إلى جنات الخلد عمنا الحاج حسن

 


 

 

قبل بناء السد العالي والهجرة كان والدنا، عليه رحمة الله، يعمل موظفا في مدينة وادي حلفا وكنا نسكن ونعيش في المدينة بحكم عمله. وكان الوالد يحرص دائما على أن يكون ارتباطنا بحياة القرية أكثر من حياة المدينة، ولذلك كان يعمل في ذلك الاتجاه بخطة، فمنذ الولادة وحتى سن دخول المدرسة في السادسة من العمر كان يتركنا نعيش ونتربى عند حبوبتنا "سكينة سليمان" طيب الله ثراها وخالتنا المرحومة "فاطمة هجله" في حي "هَوِّي" بقرية دبيرة. وبعد أن نقضي سنوات الحضانة والمشي على أربع والكلام والمشي على رجلين عند حبوبتنا وخالتنا في القرية ننتقل لمرحلة المدينة للالتحاق بالمدرسة الأولية. وحتى بعد الالتحاق بالمدرسة في المدينة كان الوالد يحرص أيضا أن نرافقه كل خميس إلي حي "الحصا" بقرية دبيرة عند إخوانه واعمامه وأبناء عمومته ومن ثم نعود إلى المدينة مساء الجمعة من كل أسبوع. وفي طول الطريق الوعر من وادي حلفا إلى دبيرة كان لدى الوالد محطات مفضلة كثيرة يقف عندها في شيخ علي وفى إشكيت وفى سوق الخميس وميتاري لمعاودة أقربائه في تلك المحطات.
وكان غرض الوالد والوالدة من تحمل ذلك البعد عنا ونحن أطفال وتحمل العبء الأسبوعي في طريق وعر هو تعريفنا بالأهل والتعود على معيشة حياة القرية البسيطة والبعد قليلا عن حياة المدينة وصخبها وأهم من كل ذلك هو تعلم اللغة النوبية وإجادتها. ونحمد الله أولا والوالد أن إخواني وإخوتي جميعهم حتى من كانوا صغارا يجيدون اللغة النوبية ويعرفون الكثير عن التراث النوبي والأهل. ولذلك بعد الشكر لله نشكر الوالدين على حرصهما في المحافظة على الجذور.
عذرا فتلك المقدمة التمهيدية كان لا بد منها حتى ندخل في سيرة عم حسن من بدايتها أي أن منذ تفتحت أعيننا عليه في هذه الدنيا. في هذه الرحلة الأسبوعية كان أول من نقابله في الحصا أمام دكان عمنا المرحوم "عثمان خليل أبوالريش" الذي كان نقطة لقاء وتجمع لأصحابه الكثر (اذكر منهم على دكاي ومحي الدين أبو قرط وترمسوا وخليفة أراب رحمهم الله جميعا) هو عمنا "حسن حسين أبوالريش"، وكان آنذاك شابا قوي البنية فارع الطول رشيقا لكن دعكته حياة الزراعة والبستنة والرعي. لقد كان عم حسن هو مرافقنا في تلك الزيارات، بحكم صغر سنه ونشاطه، يأخذنا معه إلى الساقية لنركبها ونحرك الشادوف للسقاية ونتجول على ظهر الحمير في الأراضي المزروعة و نقطف ثمار البساتين وثمار النخيل حتى نصل حظيرة كبيرة بها حيوانات والده من أبقار وجمال وخراف... نقضي اليوم بإكمله في الحظيرة المهيئة وأحيانا على ضفاف النيل لنعود إلى بيتهم الكبير في حي فدروس عند غروب الشمس لتقابلنا والدته المرحومة "زكية شيبو" بأكواب اللبن بجميع أشكاله وأصنافه والسمن البلدي والسلابية لتكون وجبة العشاء. وبعد العشاء نجلس معه حول مذياعه "الترانزستور" أبو حجارة لنسمع إذاعة البي بي سي من أخبار وأدب وشعر وأغاني يشرحها لنا عم حسن بهدوئه وصبره المعهود. وعندما يأتي الليل نبيت عندهم في حوش أقرب إلى حجم ميدان أولمبي لكرة القدم.
منذ ذلك الوقت الجميل تعلق قلبي بعم حسن لشخصيته المرحة وبصفته أصغر الأعمام، ولقربه منا كان يسلينا بحكايات الأطفال ويأخذنا معه في صولاته وجولاته الفلاحية وتعلمنا على يده السباحة في النيل وقيادة الساقية وركوب المراكب الشراعية وكيفية إطعام الأبقار وتربية العجول، وكانت تلك ثقافة جديدة نادرة ومفيدة لمستقبل أيامنا. علاقتي بعم حسن علاقة طويلة منذ الطفولة وظلت ممتدة حتى الأمس بكل عمقها وحبها، فقد كان تأثيره كبيرا علينا وكنا نعتبره صديق أو أخ أكثر من عم وكما تعلمون أعمام ذلك الزمن من الشدة والغلظة بمكان.
ولذلك ظللت على اتصال بعم حسن، وهو الوحيد الباقي من كبارنا، من وقت لآخر أتحدث معه، نتبادل الأخبار ونتجاذب أطراف الحديث والأنس والضحك عن طريق ابن عمي عبدالهادي وفي وجود الإخوان صالح خليفة وعلي عثمان كمعلقين على حديثه وفي غيابه عن طريق اخي الأستاذ محمد فتح الله الذي كان يزوره في القرية من وقت لآخر.
قبل أيام قليلة علمت أن العم حسن لزم سرير المستشفى لارتفاع في معدل السكري وقد تحسنت حالته مع العلاج. أول أمس أرسلت رسالة اطمئنان لابنته الكبرى فاطمة في السعودية سائلا عن صحته، وفى نفس الوقت أرسلت نفس الرسالة لابن شقيقه سامي في القرية. للمفاجأة جاءني الرد على الرسالة من الاثنين في نفس الوقت وبعد أقل من ثانية "الوالد في ذمة الله الآن". يا إلهي... حزنت لهذا الفقد المفاجئ الكبير، لقد فقدنا الرجل الذي عاشرناه منذ الطفولة وهو آخر الأعمام وآخر كبارنا الذين نلجأ إليهم وقت الشدة ليحلوا لنا ما تعقد ويسهلوا لنا ما صعب. حقيقة كان عم حسن ليس عما فقط، بل كان أخا وصديقا بيننا كل الصراحة والود والاحترام.
حياة عم حسن تميزت بالهدوء والفكاهة رغم ما كان فيها من قساوة الحياة في بيئة تعتمد على الزراعة والرعي في سبل كسب العيش وقد كان هو ووالدته يساعدان والده حين سافر جميع إخوانه للعمل في مصر وباقي مدن السودان. ورغم تعليمه المحدود وحياة القرية المحدودة تميز عم حسن عن أقرانه بثقافة عالية اكتسبها من الحياة، يقرأ ويكتب ويتحدث معك بوعي وإدراك في كل المواضيع السياسية والاجتماعية والأدبية وكان من رواد المساجد لم يتغيب عن صلاة، بل كل صلواته الخمس في المساجد ومن المداومين على حلقات التلاوة ومن المجوِّدين للقرآن الكريم. وقد تعلم التجويد على يديه كثيرين من رواد المسجد من طلاب ومعلمين في القرية وكذلك في مسجد أبوآدم في الخرطوم حينما كان يقيم مع ابنته هناك. وفى أخريات أيامه كان عم حسن زاهدا في الحياة وظل كل وقته ملتزما المسجد يصلي ويقرأ القران ويسبح ويذكر الله وحتى عندما مرض كان، ككل الصالحين، قد أدرك بدنو رحيله وأشار لابنه وابنته بذلك.
وكان عم حسن سعيدا في حياته، لقد ربى البنات والأولاد والأحفاد وأهلهم للتعليم والعمل والزواج رغم عدد المحن التي مرت عليه في الحياة عندما فقد زوجته الأولى ثم الثانية، يرحمهما الله، منذ فترة طويلة وتحمل وحده مسؤولية تربية الأولاد والبنات. وبعد أن كبر الأولاد واغترب ابنه فيصل ليعمل في المملكة العربية السعودية ارتاح العم حسن وزالت عنه هموم الدنيا، فقد أغناه ابنه البار فيصل عن العمل وعن تربية إخوانه وإخوته، وبنصيحة من ابنه فيصل هاجر إلى الخرطوم ليكون مستقرا بالقرب من ذريته وبالقرب من الأطباء إذا احتاج لعلاج ما. لم يقصر ابنه فيصل حيث وفر كل سبل الراحة لمن كانوا من أسرته في الخرطوم ومن بقوا في حلفا، وحقيقة كان فيصل نوارة الأسرة كلها. لكن لا تسير الحياة على وتيرة واحدة كما نريد، وقال الله تعالى في كتابه "من شر حاسد إذا حسد" فقد توفى ابنه فيصل إثر حادث حركة مشؤوم بالمملكة العربية السعودية، ورغم فداحة المصيبة إلا أن العم حسن تقبل الخبر بكل ثبات وجلد. ويقال إنه كان قد أقام لصلاة الظهر وأثناء ما كان ساجدا في الركعة الأولى سمعت بناته خبر وفاة شقيقهن فيصل، ومن هول الصدمة هجمن على ظهره وهن يصرخن وهو ساجد للركعة الأولي، فما كان منه إلا أن أزاحهن عن ظهره بيده وتم صلاته وهو ثابت حتى الركعة الأخيرة وسلم ثم قال عبارته المشهورة "إنا لله وإنا إليه راجعون. أعطاني الله الابن فيصل واخذه منى ولله الحمد وله الشكر."
كانت رحلة عم حسن في الحياة مليئة بالإنجازات والأعمال الصالحة كما كانت حياته محفوفة بابتلاءات إلهية تجاوزها بإيمانه بالله وصبره على المكاره. وهكذا انتهت رحلة رجل صادق، يحترم الصغير والكبير، طيب القلب عفيف اللسان والكلم، ذو روح مرحة، وثقافة عالية، رجل كان قلبه معلقا بالمساجد وبذكر الله آناء الليل وأطراف النهار.
اللهم إن عمنا حسن نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرا إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، اللهم آته برحمتك ورضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وآته برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين. اللهم أنقله من مواطن الدود، وضيق اللحود إلى جنات الخلود.
وأخيرا لا أملك إلا أن أعزي نفسي وبناته وأولاده محمد وفتحي وفخري وأحفاده وحفيداته وكافة الأهل وجميع أسرة آل أبو الريش وآل شيبو كما أعزي أصدقاءه ومعارفه الكتر وكل من شارك في تشييع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير كما أعزي طلابه ورواد المسجد في قرية الحصا وفى مسجد حي أبو آدم في الخرطوم.
إنا لله وإنا إليه راجعون ولله ما أعطى ولله ما أخذ.
الدوحة في 20 أكتوبر 2024

reeshs@hotmail.com

 

آراء