إنفصال الجنوب: هزيمة سياسية ماحقة للحركة الشعبية لتحرير السودان !!
تمثلت رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان، منذ تأسيسها فى العام 1983، في خلق سودان جديد موحد و ديمقراطي يعيش فيه جميع سكانه كمواطنين من الدرجة الأولى، متساوين فى الحقوق و الواجبات، لا يتم التمييز فيما بينهم بسبب الدين أو اللون أو العرق أو الموقع الجغرافي. و قد كرست الحركة رسالتها السياسية لتنزيل تلك الرؤية الى أرض الواقع، طيلة تاريخها الطويل. و بما أن الحركة قد ولدت و تأسست في ظل نظام عسكري دكتاتوري،هو النظام المايوي، فلم يكن أمامها من سبيل لتحقيق تلك الرؤية سوى حمل البندقية، و إعلان الكفاح المسلح ضد ذلك النظام، بإعتباره أنجع وسيلة لمنازلته و هزيمته، و بالتالي فتح الباب واسعا لتحقيق السودان الجديد.
ظلت الحركة الشعبية تبشر الشعب السوداني بأجمعه، شمالا و جنوبا، شرقا و غربا، بجدوى رؤيتها و رسالتها. على الرغم من أن الحركة قد بدأت نشاطها العسكري من أحراش و غابات الجنوب، إلا أن نشاطها السياسي كان يستهدف فضاء الوطن الواسع. و على الرغم من أن نشاطها السياسي قد إنطلق و سط شعوب الجنوب إلا أن رسالتها لم تقتصر عليهم، بل إمتدت لتشمل جميع من أسمتهم بالمهمشين فى جميع أنحاء السودان. من هنا فإن الحركة قد سعت، و منذ سنواتها الباكرة لإستقطاب تأييد الشعب السوداني بجميع شرائحه الإجتماعية، و تكويناته القبلية، و مختلف قطاعاته السياسية و المهنية.
لقد نجحت الحركة الشعبية فى إكتساب ثقة و تأييد العديد من القوى الإجتماعية في شمال البلاد، وكذلك العديد من رموز الفكر و الثقافة من الشماليين لمشروعها الفكري الذي طرحته فى ذلك الوقت. و قد تحمس لها العديد من الشباب الشماليين، و إنخرطوا فى صفوفها كمقاتلين فى مستوياتها التنظيمية المختلفة، العسكرية منها و المدنية، كل حسب قدرته و مقدراته. إن تلك الثقة و ذلك التأييد لم يأتيا من فراغ، بل كانا نتاجا طبيعيا لنضج المشروع الفكري الذي طرحته الحركة لمعالجة قضايا الوطن الشائكة، و التى إستعصى حلها على جميع النخب السياسية الشمالية،و أحزابها منذ فجر الإستقلال، و حتى وقتنا الراهن، نظرا لأوجه القصور التى شابت برامجها تجاه العديد من القضايا التى تواجه الشعب و الوطن، بما في ذلك مشكلة جنوب السودان.
مهرت الحركة الشعبية مشروعها الفكري و السياسي هذا بدماء أبنائها و بناتها، حيث قدمت عشرات، بل مئات الآلاف من الشهداء في سبيل تحقيقه. وقد قدم قادتها التضحيات الجسام، التي لا تعد و لا تحصي، و ذاقوا الأمرين، فى بسالة نادرة، من أجل بلوغ أهدافهم، لم يثنهم عن ذلك لا الفقر الذي عانوه، أو المرض، أو الجوع، أو حتي الإستشهاد، عن النضال المتواصل، دون كلل أو ملل، لتحقيق تلك الأهداف النبيلة. إن نبل المقاصد السياسية، و جسامة التضحيات التى قدمتها الحركة الشعبية قد أكسباها الكثير من التعاطف و التأييد و سط أبناء و بنات الشعب السوداني، الذين رأوا فى برامجها بصيص أمل لإخراج السودان من النفق المظلم الذي ظل محبوسا فيه منذ فجر الإستقلال و حتي وقتنا الراهن. سبب آخر زاد من شعبية الحركة الشعبية فى أوساط سودانيي الشمال تمثل فى عجز القوي السياسية الشمالية، دون إستثناء، فى تجاوز التحديات، وحل المشاكل التي أرقت ضمير الأمة على جميع الأصعدة السياسية منها، و الإقتصادية، و الإجتماعية.
إرتبط مسمي السودان الجديد بالحركة الشعبية حتي كاد أن يكون مرادفا لها. فما ذكرت الحركة الشعبية لتحرير السودان، إلا و ذكر السودان الجديد، و بالتالي كاد أن يكون "علامة تجارية" لها، حتى رسخ هذا المفهوم فى عقل ووجدان الشعب، بصورة لا تصدق ! و أكثر ما كان يميز مفهوم السودان الجديد، هو صفة السودان الموحد الديمقراطي، حيث أن الحركة الشعبية لم ترفع شعار إنفصال الجنوب مطلقا، و بالتالي لم تدرجه ضمن أجندتها السياسية، حتي ولو على سبيل المزاح! بل إن الحركة الشعبية ذهبت أبعد من ذلك و أعلنتها حربا شعواء لا هوادة فيها لكل من رفع شعار إنفصال الجنوب. و قد وقفت معركتها مع مجموعة الناصر، و فصلها لتلك المجموعة من صفوفها، لمجرد قبولها مبدأ تقرير المصير، الذي "باعته" لها حكومة الإنقاذ بدراهم معدودات فى لقائها بهم بمدينة ميونخ الألمانية، كأكبر دليل على مدى صدقها و جديتها فى كفاحها من أجل خلق سودان موحد جديد. إذن دلت تجربة الحركة الشعبية التاريخية على أنها كانت على إستعداد لقطع لسان كل من تسول له نفسه مجرد العبث بوحدة السودان، بإعتبار ذلك خطا أحمرا لا يجب تجاوزه بأي حال من الأحوال. بل ذهبت الحركة لأبعد من ذلك وهددت بقطع رأس كل من يتجرأ على إرتكاب مثل تلك الخيانة الوطنية، و ليس لسانه فقط، وقد فعلت ذلك لتأكيد أنها تعني ما تقول!!
لكن الوضع تغير بعد إتفاقية نيفاشا التي تم توقيعها بين الحركة و حكومة الإنقاذ فى العام 2005. لقد إرتضت الحركة الشعبية تضمين مبدأ تقرير المصير بالنسبة لجنوب الوطن كجزء من الإتفاقية. تمثل منطق الحركة فى قبولها لهذا المبدأ فى أنها تود أن تضمن بقاء دعاة الإنفصال ضمن صفوفها، و أن تقطع الطريق أمام الغلاة منهم، ومن ثم تعمل حثيثا على أن تكون الوحدة الطوعية بين الشمال و الجنوب هو هدفها الأسمي الذي سوف تلتزم به، و تسعي الى تحقيقه!! لكن الوضع تغير تماما بعد إستشهاد مؤسس الحركة الشعبية، و قائدها الفذ د. جون قرنق بعد ثلاثة أسابيع فقط من تأديته القسم نائبا أول لرئيس الجمهورية.
أدي إستشهاد د. قرنق الى حدوث إنقلاب فكري و سياسي داخل الحركة الشعبية، حيث أضحي إنفصال الجنوب يشكل أولوية قصوي بالنسبة لها، و تم تخفيض وحدة البلاد الى المرتبة الثانية فى سلم أولوياتها السياسية. لقد أنجزت الحركة الشعبية هذا الإنقلاب بأسلوب بارع غابت الكثير من تفاصيله حتى على بعض قياداتها و رموزها الملتزمة بمبدأ السودان الجديد الديمقراطي الموحد. فعلت الحركة كل ذلك تحت الشعار الخادع و المضلل و الذي أسمته بالوحدة الجاذبة. تمثل الخط الإعلامي للحركة فى إقناع الرأي العام، المحلي و الأجنبي، بأن مسؤولية تنفيذ متطلبات الوحدة الجاذبة و ترسيخ مقوماتها تقع بالكامل على عاتق المؤتمر الوطني. أكثر ما يحير المرء فى هذا الشأن هو معرفة الحركة التامة لرأي و أجندة و مواقف المؤتمر الوطني فى هذا الشأن، حيث شكل إنفصال الجنوب دوما أحد أولوياته، على الرغم من إدعائه الزائف بغير ذلك. فإذا ما إتضحت لنا هذه الحقيقة، يصبح حديث الحركة عن مسؤولية المؤتمر الوطني نحو تحقيق الوحدة الجاذبة مجرد تحصيل حاصل، ليس إلا. بل فى حقيقة الأمر أن الحركة الشعبية ظلت تعمل لفصل الجنوب، و قيام دولتها المستقلة على أراضيه فى ذات الوقت الذي لا تود فيه تحمل المسؤولية التاريخية و السياسية و الأخلاقية لهذا الموقف، تماما كما يفعل المؤتمر الوطني، الذي يسعي جاهدا، و بكل ما أوتي من قوة، لفصل الجنوب، في الوقت الذي يصم فيه آذاننا بلغو الحديث عن الوحدة الجاذبة. إذن لقد أصبح شعار "الوحدة الجاذبة" بمثابة قميص عثمان، أو قولة حق أريد بها باطل، و أصبح أسهل و سيلة يمكن من خلالها التنصل من المسؤوليات الوطنية، بل يتم من خلاله ذبح الوطن ثم نثر دمائه بين قبائل السياسة السودانية، حتي لا يعرف حقيقة من الذي قام بنحره. إنه لأمر مدهش. أليس كذلك؟؟!
ظل قادة الحركة الشعبية يتحدثون عن عدم وفاء المؤتمر الوطني بإلتزاماته لجعل الوحدة جاذبة بالنسبة للمواطن، دون أن يألوا أنفسهم، و لو لمرة واحدة، و ماذا قدمت الحركة الشعبية لجعل تلك الوحدة المزعومة جاذبة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تدل دلالة قاطعة بأن وحدة السودان لم تكن ضمن أجندة الحركة الشعبية منذ إستشهاد قائدها، بل على العكس تماما، لقد سعت الحركة الشعبية، و من خلال جميع المحافل، الوطنية و الإقليمية و الدولية، لضمان قيام دولتها المستقلة فى جنوب البلاد. و ليس من قبيل الصدفة أن زعيم الحركة الشعبية فى طريقه الآن، لحظة كتابة هذا المقال، الى الولايات المتحدة لحضور إجتماع مع مسؤولي الأمم المتحدة و الولايات المتحدة حول مصير السودان. عن أي مصير يتحدث هؤلاء الناس؟ هل هو المصير الذي قررته قيادات الحركة و المؤتمر الوطني لتقسيم السودان الى دولتين، حتي قبل إجراء الإستفتاء؟!
إننا نعتقد بأن إستقلال جنوب السودان قد أصبح مسألة وقت، ليس إلا. فلو قدر للإستفتاء أن يقوم فى موعده المحدد فى يناير من العام القادم فإننا سنشهد بزوغ فجر دولة النيل فى جنوب ما كان يعرف بالسودان. عندها يحق لنا أن نتوجه بالأسئلة التالية الى قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان: لماذا كافحت الحركة الشعبية كفاحا مسلحا لما يقارب الربع قرن من الزمان، و ما هو الهدف من كل تلك التضحيات التي تكبدتها؟ لماذا تخلت الحركة الشعبية عن مشروعها الفكري و السياسي المتمثل فى قيام سودان جديد موحد و ديمقراطي، يسع جميع أبنائه دون تمييز بسبب العرق، أو الدين، أو اللون، أو الموقع الجغرافي، و الذي ظلت تنافح عنه لما يقارب ربع القرن من الزمان؟ لماذا قدمت الحركة الشعبية مئات الآلاف من الشهداء في صراعها العسكري مع مختلف الحكومات المركزية فى البلاد، و بالأخص مع حكومة الإنقاذ الراهنة؟ ألم يكن من الممكن للحركة الشعبية تحقيق إنفصال الجنوب و قيام دولة مستقة فى ذلك الجزء من الوطن دون أن تتكبد كل هذا الكم الهائل من الخسائر المادية و البشرية؟ هل كانت الحركة الشعبية تخدع حلفائها من القوي السياسية فى الشمال، و هي تتبوأ أحد أرفع المناصب فى التحالف الجبهوي الذي ضمها إليهم،ألا و هو منصب الأمين العام لطيب الذكر التجمع الوطني الديمقراطي، حينما كانت تتبني السودان الجديد شعارا ظاهرا، و هي تبطن إنفصال الجنوب من الناحية العملية؟ لو كان الإفترض المبطن فى السؤال السابق صحيحا، إذن ما هو الفرق بينها و بين المؤتمر الوطني فى أسلوب عملها لمعالجة القضايا المصيرية التى تواجه الشعب و الوطن، حيث ظل الأخير يمارس "الشيزوفرانيا" السياسية منذ لحظة و لادة إنقلابه المشؤوم ممثلة في مسرحية "إذهب الى القصر رئيسا، و سأذهب الى السجن حبيسا"، أي يبطن غير ما يظهر حتي وقتنا الراهن؟ هل كانت الحركة الشعبية تخدع عضويتها و قياداتها الشمالية حينما كانت تتحدث عن قيام السودان الجديد، فى ذات الوقت الذي ظلت تسعي فيه الى إنفصال الجنوب؟ ماذا ستقول الحركة الشعبية لشباب دولتها المستقلة حينما يسألونها – عن ماذا كان يكافح العقيد جون قرنق، وما هي القضية التى إستشهد في سبيلها؟ بل كيف ستبرر للتاريخ و الأجيال القادمة أن إسمها الرسمي المعتمد هو الحركة الشعبية لتحرير السودان، و ليس تحرير الجنوب؟
أعتقد أن الشهيد جون قرنق سيتململ في قبره لو قدر له أن يسمع إجابات الزعامات التي خلفته في قيادة الحركة عن هذه الأسئلة، و بالأخص إذا ما عرف أن تلك القيادات قد سعت الى إيجاد أسهل الحلول لحل قضايا الوطن الشائكة، و هو فصل الجنوب. كان يمكن للقائد قرنق سلك الطرق السهل و تحقيق هذا الهدف في رمشة عين، لو أراد ذلك، دون أن يتكبد أي نوع من الخسائر. لقد إستشهد قرنق جراء المؤامرات التي حاكها ضده صغار القوم الذين كانوا يسعون دوما لتحقيق أهداف تتضاءل دون قامته السامقة، التي كانت بحجم السودان الجديد الموحد الديمقراطي، حيث إن إنفصال الجنوب كان سيشكل هزيمة ماحقة بالنسبة له شخصيا، و بالنسبة لمشرعه الفكري و السياسي الذي كافحت من أجله الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي كان يتزعمها، لما يزيد على العقدين من الزمان.
16/9/2010
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]