحزب مراراً عليه، كما أدى به إلى ارتياد السجن مرارا.
نزعة دينية عند شيوعي:
وإذا كان بعض شغب الفتى أحمد سليمان قد تمثل في المشاكسة والعبث، فإن بعضه الآخر تمثل، كما تصورته قيادة الحزب العليا، في إقامة أحد أفراد الحزب للصلاة، وإصراره على إقامتها في مواقيتها، حتى في أثناء الاجتماعات.
وهذه النزعة الدينية عند أحمد سليمان أثارت حنق القائد الشيوعي الأعلى، اليهودي هنري كورييل، الذي تجرأ على أحمد سليمان، ووصمه بتهمة الهوس الديني، عندما جاهر بمعارضته لمشروع التقسيم، الذي أقرت به الأمم المتحدة إنشاء دولة إسرائيل، في أراضي الفلسطينيين.
حافظ أحمد سليمان على إيمانه الديني، حتى وهو ماركسي، ونحن نصدقه في ذلك، ونأخذ منه درسا وعبرة مهمة، ينبغي أن ننتبه إليها، ونراعيها عندما نحكم على مستوى الواقع، لا على مستوى النظر. فنمتنع عن تكفير الأفراد الشيوعيين، ما لم نسمع من أحدهم، تخصيصا، لا تعميما، قولا صريحا، لا يحتمل تأويلا يبعده عن دائرة الكفر.
ويجب ألا نتجرأ أبدا على تكفير الناس، لمجرد انسياقهم في تيارات فكرية، أو سياسية، لا تتفق مع الإسلام!
خروجه عن الحزب الشيوعي:
وقد احتمل الحزب الشيوعي أحمد سليمان رغم ما كان يبدر عنه من هرج تنظيمي متواصل. وربما كانت صداقة أحمد سليمان الحميمة مع زعيم الحزب عبد الخالق محجوب، وائتمان الحزب له على أسرار تنظيمه العسكري، وراء احتمال الحزب له مهما فعل.
يزكي هذا تفسيرنا هذا ويعضده اعتراف أحمد سليمان بأنه كان سادرا ومنخرطا في أعمال التجاوز والغي التي ارتكبها الحزب ضد أعضائه الذين أفصحوا عن أفكار معارضة لأفكار عبد الخالق محجوب. حيث فصل كل منافس، تلوح منه بوادر الرأي المستقل، والأصالة الفكرية، من أمثال عوض عبدالرازاق، ومحمد السيد سلام، وقاسم أمين، ومختار عبيد، وغيرهم ممن اتهموا في فترات متقدمة بالميول اليمينية، والتطلعات الزعامية، وغير ذلك من التهم التي كان يضج بها قاموس الحزب الشيوعي، وأصبح يضج بها في هذه الأيام موتورو المؤتمر الشعبي!.
ومن أمانة أحمد سليمان، وشفافيته، أنه لم يحاول أن ينكر أخطاءه، أو يعفي نفسه من المسئولية، وبادر فأدان تصرفاته التي انسجمت مع تصرفات الحزب المتطرفة ضد بعض من اتهموا بالتطلع: " نقول ذلك ولا ننكر مسئوليتنا ومساهمتنا فيما أصاب عوض عبدالرزاق، من غبن، وتجن. وقديماً قال أهلنا الطيبون (التسوي كريت في القرض تلقاه في جلدها!) .
وجزاء وفاقا ألفى أحمد سليمان نفسه أخيرا مفصولا من اللجنة المركزية للحزب، ضمن اثني عشر عضواً، هم نصف أعضاء اللجنة الذين فصلهم النصف الآخر!
التحالف مع النميري:
ويبدو أن أسباب نزاع بين أحمد سليمان، مع زعامة الحزب الشيوعي، كانت أعمق من الأسباب التي أعلن عنها الطرفان, وهي الأسباب المصطنعة الواهية التي بدت في مقاله الذي نشره بصحيفة (الأيام) في عام 1968م، ودعا إلى إعادة النظر في ميثاق أكتوبر الذي أعده الشيوعيون.
يبدو أن هذه الأسباب كانت في الطبائع المتباينة، فقد كان هو شخصا عفويا، متعجلا، سريع الخطو، شديد الإيمان بالحل العسكري لأزمة العمل السياسي بالسودان.
ورغم أنه علمه أن الحزب الشيوعي كان يمهد بجدية لعمل انقلاب عسكري، إلا أنه استبطا عمل الحزب في هذه الناحية، وبقي قليل الثقة بجدواه، ولذلك ما أن أعلن النميري عن انقلابه في عام 1969م حتى رمى بثقله وراءه، ونبذ الحزب وراءه ظهريا.
الدعوة إلى انقلاب الإنقاذ:
وعندما استفحلت الأزمة السياسية، مرة ثانية، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، في أيام الصادق المهدي، بذل أحمد سليمان قصارى جهده لإقناع قادة العمل الإسلامي، لتنفيذ انقلاب عسكري يحمون به الحركة الإسلامية، ويجنبون به البلاد نذر الشر التي نشرتها حركة التمرد.
وما أكثر ما تحدث بهذا الأمر، مع من يظن بهم الفطنة، من حضور مجالسه الخاصة، وقد سمعت الدكتور حسن الترابي يتحدث ذات مرة عن أحمد سليمان، وقد عرضت سيرته في مجلس، فقال عنه ضاحكا بمرح وحب: هذا شخص لا يريد من إلا أن ننفذ انقلابا عسكريا اليوم قبل الغد!
وبالطبع فلم تكن لأحمد سليمان أدنى معلومة عن نفوذ الحركة الإسلامية الضارب وسط العسكر، ولا عن استعداداتها الجادة الماضية في تلك الأيام بالذات لتنفيذ انقلابها العسكري.
ولكن أحاديثه الشفوقة الصدوقة الناصحة، ربما شحذت عزم الحركيين الإسلاميين لإنفاذ الانقلاب، وانقاذ البلاد به. وقد عرفت أنهم قد أيقظوه عند الرابعة صباحا، يوم الانقلاب، ليخبروه أن ما طفق ينادي به، قد نفذ قبل ساعات!
رحمة الله تعالى على عبده الصالح المصلح شيخنا أحمد سليمان، فقد كانت في حياته عبرة لأولي النهى، وكان انتقاله من ظلام الماركسية إلى نور الإسلام حدثا عظيم الفائدة والتأثير.