كنت قد نشرت رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء في 3 سبتمبر 2019، قبل أن يُشكل حكومته، بعنوان "إلى رئيس الوزراء: كلمة المرور للعبور!"، أُشير في السطور التالية إلى مُلخص تلك الرسالة لأطرح عليك فكرة نتداول حولها بغرض التوصل لرؤية مشتركة تدفع إلى الأمام بعمليتي الانتقال السلمي والسلام.
بعد طواف على تجارب انتقال السلطة والتحول الديمقراطي في أفريقيا، دللت هذه التجارب على أن كلمة المرور للعبور بالبلاد إلى بر آمن، وهو الهدف الرئيس الذي حدده رئيس الوزراء، تكمن في أمرين متلازمين، أولهما: خلق أكبر قدر من التوافق/الوفاق/الرضا السياسي-المجتمعي، وثانيهما: توفير قيادة حقيقية لعملية الانتقال السلمي للسلطة، تتضمن خارطة طريق واضحة، وإبتداع آلية تضمن التفاف غالب القوى والسياسية والمجتمعية حول برنامج حكومته، حتى ترسو سفنها على هذا البر الآمن. التوصل إلى هذا التوافق هو الطريق الوحيد لضمان وحدة وتماسك القوات المسلحة السودانية، بكتفة تشكيلاتها، لتتفرغ إلى القيام بدورها الدستوري في حماية تراب الوطن والنظام الديمقراطي في البلاد، بدلاً عن إقحامها في العمل السياسي اليومي. فمن المهم أن تجد القوى السياسية والمجتمعية، التي تشعر بالإقصاء عن المشهد السياسي، نفسها في إدارة الانتقال حتى وإن لم تشارك في السلطة مما يحفزها لدعم الحكومة في تحقيق أهدافها. فقد تعهد رئيس الوزراء، في أول مؤتمر صحفي له بعد أداء القسم، بأنه سيكون "رئيس وزراء كل السودان"، ولو أن قوى الحرية والتغيير هي التي أتت به لهذا الموقع. فعلى حد تعبيره "دعونا نعمل مع بعض من أجل وطن ونظام ديمقراطي تعددي نحترم فيه اختلافاتنا.. نرغب في العبور ببلادنا إلى رحاب أفضل". ومن الأفضل أن لا يقتصر تمثيل هذه القوى في المجلس التشريعي وأن يتم اشراكهم في المفوضيات القومية المستقلة، التي يعد تشكيلها أحد اختصاصات مجلس الوزراء كما نصت عليه الوثيقة الدستورية.
بذلك، لا أدعو رئيس الوزراء، ولا ينبغي لي، للقطيعة مع التحالف السياسي التي أتى به إلى هذا الموقع، ولكن الإدارة الفالحة لانتقال السلطة لها شروطها. فبالاستعارة من لغة أهل كرة القدم، يحتاج رئيس الوزراء إلى ظهيرين سياسيين، أحدهما في خانة الشمال والثاني على اليمين، وإلى ثالث فى الوسط في خانة الستوبر! بل أن تحالف قوى الحرية نفسه مطالب بتوسيع مواعينه وقاعدته السياسية وأن يمد أيديه للقوى السياسية الأخرى التي استثناها التحالف نفسه من تحمل وزر المشاركة في النظام البائد حتى لحظة سقوطه. تشمل هذه القوى؛ الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقيات السلام مع النظام السابق، والإسلاميين الذين نفضوا إيديهم عن النظام البائد قبل سقوطه، بل وساهموا في هذا السقوط، بالإضافة إلي القوى الاجتماعية الأخرى من الطرق الصوفية ورجال الدين والإدارات الأهلية. في رأيي أن عزل هذه القوى من المشاركة في إدارة الانتقال سيدفعها إلى اللجؤ للمعارضة من داخل البرلمان وخارجه مما يضع العصي في دواليب الحكومة ويعرقل عملية الانتقال السلمي برمتها. حقيقة، إن الفترة الانتقالية لا تتحمل مثل هذه المعارضة. وقبل ذلك كله، على قوى الحرية والتغيير أن تحافظ على تماسكها وتتجاوز ما وقع من شرخ بين مكوناتها المدنية والمسلحة، بسبب هذه المشاركة في الفترة الانتقالية، وضرورة توفير قيادة ورؤية واضحة تعزز من ثقة الثوار والشعب السوداني بأجمعها في التحالف، لكي تتفادى مصير جبهة الانقاذ الوطني في مصر. وهذا، يستدعي أن تكون مكونات تحالف قوى الحرية والتغيبر أيضا متماسكه تنظيميا وتمتلك قاعدة شعبية، فإن نجاح أي تحالف سياسي في تحقيق أهدافه مرهون بقوة هذه المكونات كل واحدة على حدة، بمعنى أن لا يقوم على علاقات "أفقية" بين القيادات فحسب. فمع أن وحدة التحالف ضروريَّة ولازمة في كُلِّ الأحوال، إلا أنه إذا لم تُخاطِب الأحزاب مشكلاتها الداخليَّة وتُؤسِّس كياناتٍ متماسكة، تقوم على العلاقة الشفَّافة بين القيادة والقواعد، فكيف لها أن تقود وتعزز عملية التحول الديمقراطي عبر انتخابات قادمة، لا محالة؟ ومع ذلك، فلن يكتمل عقد التوافق السياسي-المجتمعي المطلوب بحصره فقط على توافق الأحزاب والتنظيمات السياسية واغفال الشباب والمرأة، والقوى الاجتماعية الصاعدة في مناطق النزاع المسلح، في جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق، ولجان المقاومة الشعبية في الأحياء، والشرائح الفئوية من مهنيين وعمال ومزارعين. أولا، فإنه من الضروري استيعاب الشباب، وهم من فجر الثورة، والاستماع لكلمتهم، والاستجابة لتطلعاتهم ومطالبهم، وابتداع الآليات المناسبة لدمجهم وتمكينهم في مؤسسات الدولة ليكونوا شركاء في صناعة القرار السياسي في مواقع السلطة التنفيذية المختلفة. ثانيا، هناك حاجة ملحة لصياغة عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الحكومة والحركة النقابية، وذلك وفق قانون جديد ينظم العمل النقابي بما يدعم عملية التحول الديمقراطي بدلا عن وضع المتاريس في طريق الحكومة الانتقالية. فقد أسهمنا نحن في التجمع النقابي، في أبريل 1985، نتيجة لخلطنا ل"السياسة" ب"النقابة"، في وضع العراقيل في طريق الحكومة المنتخبة بتصعيد المطالب الفئوية مما أضعفها في وجهة معارضة الإسلاميين الشرسة لها حتى تمكنوا من الإنقلاب عليها وعكس مسار التحول الديمقراطي في 30 يونيو 1989. ولذلك، ف"تجمع المهنيين" مطالب باستدعاء تجربتي "جبهة الهئيات" في أكتوبر 1964 و"التجمع النقابي" في أبريل 1985، واستذكار الدروس واستخلاص العبر منهما.
توطيد الشراكة بين المكونين المدني والعسكري: شرط حاسم لسلمية الانتقال!
إن كان توفير القيادة وتحقيق أكبر قدر من الوفاق السياسي يمثلان شرطان أساسيان للانتقال السلمي، فتمتين العلاقة بين المدنيين والعسكريين تظل شرطاً حاسماً لضمان هذا الانتقال. فالثوار لم يقتحموا مقر القيادة العامة للقوات المسلحة لكي يستلموا السلطة بأنفسهم، ومن ثم ينفذون برنامجهم المعلن. فلا شك، أن ثورة ديسمبر تختلف عن سابقتيها في 1964 و1985 من نواحي طبيعة نظام الإنقاذ وتطاول بقائه على سدة الحكم، وطبيعة المعارضة السياسية المدنية والعسكرية، وطول أمد الحراك الجماهيري، والمشاركة النوعية للشباب والنساء ومضامين شعارات الثوار، ودرجة ومدى تعقيد عملية انتقال السلطة وترتيبات الانتقال، في سياق ظروف داخلية واقليمية ودولية بالغة الاختلاف. ومع ذلك، يظل القاسم المشترك للثورات الثلاث هو انحياز القوات المسلحة لخيار الشعب، أن الاتتقال يتم عن طريق حكومة انتقالية، ولو اختلفت فترة تكليفها، تتوافق على تشكيلها القوى السياسية والنقابية، يرأسها أحد التكنوقراط من غير المنتمين حزبيا، ومهمتها الرئيس هي الاعداد وتهيئة المناخ لقيام لانتخابات حرة ونزيهة. فالوثيقة الدستورية، التي تمَّ التوافق عليها كمرجعية للحكم خلال فترة الانتقال، تقوم أساساً على شراكة معلنه، مضبوطة بأحكامها، بين المكونيين المدني والعسكري، ونشأت على هديها مؤسسات الانتقال. إن تغول أي مكون على صلاحيات واختصاصات المكون الآخر الشريك، لن يقود إلا لإنهيار العملية الانتقالية برمتها.
قوى الحرية والتغيير: الحاجة لإعادة التقييم ومراجعة الحسابات!
وفي نهايات عام 2018، لم تتوان كافة القوى السياسية المدنية والمسلحة، على حد سواء، من دعم حراك الشباب في بيانتها المتواترة ومناشدة عضويتها في الانخراط في المظاهرات والمواكب والاعتصمات التي يدعو لها تجمع المهنيين. فهكذا، وقع تحالفا "نداء السودان" و"قوى الإجماع الوطني"، ويضم كل منهما عدد من الأحزاب السياسية المعارضة والحركات المسلحة (المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية)، إضافة إلى كيانات فئوية أخرى وتنظيمات المجتمع المدني، مع تجمع المهنيين على "إعلان الحرية والتغيير"، 1 يناير 2019.
ابتداءً، علينا أن ننعترف بأن تحالف قوى الحرية والتغيير دفعت إلى إنشائه ظروف وشروط انتفاضة الشباب، فولِدَّ تحالفاً هشاً تعددت مكوناته، ذات الطبيعة "التحالفية" لأطراف متنافرة، وتنوعت توجهاتها. ذلك، بينما هناك ثمة تكتل سياسي آخر لعدد من الأحزاب والتنظيمات السياسية لم يكن مُرحباً به للانضمام إلى جبهة الحرية والتغيير، ربما بسبب الطابع الإسلامي لعدد من هذه الكيانات. وهذا هو نفس المصير الذي لاقته مبادرة "السلام والإصلاح"، برئاسة الجزولي دفع الله، بعد أن رفض تجمع المهنيين الحوار حولها داعيا أصحابها لخيار التوقيع على الإعلان فقط. وبالرغم من ذلك، لم تستطع قوى الحرية والتغيير لملمة أطرافها والاتفاق على ميثاق موحد للانتفاضة، أو رؤية واضحة لطبيعة السلطة الاتقالية وماهية القوى التي ستقوم بتشكيلها. وبعد منازعات بين أطراف قوى الحرية والتغيبر، من جهة، ونزاعات تفاوضية بين هذه القوى واللجنة الأمنية العسكرية القابضة على السلطة، من جهة أخرى، تم التوقيع على الوثيقة الدستورية في مناسبة مشهودة في 17 أغسطس 2019. ومع ذلك، لم يضع هذا الاتفاق حداً للنزاع المحتدم بين مكونات قوى التحالف، الشريك في الحكم، خاصة ما أبدته فصائل الجبهة الثورية من شكوك وهواجس من الوثيقة الدستورية، التى لم تحفلُّ باستحقاقات العملية السلمية. سبتمبر 2020. المُهمُّ في الأمر، أنه تمت لقاءات القاهرة وجوبا (والخرطوم بعد وصول وفد المقدمة) بين الجبهة الثورية والمكونات المدنية لقوى التحالف والتوصل إلى تفاهمات بخصوص إعادة هيكلة أو تشكيل قوي الحرية والتغيير. ومع ذلك، يبدو أن ليست كل الأطراف على قلب رجل واحد حول طبيعة ومدى إعادة التشكيل هذه، خاصة أمر معايير مشاركة قوى سياسية أو مجتمعية، لم تقف ضد الثورة أو عملية الانتقال، غير ممثلة في التحالف. وذلك، بالرغم من أن جميع فصائل الجبهة الثورية متفقة تماماً على ما جاء على لسان رئيس وفد مقدمة الجبهة إلى الخرطوم: "من الذي أعطى قحت الحق في الصعود فوق الشجرة وتقول للآخرين ماذا تريدون؟".
نشرت أكثر من مقالة ورسالة مفتوحة وجههتها إلى قوى التغيير منذ سنوات مضت قبل سقوط نظام الإنقاذ، 2012-2014، بأن "التحدِّي الحقيقي الذي يواجه الحركات المسلحة وبقية القوى السَّاعية للتغيير، في هذا المنعطف التاريخي الحاسم، لا تكمُنُ في مسألة “إسقاط النظام” فحسب، بل في “صناعة البديل” المقنع والمُلهم والقادر على حشد الشعب السُّوداني من حوله، وبالتالي تجنب سقوط الدولة السُّودانية نفسها". فهل وفرت قوى الحرية والتغيير هذا البديل؟ وفقاً لما استعرضته من ملامح المشهد السياسي الانتقالي، فالإجابة على السؤال في ظني هي لا. وفي الواقع، ضرورة إعادة النظر والتقييم لتحالف قوى الحرية والتغيير أضحت مطلباً ملحاً لكل أطراف هذه القوى نفسها، رغماً عن الشكوك والظنون المتبادلة، وشددَّ عليه رئيس الوزراء في جرد الحساب السنوي للحكومة الانتقالية. في رأيي، أن رئيس الوزراء نفسه، بصفته على رأس الجهاز التنفيذي، والذي اتسم أدائه بضعف ملحوظ، أكبر المُتضررّينُ من الضغوط والإملاءات التي تفرضها عليه بعض قوى الحرية والتغيير النافذة. ومع تدفق مياه كثيرة تحت الجسر، لم يقتصر النزاع فقط على كونه بين أطراف قوى الحرية، المدنية والمسلحة، بل انتقل الصراع ليُصبحَّ بين بعض هذه القوى، من جهة، والحكومة المدنية، التي قامت بترشيح رئيس الوزراء وكابينه، من جهة أخرى، حول توجهات وسياسات الجهاز التنفيذي وتحميله مسؤولية الفشل والاخفاق (إقرأ بيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأخير، 23 سبتمبر 2020). هكذا، أصبحت هذه القوى عبئا ثقيلاً على مؤسسات الانتقال وأجهزته النفيذية، مما يتناقض مع هدف أساس للثورة، وظل مطلباً رئيساً لكافة القوى السياسية، وهو فطام الحزب الحاكم للنظام البائد عن ثدي الدولة ومؤسساتها. فكيف لتحالف الثورة أن يقوم بلعب نفس دور المؤتمر الوطني المحلول، الذي كان يُدير أجهزة الدولة من النادي الكاثوليكي، بما يعرقل عمل، ويعيق الجهاز التنفيذي من الأداء المطلوب، بينما يضع التحالف اللوم على الحكومة ورئيسها؟ ولعل لجنة إزالة التمكين تُمثلُّ أصدق شاهد على تغول التحالف الحاكم على العمل التنفيذي من داخل دوواوين الحكومة، أو من تحت ظلال الأشجار باحات الوزارات. إن تغولَّ قوى الحرية والتغيير على العمل الحكومي التنفيذي يظل أكبر مهدد للحكومة، والفترة الانتقالية برمتها. إن المكان الصحيح لهذه القوى، وبقية القوى السياسية والمجتمعية الداعمة للانتقال السلمي، هو المجلس التشريعي المرتقب الذي يوفرُّ ساحة ومساحة للعمل الرقابي الحقيقة، وأن تكون أولية الأحزاب والتنظيمات السياسية هي العمل التنظيمي ومخاطبة جماهيرها وتنظيم كياناتها السياسية، وهياكلها التنظيمية، بغرض الإعداد والإستعداد لإنتخابات حرة ونزيهة.
الجبهة الثورية: ما دورها في السلام والانتقال؟
وفوق ذلك كله، يمثل السلام الشامل والعادل، والمصالحة الاجتماعية، الباب الأوسع لتحقيق التوافق/الوفاق السياسي الشامل. فبعد شد وجذب، وتفاوض استمر قرابة العام، تم التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاقية سلام جوبا، بين الحكومة الانتقالية والجبهة (الجبهتان) الثورية، على أن يتم التوقيع النهائي في 3 أكتوبر 2020. مع ذلك، فالسؤال للذي يطرحُّ نفسه هو: كيف نتوصل إلى السلام المستدام، الذي ظل هدفا معلنا، تروج له كل حكومات ما بعد الاستقلال، المدنية منها والعسكرية؟ بل، وألم تتوصل كل هذه الحكومات إلى اتفاقيات سلام مع حركات المقاومة المسلحة قادت آخرها إلى تقسيم البلاد؟ فتحدي السلام هذه المرة أضحى الآن أكثر تعقيدا كونه مرادفا لعملية تحول سياسي واجتماعي عميق لم يتوفر لثورتي أكتوبر وأبريل، وذلك على أنقاض نظام استبدادي دام لثلاثين عاما، تبدلت فيه الأوضاع الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة في أعقاب ترتيبات اتفاقية السلام الشامل التي أفضت إلي إنقسام للبلاد. فما هو الدور الذي ستلعبه الجبهة الثورية في تحقيق هذا السلام المستدام، من جهة، وفي دعم وصول عملية الانتقال إلى نهايتها المنطقية، من جهة أخرى؟ إن مشاركة فصائل الجبهة الثورية ستحدث زخماً وواقعاً سياسياً جديداً، لا شك إن أُحسنَّ استغلاله سيُساهم بفعالية في إنجاز هذين الهدفين المتلازمين، في ظل ما وفرته ثورة ديسمبر السلمية من فرصة كبيرة لتماسك ووحدة الجبهة الثورية، بعد انشقاقات لازمتها خلال مرحلة الكفاح المسلح. ففي رأيي، من ناحية دعم الانتقال، يُمكنُّ للجبهة الثورية أن تُخلق توازناً مطلوباً للقوى السياسية المدنية، وأيضاً بين هذه القوى والمكون العسكري، من قوات مسلحة ودعم سريع، ما من شأنه توطيد الشراكة مع المكون المدني، خاصة مع رئيس الوزراء. وللجبهة الثورية أيضاً دور في توفير الدعم لرئيس الوزراء، الذي تنتاشه سهام البعض من المطالبين باستقالتة أو اقالته مما قد يُحدثُّ ربكةً وارتباكاً لعملية الانتقال السلمي أويُقضي عليها بالكامل. كما على الجبهة الثورية أن تسعى بشدة من أجل تشكيل المجلس التشريعي، إضافة إلى كافة المفوضيات التي نصت عليها الوثيقة الدستورية. ومن ناحية تحقيق السلام المستدام، ينبغي على فصائل الجبهة الثورية أن لا تغُض الطرف عن الحركات الأخري، خاصة الحركة الشعبية شمال (تحت قيادة الحلو) وحركة تحرير السودان (تحت قيادة عبد الواحد)، بل عليها أن تتفهم مطالبهما، وأن لا تتنابذ معهما بالألقاب، وتخاطبهما بإيجابية لغرض التوصل إلى تفاهمات مشتركة نحو تحقيق سلام مُستدام. إن التمسك فقط باتفاقية جوبا كمرجعية وحيدة، مع دعوة الآخرين للإنضمام لها هكذا، قد يضع العصي في دواليب العملية السلمية. فالتجارب السابقة للحركات المسلحة التي وقعت اتفاقيات سلام، في الجنوب وفي دارفور، مع الحكومة القائمة حينئذ، وشاركت في مؤسسات النظام، لم تنجح في جذب الحركات الممانعة وتحقيق السلام الشامل، ولو اختلف السياق. فلماذا لا تنظر فصائل الجبهة الثورية إلى التفاوض مع الحركات غير المنضوية تحت لوائها كمسارات مستقلة ومنفصلة عن اتفاقية سلام جوبا، وتدعمه بقوة، طالما سيُحققُّ قيمة إضافية لعملية السلام الشامل؟
خلاصة القول: ما العمل؟ على خلفية هذا العرض والاستعراض، أُحاول في السطور القادمة أن أُقدمُّ تصوراً أولياً مُقتضباً لما يُمكِنُّ اتباعه من خطوات تهدف إلى دعم عملية الاتتقال السلمي في البلاد: • على رئيس الوزراء خلق بيئة سياسية تمكن الجهاز التنفيذي من اداء عمله بكفاءة وفاعلية، خاصة الشأن الاقتصادي المتدهور والمنذر بالانهيار، دون تغول من التحالف السياسي الحاكم كما كان حدث في الماضي، ويحدث الآن. فهما بلغت عظمة الثورة ونبل وبعد غايتها، فإن المواطن للطي ضحى بدمه وعرقه لتبلغ أهدافها، لا يتحمل بعد مرور أكثر من عام أن تتدهور احياجات معاشه الأولية إلى للعدم. كل ذلك، يستدعي: • ضرورة توافق رئيس الوزراء مع رئيس مجلس السيادة ونائبه، في سياق توطيد الشراكة بين المكونين العسكري والمدني، وعلى القوى الداعمة للانتقال السلمي المساهمة في تمتين هذه العلاقة؛ • مواصلة إكمال العملية السلمية مع الحركة شمال، تحت قيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان، تحت قيادة عبد الواحد نور، وكل الحركات غير المنضوية للجبهتين الثوريتين؛ • تشكيل المفوضيات التي نصت عليها الوثيقة الدستورية، خاصة تلك التي تقع ضمن اختصاصات رئيس الوزراء، وعلى رأسها: مفوضية الإصلاح القانوني، مفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة، مفوضية إصلاح الخدمة المدنية، ومفوضية الأراضي، بما يُحققُّ سيادة حكم القانون ويُزيل التغول السياسي على أجهزة العدالة؛ • إعادة هيكلة وتوسيع قحت بضم كل القوى التي تقف مع، وتدعم عملية الانتقال السلمي، خاصة ضم لجان المقاومة ونقلها من الشارع إلى القاعدة السياسية للحكومة (الحاضنة) لحين تشكيل المجلس التشريعي؛ • إعادة صياغة الوثيقة الدستورية، ليس فقط للتوفيق بينها وبين اتفاقية سلام جوبا، بل لاستيعاب كل المتغيرات التي طرأت على المشهد السياسي منذ سقوط نظام الإنقاذ، ومعالجة عثرات عام من عمر الفترة الانتقالية، وفق مشروع سياسي للوفاق/التوافق الوطني. • يعقب ذلك، تشكيل المجلس التشريعي وفق رسم خريطة دقيقة للقوى السياسية والاجتماعية الفاعلة والمؤثرة، الجديرة بالتمثيل، بما في ذلك الإسلاميين الداعمين للانتقال السلمي، على ان يصبح المجلس وهو المساحة والساحة للتشريع القانوني، واعتماد السياسات العامة للحكومة، وإحكام الرقابة على الجهاز التنفيذي؛ • الاستفادة الحصيفة من القبول والدعم، على المستويين الإقليمي والدولي لحكومة رئيس الوزراء، في كل المجالات خاصة الشأن الاقتصادي والمساهمة في استدامة السلام وتثبيت الاستقرار في البلاد.