اتفاق “الأمة” و”العدل” .. وخطورة زراعة ” الريح”

 


 

 


محمد المكي احمد
modalmakki@hotmail.com
المشهد السياسي في السودان يبدو أكثر تعقيدا  حاليا ، وهو مفتوح على الاحتمالات كافة في ضوء تفاعلات أزمة دارفور من جهة ، كما تطل  تناقضات المشهد السياسي الصارخة   في  مسارات التباين الحاد   في مواقف " الشريكين" الحاكمين  ( حزبا المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)  حول مدى تطبيق "اتفاق السلام"  .
لكن هنا لابد من التنويه بمضمون   الخطاب الايجابي المسؤول للنائب الاول لرئيس السودان  الفريق  سلفاكير ميارديت في جنوب كردفان خلال الأيام القليلة  الماضية ، حيث أكد على أولوية خيار الوحدة لدى "الحركة الشعبية لتحرير السودان".
سلفاكير  أكد  مجددا أهمية الاحتكام الى نهج الحوار لحل مشكلات السودان، ومن يتأمل أبعاد الخطاب قد  يرى في ماوراء تأكيداته ومواقفه محاولة  لتهدئة نفوس غاضبة ومتوجسة في  حزبي "الشريكين" المتناكفين المتشاكسين، وفي كلامه أيضا رسائل الى من يهمهم الأمر داخل وخارج السودان. 
في خضم المناخ السياسي السوداني  الساخن  بل الملتهب  تأكدت معلومات بشأن  حوار بين قوى معارضة  وأخرى  حاملة للسلاح وخاصة حركة العدل والمساواة ،  وظهرت مقدمات  و ونتائج  هذا الحوار في  بنود ومرتكزات  الاتفاق بين حزب الأمة وحركة العدل والمساواة الذي جرى توقيعه في القاهرة في أول يوليو 2009. 
أعتقد  بأن هذا التطور مهم ،  وقد  رمى بحجر في  بركة "راكدة" أو يراد لها أن تكون كذلك،  و أرى أن اتفاق  حزب الأمة وحركة العدل والمساواة  يؤشر الى سعي الجانبين  للاحتكام الى تعزيز  لغة الحوار بين السودانيين ، في سبيل   بلورة مباديء وعناوين للتوافق بين أبناء الوطن  إذا خلصت نوايا الجميع، وخاصة "القابضين" على كراسي الحكم.
لم أستغرب رد الفعل الانفعالي  الذي اظهره بعض  مسؤولي  حزب  المؤتمر الوطني الحاكم ، أ و بعض أنصاره   ضد الاتفاق و ضد  قيادتي  حزب الأمة   وحركة العدل والمساواة.
معلوم أن الاتفاق بين "الأمة" و"العدل" يوجع على وجه  الخصوص حزب المؤتمر الوطني ، لا الحكومة بشكل عام ، لأنها تضم أطرافا لا يزعجها   الاتفاق  مع حركة العدل والمساواة، كما  أن بعض أطراف الحكومة لا تؤمن أو لا ترى امكانية احتكار الحراك السياسي أو  التوصل الى اتفاقات مع الآخرين الحاضرين  والفاعلين  في المشهد السياسي السوداني .
 أحزاب الحكم والمعارضة  تعرف مخاطر  استخدام نهج الاقصاء واحتكار العمل السياسي، في مجتمع لا يمكن ان تحكمه  فلسفة سياسية واحدة ،  أو توجه  واحد أو نظرة شمولية ديكتاتورية، تصادر حقوق الجميع، سواء  أولئك الذين يحتكمون الى المعارضة المدنية السلمية كحزب الأمة القومي  بقيادة السيد الصادق المهدي،  أو الذين مازالوا يحملون البندقية،  لكنهم يواصلون  في الوقت نفسه المفاوضات مع الحكومة السودانية في قطر ، وفي صدارة هؤلاء دكتور خليل ابراهيم رئيس حركة العدل والمساواة.
 لغة التجريم والتحامل والاساءة  التي استخدمها بعض الساسة وغيرهم   في هجومهم   متعدد الأشكال والأساليب ضد  حزب الأمة وحركة العدل والمساواة لا تفيد السودان ، ولا تفيد المحاولات الجارية لحشد جهود السودانيين  في سبيل  التوصل الى ارضية مشتركة لمواجهة مشكلات الوطن، بعيدا عن أي نهج يسعى  لإقصاء   اي حزب  أو قائد او زعيم سياسي  .
النهج الاقصائي الديكتاتوري مرفوض، وأرفض استخدامه  اليوم أو غدا  ضد حزب المؤتمر الوطني أو أي حزب أو قائد سوداني، ويشمل ذلك "الموالاة"  كما يحلو ذلك الوصف  للبنانيين.
سأرفض مستقبلا اذا كان في العمر بقية  وفي اطار موقف مبدئي أي  إقصاء لحكام اليوم الذين استولوا على السلطة عبر انقلاب عسكري اطاح نظاما ديمقراطيا ، لأن  النظام   الديمقراطي الحقيقي   ينبغي ان يخلو من  نهج الاقصاء والتخوين، لتسود الحرية و العدالة والمساواة.
ربما   يكون هناك من فوجيء في الخرطوم وغيرها  باتفاق "الأمة " والعدل" ، وقد تكون مسألة عدم دستورية الحكومة بعد التاسع من يوليو الواردة في الاتفاق ، ووفقا  لرؤية معارضين آخرين  أيضا استنادا الى احدى مواد الدستور الانتقالي كما يقولون  قد أزعجت قادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم  وبعض شركائه "المهمشين" في الحكومة.
 من المؤكد  أن  ما جاء في اتفاق " الأمة" والعدل"  عن" تأييد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1953 وتأكيد عدم الإفلات من العقوبة "  قد أثار ازعاجا واستياء وغضبا  في اوساط   حكومية وغيرها،  وهذا من حقهم ، وليس من حق احد مصادرة مواقفهم ومشاعرهم أيضا.
 لا أحد من حقه أيضا  مصادرة حق حزب المؤتمر الوطني الحاكم  أو أي جهة اخرى او أي شخص عادي في رفض أو انتقاد الاتفاق الذي وقعه  حزب الامة القومي وحركة العدل والمساواة، لأن من حق الحكام ومن لف لفهم أو أراد أن يناصرهم أو ينافقهم او يتقرب اليهم باقتناع أو لسبب آخر أن يعبروا جميعا  عن رؤاهم ، لكن من دون استخدام لغة التجريم والتخوين والاساءة والتشويه .
لغة  التجريم و التخوين و توجيه الاساءة بطرق  متباينة  وأساليب غارقة  في الغطرسة  والاستبداد   تمثل تجارة  قديمة وخاسرة وبائرة ، وهي تجارة يحاول بعض حكماء "نظام الانقاذ" في مواقع مختلفة  أن يعالجوا انعكاساتها السلبية التي أدخلت السودان والسودانيين في دائرة الصراع الأجوف المحموم والاقتتال الشرس، وطبعا لا أحد من مصلحته الآن أن تعود الحياة السياسية في السودان الى نقطة الصفر التي دخلتها بعد انقلاب الثلاثين من يونيو 1989.
أكرر  أنه من حق مسؤولي الحكومة  ومناصريها  وأي كانب وصحافي أن يعبر عن رفض اتفاق  حزب الأمة وحركة العدل والمساواة اذا أرادوا  التعبير عن مواقفهم،   لكن  ليس من حق أحد أن يكيل الشتائم الصريحة أو المبطنة للآخرين ، لأن هذا النهج البائس الاستعدائي الموتور لا ينسجم مع لغة الحوار،  و سيوغر الصدور ويخلق مرارات جديدة.
أعتقد بأن  الاتفاق بين حزب الأمة وحركة العدل مهما تباينت الرؤى حوله، وهذا أمر طبيعي، يمثل خطوة  تحتاج الى حوار هاديء لا تتجاهل مرتكزات مهمة في الاتفاق الذي نص   أولا على  أن " الهدف الاستراتيجي المشرك هو تحقيق وطن سوداني موحد ديمقراطي فيدرالي تقوم الحقوق فيه علي المواطنة وتكفل فيه الحريات العامة وعلي رأسها حرية العقيدة، والتعددية السياسية والثقافية. وتضمن فيه قومية مؤسسات الدولة وسيادة حكم القانون"، وهذا النص في رأيي مهم وحيوي الدلالات.
ثانيا جاء في اتفاق الأمة القومي وحركة العدل والمساواة أن"  السلام خيار الأطراف الإستراتيجي ويسعي حزب الأمة إلي تحقيق الأهداف بالوسائل المدنية، في حين تري حركة العدل والمساواة السودانية مشروعية كافة الخيارات بما فيها الثورية لتحقيق ذات الأهداف"، ويحمل  هذا النص مواقف واضحة للطرفين مع احتفاظ كل طرف بوسائله في العمل السياسي  .
طرفا الاتفاق أكدا في اتفاقهما  على أن  بناء السلام الشامل والعادل والتحول الديمقراطي مهمة وطنية لأهل السودان،  وشددا على أن ما يقوم به الاشقاء والاصدقاء مطلوب لمساعدة اهل  السودان،  وهذه رؤية وطنية تلقى احترام الوسطاء، ومنهم أميركا ، وقطر التي ترى أن التوافق بين السودانيين مهم لتحقيق سلام دارفور والاستقرار في السودان، وهذه الرؤية عبر عنها مسؤولون قطريون  غير مرة ، كما أعتقد بان ادارة الرئيس الأميركي أوباما تتعامل حتى الآن مع قضايا السودان من خلال  نهج سياسي يختلف عن أساليب  الرئيس السابق جورج بوش. .
اتفاق  حزب الأمة وحركة العدل والمساواة دعا  لتطبيق اتفاق حسن النوايا وبناء الثقة الذي وقعته الحكومة وحركة العدل والمساواة في الدوحة  حتى تنطلق المفاوضات المقبلة   ، وأعتقد   ايضا بأن تطبيق اتفاق الدوحة  مهم وضروري   لانجاح جولات  مفاوضات  مستقبلية   .
 كتبت مقالا  قبل توقيع اتفاق "الأمة"  و"العدل" بشهرين في  صحيفة "الأحداث" في نيسان (ابريل) 2009  تحت عنوان "كي تحل عقدة التفاوض بين الحكومة وحركة العدل" وهو موجود بين مقالاتي في موقع سودانايل (الأعمدة)، وكنت دعوت  لتطبيق اتفاق الدوحة لفك عقدة استئناف المفاوضات.
 في سياق كل هذا أتساءل ، لماذا لا يناقش الذين انبروا لمهاجمة اتفاق "الأمة" و"العدل"  تلك  البنود الايجابية التي اشرت اليها سابق على سبيل المثال ،   ولماذا يركزون فقط على نقاط الخلاف، وهي الدعوة لحكومة قومية ومسألة الاحصاء الذي تتباين حوله رؤى القوى السياسية وفي صدارتها الحركة الشعبية لتحرير السودان.
 ولماذا التركيز في حملة التخوين والتجريم على ان حزب الأمة اتفق مع حركة متمردة تحمل السلاح، أليس من حق كل  القوى السياسية ان تتحاور مع الآخر الذي قد  تتفق معه في نقاط محددة او تختلف معه في جوانب أخرى،  ولماذا يكون التفاوض بين  مسؤولي النظام ا لحاكم في السودان  وحركة العدل حلال ، و يكون التلاقي بين الآخرين وحركة العدل حرام ومحظور.
هل نفهم من الحملة الانفعالية أنه يحق  لمسؤولي الحكومة  دون غيرهم  فعل ما يشاؤون ومحاورة من يريدون محاورته في المكان والزمان الذي يحددونه  وحدهم ، حتى لوكان حسب وصفهم  "متمردا"  او "عميلا " يحمل السلاح ويقاتلهم ليل نهار .
هل نفهم ويفهم المواطن السوداني  أن رد الفعل التخويني الاستعلائي المستبد هو   محاولة جديدة لاحتكار قيم  التواصل والحراك  السياسي  للقوى السياسية السودانية وحرمانها من حقها في التشاور والاتفاق حول قضايا الوطن الكبرى.
 لا أحد في مقدوره، كما أكدت تجارب الأمس القريب والبعيد،  أن يحيل أبناء وبنات  السودان، سواء الذين هم في دائرة الحكم أو المعارضة،  الى مجرد ارقام وأدوات  شطرنج تتحرك وفقا لرغبة الحاكم  وأهوائة ومزاجه .
  الخيار والحل الممكن والمطلوب  هو أن يسعى الجميع في الحكم والمعارضة الى تعميق قيم التشاور، وفتح آفاق  الحوار حول القضايا كافة ، من اجل  "التوافق" ، وفي سبيل بناء وطن  مستقر آمن  يتسع للجميع، وتظلله ظلال الحرية والعدل والمساواة.
هذا أيضا  هو الخيار الأفضل للسودانيين اليوم وغدا  ، لكن ذلك  يتطلب وضع حد  لهواية  حكومية   تثير  غبارا  كثيفا  في المجتمع السوداني، وخاصة   في أعين الآخرين  من أصحاب المبادرات الحيوية،التي تسعى لكسر حال الجمود، في سبيل "نفير" سياسي جماعي، لا يقصي احدا أو يحرمه من حقوقه الانسانية والسياسية، كما  يغرس المزيد من غراس التواصل والتشاور لبناء  شجرة سودانية ظليلة  مثمرة خضراء.
برقية: لا تزرعوا الريح حتى لا تحصدوا العاصفة.
                                 عن صحيفة ( الأحداث) 11-7-2009
 ملاحظات عن فقرات حزفتها الرقابة الأمنية
+ حزفت  الرقابة سطورا  تشير الى  (حكام اليوم  الذين الذين استولوا على السلطة عبر انقلاب عسكري اطاح نظاما ديمقراطيا  ، وكان النص قبل النشر  كالآتي: ( سأرفض مستقبلا اذا كان في العمر بقية  وفي اطار موقف مبدئي أي  إقصاء لحكام اليوم الذين استولوا على السلطة عبر انقلاب عسكري اطاح نظاما ديمقراطيا ، لأن  النظام   الديمقراطي الحقيقي   ينبغي ان يخلو من  نهج الاقصاء والتخوين، لتسود الحرية و العدالة والمساواة
+ حزفت الرقابة الفقرة الآتية  من المقال(لغة  التجريم و التخوين و توجيه الاساءة بطرق  متباينة  وأساليب غارقة  في الغطرسة  والاستبداد   تمثل تجارة  قديمة وخاسرة وبائرة ، وهي تجارة يحاول بعض حكماء "نظام الانقاذ" في مواقع مختلفة  أن يعالجوا انعكاساتها السلبية التي أدخلت السودان والسودانيين في دائرة الصراع الأجوف المحموم والاقتتال الشرس، وطبعا لا أحد من مصلحته الآن أن تعود الحياة السياسية في السودان الى نقطة الصفر التي دخلتها بعد انقلاب الثلاثين من يونيو 1989).

 

آراء