إنطباعات عائد من السودان: أدركوا كُردفان قبل فوات الأوان … بقلم: برتوريا/مهدي إسماعيل مهدي
11 March, 2010
4-2
mahdica2001@yahoo.co
قبل أكثر من أربعين عاماً (أي في النصف الثاني من حقبة الستينيات الجميلة) كُنا عندما نأتي من مدينة النهود الريفية إلى مدينة الأُبيض "أب قبة فحل الديوم" في العُطلة الصيفية للمدارس، نحرص أشد الحرص على الإستمتاع بثلاثة أشياء؛ الإستحمام تحت الدُش، ركوب العجلات في الظلط (القيام سداري على طريق المطار)، و التهام الباسطة البُغاش ثُم شٌرب العصير المُشكل أو الحليب البارد (الساقط) في جروبي قبل دخول سينما كُردفان أو عروس الرمال. ولا يُدرك مدى مُتعة هذه الأشياء البسيطة إلا من كابد شظف الإستحمام بالطشت والجردل، أو مُعافرة العجلات في رمال النهود (وخور أبو قمراية)، أو إستعاض بالهالوك (أكل الملوك) عن الباسطة، بالرغم أن لأخينا يوسف عبدالرحمن بابكر (وهو رجلُ ذو مُبادرات وطرائف، وصاحب أول حلواني بالنهود) قصة مُعبرة عن تفضيل أحدهم للجراد المشوي على الباسطة، فقد حكى يوسف أن أحدهم أعاد له باسطته "بعد أن لمح صاحب طشت الجراد قادماً"، قائلاً (هوي؛ يا سيد الهناي شيل هنايتك، أديني قروشي، سيد الجراد جا).
الآن وفي أرقى الأحياء في عروس الرمال، أصبح الدُش مجرد ديكور وعادت دولة الطشت والجردل، وانطمر الأسفلت تحت طبقات كثيفة من الرمال السوداء المتسخة جراء أكياس البلاستيك والنفايات وروث حمير عربات الكارو. أما جروبي وبوفيه عروس الرمال والسينما (ومنتزه البلدية) فقد جار عليهما الزمان واحتلهما جيش عرمرم من ستات الشاي، وبائعي المساويك والسعوط والأدوية البلدية والكُتُب الصفراء؛ ممن أجبرهم وأجبرهن الجفاف والتصحر والحروب المتناسلة على النزوح إلى أشباه المدن، فأصبحت الأُبيض ومثيلاتها مجرد قُرى كبيرة لا تختلف عن "كليجو" أو "أم كريدم" في شئ، ولا يميزها عن أي قرية، سوى الأعداد الهائلة من خلق الله الزاحفة كالنمل وكأننا في يوم الحشر.
لقد كان أهل القُرى وأشباه المُدن (من أمثالنا) يأتون إلى المدينة فيتأثرون بها ويتمدنوا (Urbanization)، ولكن الذي يحدث الآن هو العكس تماماً إذ تريف أهل المدينة، وظاهرة التريف هذي (Ruralization) تُشي وتُنبئ بالكثير، ولها ما بعدها!!!.. ولعل هذا ما يُفسر غياب نادي الخريجين ومكتبة البلدية وجريدة كُردفان ومكتبة الجيل،،، إلخ، وعجز مدينة كالأبيض عن إنجاب حملة مشاعل التنوير، أمثال الفاتح النور وحاج الطاهر وود القُرشي وجعفر بخيت وعبد الله "حيوان الكُتُب" وعبد الله محمود جمباكا،،، إلخ (رحمة الله عليهم جميعاً).
مهلاً، قارئ العزيز، لا تستعجل وتقٌول "الناس في شنو وأنت في شنو!!"؛ إذ لعلنا نتفق أن أهم دافع للتطور التقني والتقدم البشري هو السعي وراء جعل الحياة أكثر سهولة ويُسراً، ومنح الإنسان حُرية أكبر في الإختيار والتأمل والإستمتاع (Freedom of choice).
هذه الملاحظات التي قد تبدو بسيطة لأول وهلة، ذات معنى ومغزى عميق، إذ أنها تعني ببساطة أننا في كُردفان خاصةً (والسودان عامةً) لم نستطع التقدم خطوة واحدةً للأمام مُنذ نصف قرن من الزمان، بل لم نستطع حتى المُحافظة على ما تركه لنا الإستعمار من مؤسسات غاية في الكفاءة والإنضباط كالخدمة المدنية والسكة الحديد ودور العلم والمشافي وخدمات حماية البيئة، وتراجعنا القهقرى بعجلة متسارعة، وهذا ما يُسمى بـ "التخلف".
ثمة ظواهر أُخرى لا تُخطئها العين؛ التوسع العشوائي السرطاني للمدينة، الإزدحام الشديد والكثافة السُكانية العالية، إنخفاض مستوى المعيشة، تدهور السلوك والذوق العام (خاصة بين سائقي المركبات الآلية والحميرية والباعة المتجولين)، تضخم أعداد ممتهني المهن الهامشية، وفوق هذا وذاك التدهور البيئي وإختفاء الغطاء الشجري والإنخفاض الكبير في مُعدل هطول الأمطار، وسوء توزيع القليل الذي يهطُل منها.
النتيجة الحتمية والمُباشرة لهذا التدهور، هي الإنخفاض المُريع في إنتاج المحصولات (ذُرة، فول سوداني، سمسم، صمغ، حب بطيخ، كركدي) وما يترتب علىذلك من آثار إجتماعية/إقتصادية "أقلها إندثار مقولة كردفان الغرة أم خيراً بره". فمن يذهب إلى سوق المحصول (الزريبة) بالأبيض في عِز الموسم كما يقولون (من أكتوبر إلى مارس)، لوجد أن الوارد من المحاصيل لا يتجاوز بضع عشرات من الجوالات المتناثرة هُنا وهُناك في سوق كان يُقال عنه ذات يوم " أكبر سوق للصمغ العربي في العالم"، وكان وارده اليومي من المحصولات، يتجاوز عشرات الآلاف من القناطير!!!.
بلا شك، هنالك علاقة موضوعية بين إنخفاض هطول الأمطار وتدهور الإنتاج وجيوش العطالة (السافرة والمُقنعة) وإنخفاض مستوى الدخل والمعيشة، وتحول مئات الآلاف من مُنتجين إلى مُستهلكين "هنا مكمن الداء"؛ وبالطبع تتصاعد هذه العلاقة وآثارها السالبة لتصل إلى عدم المقدرة على المنافسة في السوق العالمية في عالم أصبح قرية صغيرة (العولمة)، وهذا ما يُفسر "للمفارقة المُبكية" إنتشار الزيوت الصناعية (Olean Oil) وإنخفاض أسعارها مُقارنة بالزيوت النباتية في مُدن كالأُبيض والنهود وأم روابة، أصبحت قشاراتها ومعاصر زيوتها أطلالاً ينعق فيها البوم.
كيف فات على الإستراتيجيين الذين تعُج وتضج بهم قنواتنا الفضائية والإعلامية إن النتيجة الطبيعية لتدهور الإنتاج (كماً ونوعاً) وعدم المقدرة على المنافسة (لعدم المواكبة التقنية والعلمية)، وما يتبع ذلك من فقر وبطالة وتهميش وتريف وتخلف وأحقاد إجتماعية، إنما هي التربة الخصبة والبيئة الصالحة لنمو وبروز النزاعات والحروب الأهلية. لذلك ليس من المستغرب بروز حركات مطلبية مُسلحة على شاكلة شهامة وحركة العدل والمساواة - جناح كُردفان (دي المناظر بس، فالفيلم لم يبدأ بعد)، لأن الإقليم أصبح بيئة مُهيئة للثورة والنزاع، ولنتذكر قول الإمام علي "عجبت لمن يبيت على الطوى ولا يخرج على الناس حاملاً سيفه".
هذه حقيقة أدركها حتى مُنتسبي المؤتمر الوطني الذين ثاروا وخرجوا عليه مؤخراً (أحمد وادي، والطيب أبوريده،، إلخ)، ومن قبلهم (د.الطاهر الفكي، والمرحوم، اللواء/ إبراهيم أبورنات وغيرهم كُُثُرُ)، فمتى تُدرك سُلطة المركز الغافلة/الجاهلة، إن نزع الفتيل عن هذه الٌقنبلة التي توشك على الإنفجار لا يكون بشراء الذمم وملء بطون القلة وتعيين هذا والياً وذاك مُعتمداً، لأن هذه الحلول العرجاء هي التي أدت وتؤدي إلى مالا يُحمد عُقباه.
إن ما يحدث في كُردفان (ومن قبلها دارفور) تجسيد حي للآثارالسالبة للتغير المناخي (Climate Change) وعدم المقدرة على التكيف مع التدهور البيئئ وإفرازاته الإقتصادية/ الإجتماعية، وتأثيره الجذري على سبُل كسب العيش. وبالتأكيد فإن هذا في جوهره يعكس سوء إدارة الحُكم (Bad governance) في المركز والأقاليم، التي يبدو أنها أكثر تأثراً بسبب محدودية البدائل والفُرص المُتاحة أمام جموع المُنتجين الذين أصبحوا مُستهلكين (ولم يعد أمامهم من سبيل سوى النزوح أو الثورة)، وفوق هذا وذاك فإن على الأقاليم الصرف على جهاز إداري وسياسي متضخم كالسرطان، وغير قادر على إستيعاب مُشكلات الهامش، دعك عن علاجها بطريقة علمية أو تقديم الخدمات الأساسية التي تعتبر من ضروريات الحياة (Basic Needs).
(يتبع)