إزالة حي الديوم القديمة في الخرطوم .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
إزالة حي الديوم القديمة في الخرطوم
Slum Clearance in Khartoum
Alan J. V. Arthur آلن جي. في. آرثر
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما جاء في ورقة نشرت في العدد السادس من "مجلة الإدارة الإفريقية Journal of African Administration" الصادرة عام 1954م في جنوب أفريقيا، عن إزالة الأحياء العشوائية الفقيرة (slum) بالخرطوم. وآثرت هنا أن أترجم المقال بعنوان "إزالة حي الديوم القديمة في الخرطوم" لأن المقال يتناول ذلك الحي تخصيصا. وكنا قد ترجمنا أيضا مقالا بذات العنوان تقريبا عن حي الموردة بأم درمان بقلم جون وين كينريك مفتش أم درمان في عام 1953م.
وعمل الكاتب (1915م - ؟) في مجال الإدارة بالهند ثم بالسودان منذ عام 1949م، حيث عين مفتشا في مديرية الخرطوم بين عامي 1949 و1951م، ثم بشندي ( 1951 – 1954م)، ونائبا لمدير المديرية الشمالية لمدة قصيرة، تقاعد بعدها عن العمل بحكومة السودان. وأودع الرجل في أرشيف السودان بمكتبة جامعة درام البريطانية كل مكاتباته الرسمية والصور التي التقطها في غضون سنواته بالسودان، ومراسلاته الخاصة والتي شملت – بحسب ما ورد في موقع جامعة درم خطاباته لوالديه التي وصف فيها حياته الاجتماعية ومنزله ورحلاته والأفلام والصور التي التقطها، وحتى مشترياته لبُسُطٌ من دارفور، ومشاكله مع خدم بيته! وأودع تلك المكتبة أيضا في عام 1982م مذكراته عن عمله بالسودان التي ذكر فيها مشاهداته عن السودان عند زيارته له في عام 1946م..
والشكر موصول للأستاذ صديق عثمان ببريطانيا لمدي مشكورا بصورة من المقال.
المترجم
********** ********** **********
هدمت قوات المهدي مدينة الخرطوم القديمة بعد سقوطها (فتحها) بأيديهم في يناير من عام 1885م ومقتل الجنرال غردون. وتحولت العاصمة في عهد المهدي (1885 - 1898م) إلى أم درمان. وعادت الخرطوم لتصبح عاصمة للسودان مرة أخرى بعد استعادة جيش اللورد كتشنر له.
ووجد كتشنر الخرطوم مهدمة تماما، فكان أول تشريع قانوني أصدره هو مرسوم لتسوية كل الدعاوى والطلبات المرفوعة من قبل سكان مدينة الخرطوم (القديمة) قبل هدمها. غير أن لم يرجع أرض كل من أثبت ملكيته لها في السابق، إذ منح المستحقين أراض أخرى بنفس المساحة في أماكن جديدة في المخطط الجديد للمدينة. وبذا صار للخرطوم مخطط جديد وصار كل من يمتلك بها أرضا يحمل أوراقا رسمية تثبت ملكيته لها.
غير أن ذلك التخطيط لم يشمل إلا تلك المساحة داخل الأسوار التي كان غردون قد بناها حول المدينة القديمة. ولم تكن مساحة تلك المدينة تسع بالطبع كل العمال الذين قدموا لإعادة بناء الخرطوم، أو للبحث عن عمل فيها. لذا أعطيت الأرض الخالية (البَرِّيَّة) الواقعة خارج نطاق المدينة القديمة لهؤلاء العمال القادمين. ومنحوا قطع أرض ضئيلة المساحة ليبنوا عليها أكواخا صغيرة من الطين في صفوف يبعد كل واحد عن الآخر خمسة أمتار، ويبعد كل بيت فيها عن البيت المجاور له بخمسة أمتار أيضا. وخطط لشوارع عرض الواحد منها 40 متر بين كل 100 متر في تلك المنطقة. وفي بعض الأحيان كان يسمح لمن منحوا تلك القطع ببناء جدران في المساحة بينهم وبين جيرانهم، مما خلق حوشا (في الأصل compound) أمام كل بيت. وكان كل حي (block) في المنطقة يتكون من 100 قطعة سكنية، مساحة كل واحدة لا تتجاوز خمسين مترا مربعا، تشقها خمس شوارع صغيرة عرض الواحد منها خمسة أمتار. ويفصل بين كل حي وآخر شارع عرضه أربعين مترا. ولم تكن تلك القطع السكنية محددة التخطيط بدقة على الأرض، لذا لم يكن التصميم (lay - out) منتظما بشكل دقيق.
وحددت مدة تلك الحيازات (holdings) بمرسوم صدر في عام 1912م، جاء فيه نص بعدم جواز امتلاك تلك القطع في ما سميت بـ "مناطق سكن الأهالي native lodging areas"، وحددت كذلك شروط منح تلك القطع، ومهن الذين يتقدمون لحيازتها. وجاء في المنشور أن من حق الحكومة استرداد أي قطعة في تلك الأرض بعد تقديم إشعار قبل شهر من تاريخ الإخلاء، ودفع تعويض عن قيمة البناء المقام عليها. وأضيف لاحقا بند يجيز استرداد الأرض دون دفع أي تعويض إن كان البناء المقام عليها قد مرعليه أكثر من عقد من الزمان.
وعرفت "مناطق سكن الأهالي" في الخرطوم (وربما في مدينتين أو ثلاث أخر) في اللهجة العامية العربية بـ "الديم". وكان في الخرطوم في تلك الأيام عدد من "الديوم". وكان من الطبيعي أن يقطن تلك "الديوم" من هم ليسوا بمستأجرين، بل مقيمين دائمين بالخرطوم. ومع مرور الأيام صار "الديم" هو محل سكن الأهالي من ذوي الدخل الأقل. وغدا التصميم الذي كان يناسب العمال المؤقتين العُزَّاب غير مناسب للحياة العائلية. فلم تكن هنالك مراحيض، وكانت عملية التغوُّط تتطلب رحلة إلى أطراف الصحراء التي تحيط بالديوم من كل جانب.
وأنشئت في عام 1930م ديومٌ جديدة تقع غرب الديوم القديمة، بعد عمل مساحي متقن. غير أن مساحة كل قطعة ظلت كما هي (5 X 10م)، مما أجبر من كانوا يرغبون في السكن بها على شراء قطعتين أو أكثر لجعل السكن بتلك الديوم ممكنا. ولم توفر كذلك أي مراحيض عامة بتلك الديوم. وظل الحال على ذلك حتى عام 1937م حين تقرر زيادة مساحة القطعة الواحدة من الأرض بالديوم إلى 200م م، ورسم مخطط المنطقة بناءً على هذا الأساس. وكان هذا مما أتاح حفر حفرة عميقة (بئر) لاستخدامها كمرحاض في كل قطعة سكنية. وخلق إنشاء تلك المناطق السكنية الجديدة، وعدم وجود أوامر للقيام بإصلاحات في مناطق الديوم القديمة (no repairs orders)، وذرائع وحيل أخرى ، ثغرات عديدة هنا وهنالك. إلا أنه لم تقم (البلدية) بأي محاولة منظمة لإزالة المناطق القديمة.
وما أن حل عام 1946م، حتى وضح أن هنالك ضغطا سكانيا كبيرا في الخرطوم يستلزم تطوير مناطق سكنية جديدة لكل طبقات المجتمع، ولسبب ما تقرر التوسع في إنشاء تلك المناطق السكنية الجديدة جنوبا. وتبع ذلك محاولة ملء المساحة الواسعة التي كانت تفصل الديوم القديمة عن وسط الخرطوم (أو الخرطوم الأصلية)، وربما في المستقبل إحلال مباني الديوم القديمة بمخطط جديد. ووزعت قطع سكنية في "الديوم الجديدة" لسكان الديوم القديمة بعد تعهدهم كتابيا بهدم وإزالة بيوتهم (القديمة) بالديوم بمجرد اكتمال بناء بيوتهم بالديوم الجديدة. ووزعت بين عامي 1946 و1947م 500 قطعة سكنية بالديوم الجديدة، إلا أن من التزموا بهدم بيوتهم في الديوم القديمة بعد انتقالهم للديوم الجديدة لم يفوا للأسف بما وعدوا به. بل قام معظمهم بتأجير بيوتهم القديمة وهم سعداء بما تدرها عليهم تلك البيوت من دخل.
واستشعر المسؤلون جدية الوضع، إذ تفاقمت الثغرة الواسعة بين الديوم القديمة والمدينة (الجديدة) التي بنيت على أطرافها، ولم يعد هنالك مجال لمزيد من التوسع جنوبا. وبالإضافة لذلك ظلت الحياة بتلك الديوم القديمة كما هي منذ عقود، لا تناسب العائلات. وتفاقمت مشكلة الصرف الصحي، بعد أن صار سكان الديوم القديمة يستخدمون المجاري المفتوحة لتصريف مياه الأمطار (open storm – water drains) وأماكن أخرى في الأحياء السكنية الجديدة المجاورة لهم لقضاء الحاجة.
وكان لزاما على المسئولين، لأسباب صحية واجتماعية واقتصادية عديدة، إزالة منطقة الديوم القديمة.
مسح اجتماعي للدوم القديمة.
وفي مارس من عام 1949م كلف السيد علي أفندي نديم، مساعد المفتش المتقاعد (الحائز على وسام الإمبراطورية البريطانية M.B.E.)، والذي تم تعيينه بعد تقاعده مسئولا عن إعادة توطين / إسكان من كانوا يقيمون بالديوم القديمة بإجراء مسح اجتماعي في تلك المنطقة. كانت الديوم القديمة يومها تتكون من 19 منطقة، وفيها نحو 30000 نسمة (من طبقة العمال) يسكنون في 5777 بيتا. وأكمل نديم المسح في الديوم الثلاثة الأولى في مارس – أبريل. وساهمت المعلومات التي تم الحصول عليها السلطات من ذلك المسح في تقرير ما يمكن لها أن تقوم به من سياسات مستقبلية في شأن الديوم القديمة. وكان أول قرار اتخذته هو تقسيم سكان الديوم القديمة إلى ثلاثة مجموعات:
المجموعة (أ)، التي شملت الذين خصصت لهم منازل ليسكنوا فيها، ولكنهم رحلوا عنها وقاموا بتأجيرها لآخرين، في مخالفة واضحة لشروط تخصيص تلك المنازل. وشملت تلك المجموعة الذين منحوا قطعا سكنية جديدة، وانتقلوا بالفعل إليها، ولكنهم ظلوا محتفظين بقطعهم السكنية القديمة.
المجموعة (ب)، التي شملت الذين حصلوا على قطع سكنية في الديوم القديمة عن طريق التقسيم الحكومي (الرسمي) أو آلت إليهم بالشراء أو التوريث من شخص كان قد حصل على قطعته السكنية وسكن فيها.
المجموعة (ج)، وهم سكان القطع السكنية المذكورة في المجموعة (أ).
وتقرر أن يمنح السكان من المجموعة (ب) وكل المؤجرين في المجموعة (ج) من الذين لديهم عمل مستدام وسكنوا - مع عائلاتهم - في الديوم القديمة مدة لا تقل عن عقد من الزمان، قطعة أرض مساحتها 200 م م في الديوم الجديدة بإيجار شهري مقداره ثلاثة جنيهات شهريا (تشمل إيجار الأرض وقيمة العوائد). ومنح السكان من المجموعة (ب) ، وأفراد المجموعة (ج) الذين منحوا قطعا سكنية بين عامي 1946 و1947م وأكملوا بناء منازلهم في الديوم الجديدة فترة قدرها ثلاثة أَشْهُر لينتقلوا إلى الديوم الجديدة، يتم بعدها هدم منازلهم في الديوم القديمة. وقاوم أفراد هذه المجموعة الأخيرة ذلك القرار بشدة، إذ أنه كان يحرمهم من الدخل الذي كان يأتيهم من تأجير منازلهم في الديوم القديمة. وخشيت السلطات من أن يقوم بعض الساسة بتحريض هؤلاء السكان بإستغلال الموقف ودفعهم لمعارضة تنفيذ القانون بالقوة. غير أنها حزمت أمرها وقررت في يوليو من عام 1949م المضي قدما في إزالة الديوم القديمة رغما عن معارضة ومقاومة السكان، ومنحت أفراد المجموعة (أ) فترة شهرين لإنهاء إيجارهم للقطع التي منحوا لها في الديوم القديمة، وأنذرت أفراد المجموعة (ب) والمستأجرين في المجموعة (ج) الذين منحوا قطعا سكنية في الديوم الجديدة بين عامي 1946 و1947م بإنهاء تشييد بيوتهم بنهاية عام 1949م، وضرورة إعادة القطع السكنية التي منحت لهم إن لم يكن قد شرعوا في بناء منازلهم فيها. ومنحت السلطات أفراد المجموعة (ب) و(ج) المستحقين لقطع سكنية ولم يسبق لهم الحصول قطع سكنية من قبل قطعا سكنية في الديوم الجديدة، واشترطت عليهم إكمال البناء في مدة لا تزيد عن سنة كاملة. وكان من المتوقع أن تكون عمليات البناء بالنسبة لهؤلاء غير عسيرة، إذ أن بإمكانهم إعادة استخدام المواد التي كانت في بيوتهم القديمة (مثل الأبواب والنوافذ والأسقف).
هدم منازل الديوم القديمة.
كان لإستعادة السلطات لـ 103 قطعة سكنية في الديوم الجديدة من الذين منحت لهم في عامي 1946 – 1947م ولكنهم لم يبدأوا في تشييدها مفعولٌ سريعا، حيث وافق زعماء المعارضة على قرارات الحكومة شريطة إعادة تلك القطع السكنية لمن منحت لهم من قبل. ووافقت السلطات على ذلك الشرط، وبدأت عمليات البناء في الديوم الجديدة، والهدم في الديوم القديمة على قدم وساق. فهدم في مايو ويونيو وأغسطس 17و 128 و237 بيتا، على التوالي. ومضى الهدم حثيثاً بمعدلات متسارعة حتى نهاية العام. ومع تقدم عمليات الهدم والبناء خفتت شيئا فشيئا الأصوات المعارضة، وعجل الجميع بالانتقال من الديوم القديمة إلى بيوتهم بالديوم الجديدة. وأزيلت بالديوم القديمة في يناير من عام 1953م آخر سبعة منازل متهدمة وثمانية دكاكين، ولم يبق بها غير مسجدين وثلاثة مخابز وطاحونة واحدة. وبذا بلغ مجموع ما هدم وأزيل من الديوم القديمة في غضون ثلاثة أعوام ونصف 5,855 بيتا ودكانا، وبدأت الاستعدادات لإعادة تخطيط وبناء وتطوير تلك المنطقة. واستخدم في عمليات الهدم والإزالة في عاميها الأولين المساجين، إلى أن تقرر تشغيل عمال بأجر في تلك العمليات، مما أسرع بوتيرة تقدمها (في شأن تشغيل المساجين في أعمال الدولة انظر المقال المترجم "الأيديولوجيات الملتبسة والتقييدات في السجون السودانية في عهد الاستعمار (1898 – 1956م)". المترجم).
وبنهاية نوفمبر 1953م اكتمل بناء 3,873 قطعة سكينة في الديوم الجديدة، وانتقل إليها سكناها من الديوم القديمة.
وفي البدء كان توزيع القطع السكنية في الديوم الجديدة يتم بالطرق الأهلية التقليدية (أي دون عقود إيجار مكتوبة) وذلك للرغبة في الإسراع بتوزيع تلك القطع، ولقلة أعداد الموظفين اللازمين لتحضير تلك العقود. ثم صنفت القطع السكنية في الديوم الجديدة على أنها من"الدرجة الثالثة"، ومنح من حازوا تلك القطع عقود إيجار لمدة عشرين عاما، قابلة للتجديد كل عشر سنوات.
كُلْفَةُ المشروع
انحصرت كُلْفَةُ المشروع في مرتبات المسؤول عن إعادة توطين / إسكان من كانوا يقيمون بالديوم القديمة، وكاتبه وسائقه وخمس من مفتشي المباني (تناقص عددهم مع تقدم المشروع حتى صار هنالك مفتش واحد) وموظف واحد مسئول عن رفع تصنيف الديوم من "مناطق سكن الأهالي" إلى "الدرجة الثالثة". وكان معظم العاملين الذين اشرفوا على عمليات هدم بيوت الديوم القديمة وبناء المنازل بالديوم الجديدة من الضباط المتقاعدين من خدمة قوة دفاع السودان. ولولا التشجيع والضغط المتواصل الذي مارسه اولئك الضباط على سكان الديوم لما تقدم ذلك المشروع بتلك الوتيرة السريعة. وبلغت كلفة مرتبات العاملين على المشروع حتى يوم 31 اكتوبر 1953م مبلغ 6,840 ج م، ويتوقع أن تبلغ تكلفة المرتبات حتى يوم اكتمال المشروع في منتصف 1954م مبلغ 7,500 ج م. كذلك وزع مبلغ 204 ج م لشيوخ أحياء الديوم القديمة والجديدة لتعاونهم مع المسئولين في إنجاز المشروع. وصرف مبلغ يقارب الألف جنيه كتعويض مادي لنحو مائة من قاطني الديوم القديمة الذين لم تكن لديهم الرغبة في الانتقال للديوم الجديدة بسبب عدم قدرتهم المادية على بناء منازل في الديوم الجديدة. وبلغت الكلفة الكلية النهائية للمشروع 27,792 ج م، أتت مما حصلت عليه الحكومة من مزاد علني لأراضي بالخرطوم، وليس من ميزانيتها المركزية.
الانتقادات التي وجهت للمشروع
أجرى الأستاذ سعد الدين فوزي* في يوليو من عام 1953م (وردت خطأ في المقال 1935م. المترجم) رئيس قسم الاقتصاد بكلية الخرطوم الجامعية مسحا لمعرفة مشاكل الاسكان في الديوم الجديدة، وخلص إلى نتائج في غاية الأهمية كان منها أن منظر تلك الديوم الجديدة يمثل تماثلا رتيبا (monotonous uniformity) بصفوف منازله المكتظة. ويمكن الرد علي هذه المنطقة بأنه لم يكن من هموم الحكومة التخطيط لضاحية جميلة لهؤلاء المواطنيين، فذلك كان سيكون مشروعا مرتفع الكلفة بالنسبة للعمال. لقد كان الغرض الأساس من المشروع هو نقل سكان الديوم القديمة إلى مبان أفضل تتميز بالبساطة وقلة التكاليف. أما الرتابة في منظر البيوت فكان مردها طبيعة قطع الأراضي التي وزعت ومساحتها، والسرعة في البناء التي كانت السلطات حريصة عليها لشدة حاجة السكان للانتقال لمبان أفضل. وعلى كل فالتماثل في المباني كان من باب البساطة وفعالية السيطرة (effectiveness of control). وينبغي أيضا تذكر أن الديوم الجديدة وفرت مساحات خالية (متفاوتة المساحات) بين البيوت لم تكن موجودة في الديوم القديمة. وقد تختفي بعض مظاهر الرتابة عند زراعة بعض أشجار الظل في تلك المساحات. ومع هذا فيجب الإقرار بأن هنالك الكثير مما ينبغي عمله لتحسين المظهر العام لتلك الأحياء الجديدة.
أظهر المسح أيضا عدم وجود نظام أو آلية لمنح السكان قروضا سكنية أو مساعدات مالية للبناء في الديوم الجديدة. والرد على تلك النقطة يتمثل في استطاعة العاملين بالحكومة الحصول على قروض للبناء من الأقسام التي يعملون بها. غير أن العاملين في غير القطاعات الحكومية سيجدون أنه من المستحيل تقريبا الحصول على قروش اسكانية. ولعل مرد هذا هو قلة الأموال اللازمة لمنح مثل تلك القروض. وإذا علمنا أن تكلفة بناء منزل في الديوم الجديدة قد يصل إلى 150 ج م، فيمكن أن ندرك قدر الصعوبة التي تواجه العمال البسطاء في بناء منازلهم. فباع بعضهم الأرض التي منحتها لهم الحكومة مجانا للرأسماليين الذين قاموا ببناء المنازل وتأجيرها لمن باعوا لهم الأرض، بينما لجأ بعضهم للاقتراض من التجار للحصول على المال الازم للبناء.
وأبان المسح ايضا بعض الانتقادات لتصميم مهندسي البلدية. ومرة أخرى نرد بأن الهدف المباشر من المشروع كان بناء منازل بسيطة ورخيصة. ومع ذلك يجب القول بأن هنالك فسحة للتطوير والتحسين في تصميم المباني.
واشار تقريرالأستاذ فوزي لضرورة القيام أبحاث في مجال الاسكان. وتقوم حاليا مصلحة العمل بعمل مثل تلك الأبحاث، التي تهدف لإختبار مواد جديدة ومبتكرة لمواد البناء، وتحسين طرق البناء (مثل طريقة كارليشتين التي يتم فيها خلط الطين بنحو 10% من الأسمنت وصناعة الطوب منها آليا). فتبلغ الآن تكلفة بناء من "الجالوص" مبلغ 186 ج م، وتبلغ تكلفة صيانته سنويا نحو 5 جنيهات مصرية. أما بناء البيت بطريقة كارليشتين الجديدة فتبلغ 247 ج م. ولكن بهذه الطريقة يبقى البناء متماسكا قويا لفترة أطول ولا يحتاج لصيانة تذكر. وتم بالفعل بناء عشرين بيتا في الديوم الجديدة بهذه الطريقة الجديدة.
الخلاصة
وصف الأستاذ سعد الدين فوزي* هذا المشروع بأنه "عملية ضخمة لإزالة الأحياء الفقيرة، وإنجاز إجتماعي هدف لإعادة إسكان قاطنيها ...". وأختتمت تلك العملية بهدم وإزالة 5855 بيتا ومتجرا صغيرا في الديوم القديمة بين يونيو 1949م و يناير 1953م، وبناء 3721 بيتا في الديوم الجديدة حتى نوفمبر 1953م. وتم كذلك نقل نحو 30000 من سكان الديوم القديمة بكلفة ابتدائية بلغ مقدارها 9,482 ج م، وكلفة نهائية بلغت 27,792 ج م. ووجهت العملية في بدايتها بمعارضة شديدة ممن كانت لهم مصالح معلنة وخفية (في بقاء الأوضاع كما كانت عليه). غير أنها لقيت كامل التعاون من الجميع بعد أن بدأت ثمار المشروع في الظهور. ويمكن القول الآن أن الطبقة العاملة من سكان الخرطوم تنعم اليوم بسكن أفضل من كثير من سكان غالب مدن الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا. وما ميز هذا المشروع هو أن سكانه هم الذين قاموا بتشييده دون أي مساعدة مالية تذكر من الحكومة على شكل قروض سكنية أو أي نوع من المساعدات الأخرى.
لا شك أن النهاية الناجحة لذلك المشروع تدين للسيد علي نديم وأفراد فريقه السودانيين، فقد تولوا مهمة تنفيذ ذلك المشروع بدقة كبيرة، تحت إشراف باشمفتش بلدية الخرطوم (كاتب هذا المقال) ومن خلفه (السيد جي. بييز).
********** *********
* الأستاذ سعد الدين فوزي (1921 – 1959م) أستاذ جامعي ولد في مدينة بحري وتوفى في لندن، ودفن في الخرطوم. تخرج في كلية الآداب، كلية الخرطوم الجامعية عام 1942م وحصل على الدكتوراه من جامعة لندن عام 1955م، كان عضوا بالجمعية الفلسفية السودانية، ورئيسًا لاتحاد الاقتصاديين السودانيين ومستشارًا وخبيرًا بمكتب العمل الدولي، وله ديوان شعر عنوانه «من وادي عبقر» - دار الريحاني - بيروت 1961م.
http://www.almoajam.org/poet_details.php?id=2767
alibadreldin@hotmail.com