“أَوْكارٌ المجرمين”: حفظ الشرطة للنظام في مناطق شمال السودان شبه الحضرية بين عامي 1964 – 1989م .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


" أَوْكارٌ المجرمين": حفظ الشرطة للنظام في مناطق شمال السودان شبه الحضرية بين عامي 1964 – 1989م
“Nest of Criminals”: policing in the peri-urban regions of Northern Sudan, 1965 – 1989
Willow J. Berridge ويلو جي بيرديج
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لمقال طويل نشرته الدكتورة ويلو جي بيرديج في عام 2012م بالعدد السابع عشر من "مجلة دراسات شمال أفريقيا The Journal of North African Studies" (وهي دورية أمريكية تصدر عن المعهد الأمريكي لدراسات المغرب العربي). ويدور المقال حول الاستراتيجيات التي تبنتها الشرطة السودانية حيال الهجرات التي قام بها سكان المناطق الريفية الطرفية إلى المناطق الحضرية، خاصة العاصمة. وكاتبة المقال هي الدكتورة البريطانية ويلو جي بيرديج، والتي تعمل محاضرة بجامعة نورثهامتون البريطانية، وسبقت لها الدراسة والعمل من قبل في قسم التاريخ بجامعة درم البريطانية، حيث نشرت عددا من المقالات المحكمة عن أجهزة الأمن والشرطة والسجون في السودان، ومقالا عن الثورة المصرية على نظام حسني مبارك، وكتابا صدر حديثا عن دار بلومزبيري للنشر ببريطانيا بعنوان "الثورات المدنية في السودان الحديث" عن ثورتي "الربيع العربي" في السودان عامي 1964م و1985م. وكان عنوان أطروحة الكاتبة من جامعة درم هو: "تحت ظل النظام: تناقضات العمل الشرطي في السودان بين عامي 1924 و1989م".
Under the Shadow of the Regime: The Contradictions of Policing in Sudan, c.1924-1989
وأعدت الكاتبة مؤخرا دراسة مطولة (monograph) عن دكتور حسن الترابي ستنشر قريبا.
ذكرت الكاتبة في نهاية مقالها قائمة بأسماء من أجرت معهم مقابلات (interviews) لأغراض هذا البحث في الخرطوم ودرم بين 6/10/2009م و21/12/2011م، منهم دكتور عبد الله علي إبراهيم، وعصام طه البشير وأكاديمي سوداني بدرم (لم تسمه)، ومواطن من الخرطوم، وآخر من أم بدة، وأربعة من ضباط الشرطة لم تسمهم، بل أشارت إليهم بالحروف أ، ب، ج، د.
أشكر المؤلفة لتكرمها بمدي بنسخة من هذا المقال، مع تحفظي على بعض ما ورد في المقال من آراء قطعية dogmatic
المترجم
********* **************
أثارت وفاة قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق (والذي عين نائبا لرئيس السودان) في يوم الاثنين، الأول من أغسطس 2005م، موجة احتجاجات عنيفة حول مدينة الخرطوم من النازحين الجنوبيين وغيرهم، والذين كانوا يعدونه بطلا. واستهدفت تلك الاحتجاجات هم من يحسبونهم - على أساس عرقي محض- من أفراد النخب النيلية. وتراوحت استجابات الشرطة لتلك الأحداث بين استخدام القوة المفرطة إلى التقاعس التام عن عمل أي شيء. فبحسب ما ورد في أخبار هيئة الإذاعة البريطانية ومن مصادر بعض منظمات حقوق الإنسان، فقد استخدمت الشرطة القوة المفرطة لطرد المتظاهرين من وسط العاصمة، ولكنها لم تبد ذات الحماسة في المناطق الشعبية الفقيرة في أطراف العاصمة مثل الحاج يوسف والكلاكلة وسوبا ودار السلام والمعمورة (يبدو أن الكاتبة قد أوردت الحي الأخير خطأ! المترجم)، مما سمح بتصاعد العنف في تلك المناطق. وقتل في أحداث يوم "الاثنين الأسود" تلك 130 من المواطنين، معظمهم في تلك المناطق الفقيرة المذكورة. وهنا يبرز السؤال عن سبب التباين الشديد بين مستويات الأمن في المناطق الوسطية والمناطق الطرفية في العاصمة في يوم "الاثنين الأسود" والذي تشابهت أحداثه مع أحداث يوم "الأحد الأسود" في 1964م، والذي يؤكد نمط تعامل الشرطة المتقاعس دوما عن التعامل مع الجريمة ومظاهر العنف في المناطق الطرفية. وتلك سياسة واستراتيجية بدأها الحكم الاستعماري، ولم تتخلص منها كل حكومات عهود ما بعد الاستعمار، والتي تتلخص في حماية مدخل البلاد (gateway) إلى العالم الخارجي (وهي هنا المناطق التجارية بالعاصمة). ويحاول هذا المقال أن يناقش فرضية أن الوجود المحدود للشرطة في المناطق الطرفية لا علاقة له بالكثافة السكانية والتحديات المحلية (territorial challenges) فحسب، ولكنه أيضا وثيق الصلة بالطموح المتواضع للحكومات، والتحيزات غير المسببة (prejudices) عند العاملين فيها، ومتابعة الحكومات الوطنية (رغم توسيعها للخدمات الشرطية) لحكومة الاستعمار في مواصلة سياسة واستراتيجية حماية العاصمة والمدن النيلية الكبرى بشمال السودان، حيث توجد (بحسب عبارة البروفيسور عطا البطحاني) "كتلة القوة النيلية العربية المسلمة". وتقوم هذه الكتلة في رأي البروفيسور عبد الله عثمان التوم بالعمل على حصر الوظائف في أفراد القبائل بشمال السودان، وفي تنمية وتطوير مناطقها. وبحسب ما جاء في كتاب عامر إدريس عن "صراع وسياسيات الهوية في السودان " فإن السودان قد انقسم بسبب تلك التحيزات إلى "مواطنين سودانيين نيليين يعرفون أنفسهم بأنهم عرب" و" تُبَّع مجتثي / منبتي الهوية de-individuated subjects"، وإلى دولة واحدة مقسمة بسبب الصراعات الثقافية والسياسية إلى دولة "متحضرين" و"همج".
وتواصل وتعضد هذا الفصل والشقاق بين المركز والأطراف مع استمرار سيطرة الأحزاب المختلفة وزمر البيروقراطية والعسكرية على الأفرع التنفيذية والأمنية للدولة السودانية بعد الاستقلال. غير أن بعض رجال الشرطة دأبوا على اجترار السلوك والمواقف الاستعمارية المؤكدة لاختلاف وغربة وغيرية (otherness) مناطق السودان الطرفية، والتي تميزت بقدرتها على الانكماش والمرونة تجاه النظم الشرطية الحديثة التي تتعامل مع المجرمين على أساس فردي. وشكل تعامل الشرطة سلوك ومواقف النازحين والمهاجرين من المناطق الطرفية هربا من المجاعات والحروب والركود الاقتصادي في مناطقهم. وكان نهج الشرطة (بعون من وسائل الاعلام) في تلك المناطق هو التصدي لمخالفي القانون باستخدام العنف المفرط والعقاب الجماعي، أو تشجيع سكان تلك الأحياء على ضبط الأمن بأنفسهم بالقيام بدوريات حراسة (مدنية) في مناطقهم.
لقد ساهمت الشرطة بأدوار مهمة في عملية التمدين (urbanization) وتشكيل طبيعته بالسودان. فقد كان البعض يرون أن عملية التمدين وتوسع المدن من شأنه أن يخلق "بوتقة انصهار melting pot" تذوب فيه الأعراق المختلفة، وتفقد تدريجيا روابطها التقليدية، بينما كان البعض الآخر يرون أن تمدد المدن لم يأت بغير مزيد من تأكيد الفوارق العرقية والتفاوت الاجتماعي الموجود أصلا. فغدت تخوم المدن (خاصة الخرطوم) جامعة لكل أدواء الريف، وغدت في نظر الشرطة مصدرا وحاضنة للمجرمين، وعضدت ممارسات الشرطة من ذلك الرأي بتبنيها لاستراتيجية وسياسة تقوم على حراسة المناطق الأكثر ثراء في المدن من أخطار سياسية واجتماعية متصورة / متخيلة مصدرها الريف والمناطق شبه الحضرية حول المدن. ويعتقد البعض أن ذلك عضد من قيام نظام لمواطنة غير متكافئة (unequal citizenship) تقوم بموجبها الشرطة بتمييز المواطنين عن طريق نظام البطاقة الشخصية التي تميز المهمشين الآتين من الأرياف من النخبة الصفوية في المدن، بحيث بدت الحدود بين الخرطوم والمناطق الريفية وكأنها حدود دولية.
غير أن أمر الفروقات والصراعات بين المركز والهامش ليست يسيرة الفهم كما صورها البعض. فقد حدث أن استغلت جماعة (مدنية) تقيم بالعاصمة جماعات تعيش في الأقاليم لتحقيق مآربها. فعلى سبيل المثال أتى عبد الله علي إبراهيم في مقابلة لي معه على استخدام حزب الأمه أنصاره في الريف في "أعمال شرطية" ضد الشيوعيين في ستينيات القرن الماضي، وقبلت الدولة في السبعينيات والثمانينات بحتمية "تهميش peripheralization" رجال الشرطة بصورة هددت "اللياقة النيلية Nile Decorum " التي أسستها النخبة النيلية التاريخية (ربما كان المقصود هو "حسن التصرف" أو "أدب المهنة" عند النيليين؟! المترجم)

مواقف الشرطة من المناطق شبه الحضرية في المدن النيلية
أعطت أحداث يوم 6/12/1964م بالخرطوم (والتي عرفت بيوم الأحد الأسود/ الدامي)، والتي خرج فيها الجنوبيون في مظاهرات عنيفة قابلها الشماليون بالعنف أيضا، مثالا باكرا لعدم قدرة أو عدم رغبة الشرطة لمعالجة أمر التحديات التي يفرضها وجود القادمين من الأطراف للعاصمة على نظام شرطي مبني على أساس الفصل بين المناطق الحضرية والريفية. وزعم بعض الجنوبيين (مثل بونا ملوال في كتاب له صدر في عام 1981م) بأن الشرطة ساندت الشماليين في تلك الأحداث، بينما ألقت بعض الصحف السودانية (مثل الرأي العام في 9/12/1964م) باللوم على الشرطة لعجزها عن مراقبة توافد الجنوبيين على العاصمة.
وربما يعزى عجز الشرطة السودانية عن أداء واجباتها الشرطية في المناطق شبه الحضرية في المدن النيلية لعدم تمكنها من اللحاق بالمعدل السريع للهجرة للمدن، ولا غرو، فقد ارتفع عدد سكان العاصمة من 250000 نسمة في عام 1956م إلى 3000000 نسمة في عام 1993م، نتيجة الهجرة من الأقاليم بسبب الجفاف والمجاعات والحروب، وأيضا بسبب السياسات الاقتصادية في عهود ما بعد الاستعمار التي جعلت العيش في المدن أكثر جذبا لسكان الريف. وكان ينظر لتلك الهجرة للمراكز الحضرية بحسبانها تهديدا للنخبة الحاكمة، إذ أن تلك النخبة الشمالية الأصل كانت ضعيفة الصلة بمناطق شرق وغرب وجنوب السودان. ودأب ساسة السودان وإداريوه ورجال شرطته على تصوير الهجرة للمدن باعتبارها "ترييفا rularization " للمدينة. ويرى البعض أن الخشية من هجرة سكان الريف للمدن مصدرها هو خوف الدولة من أن ينقل هؤلاء المهاجرون أشكالا جديدة من الارتباطات تتجاوز القيم الريفية "التقليدية". غير أن توصيف الحكومة والشرطة لتلك المناطق شبه الحضرية بأنها مناطق ريفية وهامشية وغريبة وفر لهما تبريرا لمعاملتها بحسبانها مصادر للجريمة، وبالتالي حرمانها من نفس المعايير الشرطية التي تطبقها في المناطق الحضرية الأكثر ثراء.
تصورات الشرطة للمناطق شبه الحضرية
صور سعيد محمد أحمد المهدي (عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم، والشخصية المحترمة عند كبار ضباط الشرطة) في كتابه "الجريمة والعقاب" الصادر من دار نشر جامعة الخرطوم في 1971م التخوف الذي يسود عند النخبة النيلية من سكان المناطق شبه الحضرية في المدن. فهو يعزو تفشي الجريمة في المدن السودانية لـ "بيوت المريسة" - فهي بحسب قوله - ملتقى الطبقات الفقيرة من مختلف قبائل جنوب وشمال وشرق وغرب السودان، وعند احتساء كميات كبيرة من تلك المريسة تثور بين الرجال من قبائل غرب السودان اشتباكات مع رجال القبائل السودانية الأخرى (صفحة 110 من ذلك الكتاب). وذكر أيضا دأب بعض رجال قبائل (مهمشة) على السرقة من بيوت مخدميهم (صفحة 111). ووصف مخيمات المهاجرين في أطراف المدن بأنها " أَوْكارٌ للجريمة" وأنها "قرى قبلية". وذكر لي ضابط سابق للشرطة في مقابلة لي معه بأن الشرطة تعتبر تلك الأماكن "مناطق جرائم مليئة بالعطالى الذين هجروا قراهم حيث كان ينبغي أن يبقوا فيها ويعملوا بالزراعة"، وأن غالب جرائم القتل والسرقة يرتكبها هؤلاء المهاجرون. وأشار إلى أن القادمين من مناطق معينة يثيرون حفيظة رجال الشرطة أكثر من غيرهم. وأقترح سعيد محمد أحمد المهدي علاج مشكلة النزوح للمدن عن طريق المراقبة اللصيقة للمسافرين بين المناطق الريفية والمدن، وإنشاء صناعات ومشاريع زراعية في الأقاليم تستوعب هؤلاء المهاجرين. وطابق ما ذكره سعيد محمد أحمد المهدي ما جاء في الصفحة رقم 106 من تقرير الحاكم العام الصادر في عام 1932م والذي جاء فيه أن "سبب ازدياد معدل الجريمة في البلاد في السودان النيلي هو هجرة سكان غرب السودان والدهماء (riff -raff) من مناطق السودان الأخرى". وعاد بأسباب انتشار الجريمة في المدن إلى عدم اضاءة الشوارع، وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل، وقلة أعداد الهواتف مما يجعل الاتصال بالشرطة أمرا عسيرا، وينتج عنه وصول الشرطة لمكان الجريمة بعد وقت طويل من وقوعها.
وكانت تحيط بالمجرمين القادمين من أصقاع الريف أساطير عجيبة، ترسخت في أذهان العامة والشرطة أيضا في المدن. من ذلك ما رواه نعيم محمد في كتابه "من ملفات الجرائم في السودان"، والذي أورد فيه قصصا عديدة منها قصة أن أحد هؤلاء كان قد هاجر للخرطوم في منتصف الثمانينات. وأشيع عن الرجل أنه "مصفح ضد الرصاص" بسبب "حجاب" يلبسه دوما. وجد الكاتب أن الوسيلة الوحيدة لضرب الرجل بالرصاص هو أن يتبول على الرصاصة التي كان سيصوبها عليه. توضح هذه القصة هو أن بعض العاملين بالشرطة في المناطق شبه الحضرية (مثلهم مثل من سبقوهم من رجال الشرطة البريطانيين) كانوا يؤمنون بغموض وسحر سكان تلك المناطق وعدم خضوعهم لأساليب التقنية الحديثة، ولنظام قضائي راشد حديث.
عنف البادية (The violence of the wilderness) واستخدام حزب الأمة لـ "شرطة" الأنصار
كما ذكرنا آنفا، فقد استخدمت الدولة الشرطة لإنفاذ سياستها الرامية للفصل بين المركز والمناطق الطرفية. إلا أن أطرافا معينة في الدولة كانت على استعداد لاستخدام الشرطة أيضا ضد جهات منافسة بطرق عديدة أكدت جميعها ذلك الفصل بين المركز والمناطق الطرفية. فعلى سبيل المثال استخدم حزب الأمه جماهيره في بعض الأقاليم بديلا عن الشرطة (الحكومية) في صراعه مع الحركة الشيوعية. وفي السبعينيات والثمانينات "همشت" الحكومة الشرطة وأحلت مكانها جهاز الأمن، والذي أتى غالب رجاله أصلا – للمفارقة - من الريف. وأدى هذا "التهميش" للشرطة لتوسيع الشقة بينها وبين المتعلمين والطبقات الثرية في المجتمع النيلي.
وكان لحزب الأمة والحركة المهدوية – خلافا لغالب الأحزاب- ارتباط وثيق بالمناطق الريفية وسكانها، وكانوا يستخدمونهم كـ "شرطة" في المناطق النيلية. وقد استن الخليفة عبد الله هذه السنة في عام 1889م بجلبه لأفراد من عشيرته من دارفور لـ "حراسة" عاصمته وضبط النظام والأمن فيها. وبحسب مقال لبروفيسور منزول عسل نشر في عام 2008م عن عملية التمدين في السودان، فقد شجع ذلك الحزب أنصاره بكردفان ودارفور والنيل الأبيض والنيل الأزرق في ستينيات القرن الماضي على الهجرة لأمدرمان والاستقرار بها من أجل تعضيد قاعدة قوته السياسية. وبهذا فقد استخدم حزب الأمه أنصاره بديلا للشرطة (الحكومية) في صراعه ضد خصومه، خاصة الحزب الشيوعي، والذي تم حله في 25/11/ 1965م في عهد الصادق المهدي رئيس الوزراء آنذاك. وقال عبد الله علي إبراهيم في مقابلتي معه (يوم 17/12/2009م) بأن هؤلاء الأنصار (وهم في زيهم المهدوي الحربي) كانوا يستخدمون لتفريق/ فض المظاهرات (demonstration breakers). وكانت الشرطة كثيرا ما تجد نفسها عاجزة عن التصدي لقوة الأنصار. وخير مثال على ذلك هو ما ورد في كتاب أوو بالانس المعنون "السودان: الحروب الأهلية والإرهاب" الصادر في عام 2000م عما حدث في نوفمبر من عام 1964م حين تصدى الأنصار للشيوعيين في "ليلة المتاريس"، وحين فرضوا بالقوة تغيير أول حكومة بعد نجاح ثورة أكتوبر وتعيين أخرى في فبراير من عام 1965م. وقبل ذلك حدث صدام بين الأنصار والشرطة احتجاجا على مقدم الرئيس المصري محمد نجيب في عام 1954م، ثم وقع صدام آخر بين الخصمين في ليلة المولد (عام 1961م) في عهد إمامة الصديق المهدي، والذي كان شديد الاهتمام بتقوية وجود الأنصار في الخرطوم استعدادا لمعركة متوقعة بين نظام الفريق عبود والأحزاب التي قام بحلها. وبحسب ما جاء في الصفحة رقم 85 من كتاب لسعيد محمد أحمد المهدي بعنوان "جهاد في سبيل الديمقراطية" صدر في سنوات الستينيات، فقد زعم ساسة حزب الأمة أن الحكومة تعمدت صنع أحداث ليلة المولد التي قتل فيها أربعة عشر من الأنصار.
منحت الصراعات بين الشرطة والأنصار الفرصة لمعارضيهم من نخب الخرطوم لتغريب otherise الأنصار (القادمين من المناطق الطرفية)، والتأكيد على خطرهم الداهم على قيم الحضر (Urban values). فقد خاطب قضاة من حاكموا الذين قادوا مظاهرات الأنصار في 1954م اعتراضا على زيارة محمد نجيب بأنهم "حرضوا مجموعات من الغوغاء المهتاجين السذج unsophisticated من غرب البلاد ... الذين تسهل إثارتهم وفقدانهم للسيطرة على أنفسهم ... عند مواجهتهم للشرطة". وهذا يماثل ما جاء في صحيفة "الرأي العام" في عددها الصادر في الثاني من مارس 1954م من أن صيحات الأنصار في تلك المواجهات كانت أشبه بصحيات "الهنود الحمر". وبهذا يمكن القول بأن النخبة السودانية المتعلمة كانت تستخدم العبارات المجازية والاستعارات الاستعمارية (colonial tropes) لتثبت دعائم تفوقها على الأنصار. واستخدمت الحركة الشيوعية فكرة "عنف البادية" للتعبير عن الاستنكاف والازدراء disdain لسلوك الأهلين من سكان أطراف السودان، ولعبهم دور "الشرطي" ضد الطبقات المستنيرة بالمدينة. وأشار المؤرخ الشيوعي حسن الجزولي في كتابه "عنف البادية" 2006م، صفحة 23 إلى أن ذلك التعبير سكه عبد الخالق محجوب في عام 1965م، وشاع في أدبيات الحزب من بعد ذلك لوصف كل أنواع العنف الموجه للحركة الشيوعية. واستخدم المؤرخ المعادي للمهدية أبو القاسم حاج حمد في كتابه "السودان والمأزق التاريخي" ما حدث في الأول من مارس 1954م للزعم بأنه من المستحيل على "مجتمع محلي قبلي ومتخلف" أن يحسم صراعاته (مع غيره) في أطر مجتمع صناعي ديمقراطي. ووصف حسن الجزولي الأسلحة التي كان يحملها الأنصار بأنها "فؤوس وحراب همجية". وعلى الرغم من أن أفراد النخبة النيلية كانوا يستخدمون عادة هذه العبارات المجازية والاستعارات الاستعمارية للنأي بأنفسهم عن سودانيي المناطق الطرفية، إلا أن هذه العبارات ذكرت هنا في سياق الصراع المحدد بين الفصائل المختلفة في المركز.
يجب أيضا عند الحديث عن محاولات الشرطة فصل المدينة عن الريف ذكر إحدى مفارقات ذلك الوضع، وهي تجنيد المهمشين من أبناء الريف والمدن العشوائية (shanty towns) بصورة متزايدة للعمل في صفوف الشرطة، ربما جزئيا بسبب "تهميش" الحكومة للشرطة نفسها، وربما بسبب انصراف الأجيال الجديدة من أبناء النخب النيلية لوظائف أخرى في سلك الأمن أو التجارة، أو الاغتراب بأعداد كبيرة في دول الخليج. ويفتخر ضباط الشرطة الذين هاجروا للخليج في السبعينيات بأنهم هم من أسسوا الخدمات الشرطية في تلك البلدان (بحسب ما جاء في مقابلة مع ضابط الشرطة ج).
يرى بعض كبار السن من سكان الخرطوم "تهميش" الشرطة بحسبانه ظاهرة سالبة، إذ أنهم لا يرون أن تعيين القادمين حديثا من الأطراف في سلك الشرطة أمرا حميدا، ولا يرونهم أهلا للثقة، ويرمونهم بالفساد والسرقة والقسوة (بحسب ما جاء في مقابلة مع أحد سكان الخرطوم يوم 26 /12/2009م)، ويتذكرون بشوق وحنين إلى الماضي أيام الشرطة المتمدنة civil في الخمسينيات والستينيات المكونة من أبناء السودان النيلي (خاصة الشايقية)، ويتخوفون من التركيبة الإثنية في الشرطة، والتي تشابه تاريخيا ما سجله (البروفيسور) أحمد سكينجة في كتابه "من رقيق إلى عمال"، من أن ضباط الجيش كانوا يختارون قديما من بين أبناء النيل، بينما يجند الجنود من بين أبناء المسترقين السابقين.
نخلص إلى أن الشرطة في المدن النيلية ساهمت في منع أو تثبيط التكامل الاجتماعي (بين السكان) والذي كان من الممكن لعملية التمدين أن تؤدي له. ودعمت الشرطة من حدة الفصل بين السكان في المناطق الحضرية وشبه الحضرية. ولجأت لوسائل عنيفة منها هدم المباني العشوائية (التي يظن أنها تأوي المجرمين) وإلى الاعتقالات الجماعية. وكان سبب عجز الدولة عن إدارة العمل الشرطي في المناطق شبه الحضرية هو وضعها لحماية المناطق الحضرية الأكثر ثراء بحسبانه أولوية قصوى، والتعامل مع حدود الخرطوم وكأنها حدود دولية.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء