اتفاقية جوبا للسلام في السودان – من يملك حق التقييم والتقويم؟

 


 

 

في أكتوبر من العام 2020م، تم في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، التوقيع على اتفاق للسلام بين الحكومة السودانية الانتقالية التي تم تكوينها بعد ثورة ديسمبر 2018م، وعدد من الحركات المسلّحة التي ظلّت في نزاع مع نظام 30 يونيو 1989م، النظام الذي جاء بانقلاب قاده العميد حينها عمر حسن أحمد البشير وظلّ في السلطة قرابة ثلاثة عقود، سقط النظام إسمياً، لكنه ما زال فاعلاً في صور شتّى. اتفاق جوبا، هو امتداد لسلسلة الاتفاقيات التي بدأت باتفاقية أديس أبابا 1972م، وتلتها عشرات الاتفاقيات من مثيلاتها. وبالنظر إلى عمق أسباب النزاعات، والتي لم تفلح كل الاتفاقيات السابقة في اقتلاعها، فلم تفلح اتفاقية جوبا هي الأخرى في اقتلاع الجذور أو حتى هز الجذع، رغم ما توفر لأطرافها من مناخ ملائم نسبياً لم تتح لسابقاتها.

هكذا، تبقى النزاعات الداخلية في السودان عصية في مصارعتها، لطالما كانت المناهج المتّبعة لبلوغ السلام، مستنسخة في مضامينها وإن اختلفت في بعض شكلياتها والأطراف المتفاوضة. ولعل الاختلاف الأبرز بين الاتفاقيتين (جوبا 2020 وأديس أبابا 1972م) عن الأخريات، يأتي في أن هاتين الاتفاقيتين قد وٌقِّعَتَا مع حكومات فيها قدر من الرغبة في الوفاء بالالتزام، أتاحت مساحة مقدّرة للقادمين من الحركات المسلّحة في أن يتولّوا مناصب بكامل صلاحياتها وسلطاتها لكن مردودهم لم يكن بقدر تطلعات المواطنين، الذين ما فتئوا ينتظرون نتائج السلام، بخلاف الحال مع نظام 30 يونيو الذي كان على الدوام يشترى الوقت، عبر التوقيع على الاتفاقيات وتكبيلها بالمزيد من التنصّل عند التطبيق وإضافة صفحات على سجلّه المُعطّن بعدم الوفاء، ولكن بقدر أقل مع تنفيذ اتفاقية نيفاشا، التي كان العصا الدولي مرفوعاً على الدوام طوال مدة تطبيقها.

هذه المقدّمة ليست مفتاحاً للتعمّق في قراءة تفصيلية في تقييم وتقويم اتفاقية جوبا أو غيرها، ولا هي مدخل للحديث عن جدوى الاتفاقيات أو مناهج المعالجات للنزاعات المسلّحة في السودان، ذينك أمران دونهما مقالات أخرى ربما تأتي لاحقاً. هذا المقال المختصر يراد به أن يجيب فقط على سؤال، عمن يملك حق التقييم والتقويم لاتفاقية جوبا أو أي اتفاقيات سلام غيرها؟ وهو سؤال افتراضي لاحظنا أنه تعرّض خلال العامين السابقين إلى إجابات كثيرة من منسوبي الأطراف الموقّعة على اتفاقية جوبا، وتجلّت تلك الإجابات في تصريحاتهم وأحاديثهم في مختلف المنابر الإعلامية والاجتماعية، ولعل آخرها حديث الفريق البرهان في الورشة التي أقيمت في جوبا لتقييم الاتفاقية، والتي قال فيها "ورشة جوبا هي المعنية بتقييم الاتفاق وليس غيرها"، في إشارة ضِرار واضحة لورشة الحرية والتغيير التي أقيمت قبل أسابيع في الخرطوم لتقييم الاتفاق. كانت خلاصة إجابات ذلك السؤال الافتراضي هي أنه لا يحق لأحد الحديث عن أو القيام بتقييم أو تقويم اتفاقية جوبا إلا الأطراف الموقّعة عليها، أي جعلوا الحق حصرياً، مع أن الأمر في بساطة مفهومه غير ذلك تماماً، لأن الاتفاق لا يطبّق داخل حيازات خاصة بالموقّعين عليه، وإنما على الشعب والوطن كلهما، والشعب هو البرلمان الكبير الذي تنتهي عنده الأحكام. بيد أننا لا نغفل بالتأكيد دور الأطراف المُوقِّعة وفقاً لأسس التعامل مع الاتفاقيات من منظور تعاقدي.

هذا الوطن المسمّى السودان، مأزوم بالكثير من السوءات، ولكن بشكل أبرز سطوة أمرين اثنين، الاستيلاء على الحكم بلا إرادة شعبية وإساءة استخدام السلطة المُغْتَصَبة والفرعنة بها. وفي الوقت الذي تتيح فيه الفرصة للمُستولِين على السلطة أن يُكَفِّرُوا على أقل تقدير عن سوءتهم، بأن ينهجوا في الممارسة نهجاً مغايراً ويعملوا للصالح العام بالقدر الذي ربما يستميلوا فيه بعضاً من إغماض العين من الشعب وتغاضيه نسبياً عن فعلتهم التي فعلوا، تجدهم ينهجون العكس تماماً، فلا يستهويهم إلا رؤيتهم الشعب من علٍ وهو في رهق والوطن ينهار. لذلك، هو وطن ظلّت تنهشه النزاعات منذ بواكير الاستقلال، هذا إن جاز أن نتجاوز ما قبله. وطن لم تكتمل فيه بعد ركائز الدولة بمفهومها المعاصر؛ وطن لمّا تزل وحدته الوطنية هشّة هشاشة المفاهيم الفطيرة لهويته، وهي مفاهيم مجموعات مقدّرة ممن يُصَنِّفون أنفسهم نُخباً أو مستنيرين، وإذا كان هذا هو أمر هذه المجموعات، فبال محدودي المعرفة فيه أنه لا تثريب. والأمر كذلك، فقد انعكست تلك المفاهيم في الممارسة المتواضعة على المستوى السياسي والتنظيمي والتي دائماً ما تُقدِّم العِناد والمناكفة في التعامل مع الشأن العام، على العقلانية والواقعية، وعلى أي حال، فالشعب بأكمله ليس بعيداً عن كل ذلك، لأن انسياب هذه السلبيات هو في الاتجاهين.

السلام سواء أن جاء باتفاقيات أو غيرها، من المعلوم أنه يجب أن يستهدف بفوائده المواطن والوطن معاً، أي الانتقال بهما من مربّع الارتهان للنزاع، إلى باحة الاستقرار والأمان، فالجميع دفع مهر النضال، قتلاً وتشريداً ونزوحاً ولجوءً وفقراً وجوعاً ومرضاً ودماراً. إذن، غاية السلام ليست إرضاءً لطموحات المتنازعين الحاملين للسلاح، أو الانتصار لذواتهم، ولكن اتّقاءً لأسباب التنازع واقتلاعاً لجذوره. وبالنظر إلى أننا لسنا كوكباً منعزلاً عن جيراننا ومحيطنا الإقليمي والدولي، فإن النزاعات المسلّحة الداخلية التي حدثت وتحدثُ في هذا الوطن، يتمدد تأثيرها على الأمن والسلم، لتغطّي كل تلك الأطر الديموغرافية والجغرافية. ومن هنا فالمفهوم عن حق التقييم والتقويم، تحكمه درجات عمق التأثير والمتأثرين بتلك النزاعات ونتائج السلام التي تنجم عنها. هذا يقودنا إلى إدراك حقيقة أننا أمام مجموعة أصحاب للمصلحة في السلام، وبالضرورة هم أصحاب حق بدرجات متفاوتة في التقييم والتقويم كما أشرنا. هؤلاء هم مواطنو المناطق المباشرة للنزاع؛ أطراف النزاع؛ مواطنو المناطق المجاورة لمناطق النزاع؛ فشعب الدولة بأكملهم، ثم الدُوَّل المجاورة للسودان تدرّجاً بأقربهم لمناطق النزاع ويليهم تباعاً المحيط الإقليمي فالدولي.

هؤلاء جميعاً بحسبان أنهم متأثرون بالنزاع، بالضرورة هم أصحاب حق في التقييم، فرادى كانوا أو جماعات أو حتى تنظيمات مجتمع مدنى بمختلف تصنيفاتها، أو مؤسسات إقليمية ودولية. كما يملكون ضمن هذا الحق لكُلٍ، درجات التصرّف في حدود الأبعاد التي تقف عندها الحدود القصوى والدنيا وفقاً لحجم التأثر بالنزاع. فالمسألة بالنسبة للذين تولّوا السلطة دون إرادة الشعب، ينبغي ألا تتوقف عند نزعة النشوة بالسلطة وممارستها، وإنما يجب أن ينظروا للأمور من زاوية منفرجة، يأخذ النظر عبرها أبعاداً أكثر اتساعاً وعمقاً في تفسير العلاقة بين السلطة والمُتَسَلّطْ عليهم، أي أن فهم موضوع السلام واتفاقياته يجب أن يُنظر لهما بأكثر من مجرّد غنائم للتقسيم بمفاهيم حصرية للمناصب، لأن المطلوب هو الارتقاء إلى قدر ومتطلبات ومقتضيات المسؤولية التاريخية للمواقع القيادية في الدولة والتي تولّاها كل شخص سواء عبر انقلاب أو محاصصة اتفاقيات، بغية الوصول إلى تحقيق الحرية والسلام والعدالة في الوطن ولو عبر وسائل وآليات متباينة، دون ذلك، يصبح الأمر ركوب متواتر لموجة النزاعات والسلطة لتحقيق طموحات ذاتية، لن تترك لأصحابها في صفحات سجل التاريخ، سوى بقع داكنة على هوامش تلك الصفحات، ستُشيح عنها وتنساها الأجيال تباعاً.

إذن، وفقاً لهذه المعطيات، فحق التقييم والتقويم عند الشعب السوداني، يرتقي إلى درجة إلغاء الاتفاقيات، إذا وصل إلى قناعة أن ذلك أجدى وأنفع لوحدته الوطنية ولسلامة الوطن، ومن ثم الاستعاضة عنها بمناهج أخرى لوقف النزاعات المسلّحة وبلوغ السلام الذي يُفضي إلى الحرية والعدالة والاستقرار والتنمية، وفي هذا البحث عن بلوغ ذلك المرتقى من السلام المنشود، يستعين بتجاربه الذاتية فيأخذ منها العِبر والدروس المستفادة، وتجارب الشعوب الأخرى، حيث يأخذ منها النتائج الإيجابية. ولا ينبغي لأحد أن يفسّر ذلك وفقاً لهواه بأنه عودة إلى مربعات الحرب، مثل هذا التفسير، يظل أسيراً له من يتقاصر بفهمه عن القدرة على التفاعل مع أي منهج بديل يكون محل إجماع للتعامل مع القضايا التي تقود إلى النزاعات المسلّحة، بناءً على حقائق ومعطيات عقلانية وواقعية. ولا أحسب أن أحداً يرفع شعار الحرية والسلام والعدالة، يمكن أن يضع نفسه في قيد مثل ذلك الأسر، أو أن يتخلف عن ذلك الإجماع، إذا ما أزف النداء.

عندما نتحدث عن حق الإلغاء، لا بد أن نشير إلى أن ذلك يتم عندما يسبقه شرح مفصّل للاتفاقيات من حيث الموازنة بين الفوائد والمثالب لأصحاب المصلحة الذين عدّدنا مجموعاتهم في فقرة سابقة وهم سبع مجموعات، ومن ثم يتم الوصول إلى قرار الإبقاء أو الإلغاء عبر أحد وسيلتين يمارسهما الشعب، إما من خلال الاستفتاء العام للاختيار القائم على فهم عميق بين لا ونعم، أو عبر قرار يتخذه برلمان مكوّن من ممثلين منتخبين من الشعب بعد مداولات مستفيضة. بيد أنه في الممارسة النقيضة، يمكن للشرعية الثورية، فعل أي شيء إن هي سادت وتولّت السلطة بشرعيتها، حينها ستعصف بالكثير من أجل التغيير الشامل. لكن كل هذا لا يتوفر الآن وبالتالي، واقعياً نحن بعيدون عن كل هذه الوسائل، وهنا يقتضي الأمر انخراطاً متجرّداً في التقييم والتقويم على كل المستويات والمنتديات؛ الجماعية والفردية؛ التنظيمية وغيرها، انخراطاً يسمو فوق كل الأجندات، على أمل بلوغ الخلاصات المأمولة. لكن، أعيد تكرار أن حق التقييم والتقويم لاتفاقية جوبا أو غيرها من اتفاقيات السلام، حق مشاع لكل أصحاب المصلحة الذين سبق ذكرهم وفقاً للمرحلية التي أوردناها، وفي مقدّمتهم الشعب لأنه المستهدف الأول بنتائجها، وهو الذي سيتحمّل بوائق فشلها.

jabdosa@yahoo.com

 

آراء