ازمة القطاع المصرفي في أمريكا
عبد الإله حسن محمد
20 March, 2023
20 March, 2023
أعادت أزمة بنك سيليكون فالي (Silicon Valley Bank, SVB ) إلي الاذهان انهيار بعض البنوك الامريكية في عام ٢٠٠٨. حيث سيطر مسؤولي مؤسسة تامين الودائع الفدرالية في ١٠ مارس ٢٠٢٣ على كل فروع البنك في أمريكا. ذلك بعد أن أعلن عن عجزه لتلبية طلبات العملاء الذين بدأوا في سحب ودائعهم بصوره عاجله.
تأسس البنك في عام ١٩٨٣ لتوفير خدمات الائتمان لشركات التكنولوجيا الناشئة في سيليكون فالي في كالفورنيا ومن هنا جاء اسم البنك. حيث كان هناك فجوة كبيرة في السوق المصرفي لتمويل مثل هذه الشركات. غالباً ما ترفض البنوك الكبيرة تمويل الشركات الناشئة نسبة للخطورة العالية الكامنة في تمويلها. حيث لا تمتلك هذه الشركات أصول ثابتة او إيرادات لتغطية نفقاتها الباهظة في سنواتها الأولى لتستطيع تطوير وتحويل افكارها إلي منتجات ربحية. وهنا لعب البنك دوراً هاماً ورئيسياً لتمويل هذا النوع من الشركات. صار البنك في فترة وجيزة من اكبر البنوك في هذا المجال واحتل المرتبة رقم ١٦ في ترتيب البنوك الأمريكية من حيث قيمة الأصول التي بلغت ٢٠٩ مليار دولار في نهاية ٢٠٢٢.
أثر جائحة فيروس الكورونا على البنك:
رغم مزاولة البنك نشاطه في المجال المصرفي لحوالي ٤٠ عاماً إلا أنه خلال الفترة ٢٠١٧-٢١ نمى حجم الودائع بالبنك بوتيرة مطردة حيث زادت قيمتها من ٤٤ مليار دولار في عام ٢٠١٧ إلي ١٨٩ مليار دولار في عام ٢٠٢١ مما يعني ان حجم الودائع لديه زاد بمعدل ٣٣٠٪ في تلك الفترة وبنسبة ٦٦٪ في المتوسط السنوي. السبب الرئيسي في هذه الزيادات الكبيرة في حجم الودائع هو ضخ تريليونات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي (حوالي ٣ ترليون دولار) في بداية ظهور جائحة فيروس كورونا. لتشجيع المؤسسات المالية و خاصة البنوك التجارية للتوسع في سياسات التمويل قامت البنوك المركزية والبنك الاحتياطي الفدرالي (Federal Reserve Bank, Fed) بخفض سعر الفائدة إلي الصفر، ذلك هو السعر الذي بموجبه يمنح الفدرالي المؤسسات المالية والبنوك التجارية القروض. إلا أن المؤسسات المالية والبنوك التجارية لن تقترض اموالاً من البنوك المركزية حتي ولو كانت بدون سعر فائدة أذا لم تستطع ان تحقق ارباحاً من هذه الاموال. لذلك قامت بتسهيل شروط التمويل للشركات. استغلت الشركات الناشئة فرصة التمويل السهل وبدأت التوسع في الاقتراض. كانت هذه الشركات الناشئة تقترض من شركات راس المال المخاطر Capital Venture بشروط سهله وتستودع الأموال المقترضة في البنوك التجارية إلي حين الاستفادة منها. واحد من اكبر البنوك المستفيدة كان هو بنك سيليكون فإلي الذي لم يكن له منافس في هذا المجال. هذا هو السبب الرئيسي في زيادة الودائع في البنك خاصة في السنوات ٢٠٢٠ و ٢٠٢١. إلي هنا لا توجد أي مشكلة. المشكلة الرئيسية هي كيفية استثمار هذه الودائع.
أثر انخفاض سعر الفائدة على سوق الأوراق المالية:
عندما انخفضت أسعار الفائدة إلي الصفر، أصبحت اذون الخزانة والسندات الحكومية غير جذابة للمستثمرين من حيث الأرباح، ولا يرغبون الاحتفاظ بأموالهم في شكل سيولة. وجدوا الاستثمار الأمثل هو اسواق الأسهم المالية. أدى ذلك إلي ارتفاع اسعار اسهم بعض الشركات بصورة جنونية، في بعض الأحيان كانت ترتفع بنسبة ١٠٠٪ بل ارتفعت اسعار بعض الأسهم بنسبة ٢٠٠٪. حققت بورصة ناسداك (Nasdaq) الامريكية وهي بورصة متخصصة في شركات التكنولوجيا في المتوسط السنوي أرباح تعادل ٢٩٪ في فترة (٢٠١٧ -٢١) وهي نسبة عالية وصلت في العام ٢٠٢٠ إلي ٤٨٪ لأول مرة في تاريخ البورصة. اما بورصة أس اند بي500) (S&P الذي يضم اكبر ٥٠٠ شركة أمريكية وصل متوسط أرباحها السنوية لنفس الفترة ١٩٪ وهو ايضاً عائد غير مسبوق في تاريخ البورصة. تلك هي نفس الفترة التي ضخت فيها مليارات الدولارات المجانية في الاقتصاد الامريكي.
تدخل البنك الفدرالي:
بدأ الفدرالي الانتباه الي النمو القوي للاقتصاد الأمريكي والضغوطات الساخنة للتضخم. لذلك صرح في بداية العام ٢٠٢٢ انهم سيبدؤون في رفع سعر الفائدة. على اثر هذه التصريحات بدأت أسعار الأسهم في الانخفاض بينما قيمة اذون الخزانة والسندات الحكومية بدأت تدريجياً في الارتفاع. يجتمع الفدرالي ثمانية مرات في العام لمناقشة معدل سعر الفائدة الذي يرغب فيه. ويأخذ في الحسبان العوامل الاقتصادية المختلفة مثل معدلات التضخم، معدلات العمالة والتشغيل، سوق العقارات، معدلات الاقتراض من المؤسسات المالية وأي عوامل مستجدة تؤثر في الاقتصاد الأمريكي بصفة عامه مثل ما يحدث في قطاع المصارف الآن.
اتخذ الفدرالي اول قرار له برفع أسعار الفائدة في ١٧ مارس ٢٠٢٢، حيث قرر رفع سعر الفائدة بنقطة أساس يعادل ٢٥ أي (0.25٪) . ومنذ ذلك الوقت استمر البنك في زيادة أسعار الفائدة في كل مرة بوتيرة متصاعدة وصلت إلي نقطة أساس٧٥ (0.75٪) أربعة مرات ومرتين إلي نقطة اساس ٥٠ (0.50٪) واليوم وصل سعر الفائدة الفدرالي إلي ٤.٧٥٪.
الأثر الاقتصادي لقرارات رفع سعر الفائدة:
عندما ترتفع اسعار الفائدة ترتفع التكاليف الأساسية لرأس المال الذي يقرضه البنوك لعملائه وترتفع معه أسعار كل شيء في الاقتصاد وبالتالي ينكمش حجم المبيعات في محلات التجزئة والجملة ، وسوق العقارات الخ، لتآكل القوة الشرائية لدي المستهلك مما يؤدي إلي انخفاض معدلات التضخم. ايضاً مع ارتفاع أسعار الفائدة ترتفع قيمة السندات الحكومية طويلة الاجل الصادرة حديثاً لقلة المخاطر وارتفاع العائد بينما تنخفض قيمة السندات التي صدرت في السنوات السابقة نسبة لعائدها المنخفض. كذلك تنخفض أسعار أسهم الشركات في البورصة لأن أرباح الشركات تقل مع ارتفاع الأسعار بسرعة وارتفاع تكلفة التمويل لاستثماراتهم الجديدة. وصل سعر السندات الحكومية السائدة الآن إلي ٤٪ او اقل بقليل. يعني ذلك شراء سند حكومي اليوم ب ١٠٠ دولار يعطي عائد سنوي ٤ دولار بينما نفس السند الحكومي للأعوام ٢٠٢٠ و ٢٠٢١ يدر واحد دولار فقط كعائد سنوي. ولذلك بدأ الآن كل اسرار الاستثمارات في القطاع المصرفي تتعرى، من هو الأكثر عرضة للخطورة، من هو الأكثر تحوطاً، من هو المغامر ومن هو صاحب القرارات الخاطئة، ومن هو الذي كان يسبح عارياً.
هنالك مقولة مشهورة للملياردير الأمريكي الشهير وارن بافيت (Warren Buffet)، اكبر المستثمرين في سوق الأوراق المالية يقول "فقط عندما ينحسر المد سنرى من كان يسبح عارياً"
(It's only when the tide goes out that you learn who has been swimming naked).
الآن وضح جلياً ان بنك سيليكون فالي كان يسبح عارياً، وضح ذلك من طريقة استثماره للودائع الضخمة في سندات طويلة الاجل (٥ إلي ١٠ سنوات) بعائد سنوي لا يتجاوز ١.٥٪ ، ويمثل اكثر من ٥٠٪ من محفظة البنك الاستثمارية. تعتبر هذه النسبة نسبة عالية مقارنة باستثمارات البنوك الأخرى في هذه السندات التي غالباً لا تفوق نسبة ٢٥٪. عندما ارتفع عائد السندات الحكومية طويلة الاجل إلي ٤٪ لم يكن في مقدور البنك فعل اي شيء تجاه هذا الاستثمار غير الموفق سوى الانتظار لنهاية المدة او بيعها بأسعار منخفضة. هنا تدخلت شركة موودي (Moody’s) وهي شركة تصنيف أمريكية لتقيم سندات واسهم الشركات العامة والمصارف. عندما اكتشفت موودي خطورة استثمارات البنك قررت ان تخفض تصنيف درجة الامان لاستثمارات البنك. طلب البنك من شركة موودي مهلة للتخلص من بعض السندات الحكومية وعمل طرح ثانوي في سوق الأوراق المالية لزيادة رأسمال البنك. فشل البنك في طرح نوعين من الأسهم، اسهم عادية (Class B) واسهم ممتازة (Class A ) بقيمة ١.٧٥ مليار دولار امريكي وذلك لان سوق الأوراق المالية كان منخفضاً جداً منذ منتصف ٢٠٢٢ إلي بدايات ٢٠٢٣. بالإضافة، تخلص البنك من بعض السندات الحكومية بخصم كبير من قيمته الحالية في السوق مما سبب له خسارة فادحة. انتشر خبر ان البنك لا يملك أصول كافية لتغطية طلبات العملاء وتخفيض موودي لتصنيفه عبر وسائل التواصل الاجتماعي في دقائق معدودة. لذلك تسارع وتيرة طلبات العملاء لسحب ودائعهم في يوم الخميس ٩ مارس حيث وصل إلي ٤٣ مليار دولار. في اليوم التالي تعثر البنك في الوفاء في تلبية طلبات الزبائن. تدخلت مؤسسة تامين الودائع الفدرالية (Federal Deposit Insurance Corporation) واستولت علي البنك. تقوم المؤسسة بتامين ايداعات تصل إلي ٢٥٠ الف دولار فقط، ما يزيد عن ذلك فهي ودائع غير مؤمنة و يعادل ١٥٠ مليار دولار، اي ما يقارب ٩٥٪ من الودائع لا يشملها التأمين.
انتشار الازمة وتدخل إدارة الرئيس بايدن:
انتشر انهيار البنك إلي بقية المصارف المحلية مثل بنك سيجنيتشر (Signature Bank, NYC). لتفادي خطورة الامر، تدخلت إدارة الرئيس الامريكي بايدن بشكل مباشر وسريع وحاسم. القى الرئيس بايدن خطاب في يوم الاثنين ١٣ مارس ٢٠٢٣ التزم فيه لعملاء البنك بدفع قيمة ودائعهم بالكامل، وذلك بالرغم من قانون دود-فرانك الذي يمنع ذلك، وطالب ايضاً برفع رأسمال البنوك الأخرى. وطمأن الشعب الامريكي بان قطاع المصارف الامريكية بخير ولا يعاني من أي ازمة سيولة. بالرغم من ذلك واجه بنك آخر اسمه فيرست ريبابليك (First Republic) خطر الانهيار المصرفي. هذه المرة تدخلت مجموعة من البنوك الامريكية الكبرى واودعت حوالي ٣٠ مليار دولار امريكي لدي البنك. يجدر القول هنا بان بنك فيرست ريبابليك يأتي في المرتبة رقم ١٤ في ترتيب البنوك الامريكية بينما يأتي بنك سيجنتيشر في المرتبة رقم ٢٩.
امتدت ازمة القطاع المصرفي إلي اوروبا حيث اعلن بنك كريدي سويس (Credit Suisse) الذي يعاني منذ فترة ليست بالقصيرة من خسائر مالية. وهو بنك اكبر حجماً بكثير من البنوك الامريكية التي تعاني من الازمة الحالية ومنتشر عالمياً. رفض البنك الأهلي السعودي المساهم في كريدي سويس بضخ المزيد من الأموال للبنك بحجة أنه لا يرغب في زيادة حصته لأكثر من ١٠٪. تدخل البنك المركزي السويسري واودع ما يعادل حوالي ٥٤ مليار دولار لدي البنك. يجدر الإشارة هنا ان طبيعة ازمة البنك السويسري تختلف عن طبيعة ازمة البنوك الحالية في امريكا.
النظم القانونية للمصارف ودوره في الازمة:
منذ عهود طويلة القطاع المصرفي في الأنظمة الرأسمالية مليء بالمخاطر غير المتوقعة حتى من المنظمين انفسهم. لعب انهيار القطاع المصرفي دوراً محورياً في الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. عندما حدث مرة اخرى في عام ٢٠٠٨ بصورة اكبر واشد وقعاً قرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما اصلاح القطاع المالي الذي كان مجزأةً وقديمة ويعمل في ظل قليل من الرقابة والاشراف. وقع الرئيس أوباما على قانون دود-فرانك (Dodd-Frank Wall Street Reform and Consumer Protection Act ) لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك وزيادة الرقابة والاشراف والشفافية. احدى الفقرات في قانون دود-فرانك تشير بوضوح عدم تدخل الحكومة الامريكية لسداد الودائع التي تزيد عن ٢٥٠ الف دولار.
في مايو ٢٠١٨ وقع ترامب على قانون النمو الاقتصادي والإغاثة التنظيمية وحماية المستهلك (قانون الإصلاح).
The Economic Growth, Regulatory Relief and Consumer Protection Act (the “Reform Act”)
كانت الحجة الرئيسية لإدارة الرئيس ترامب ضد إصلاحات إدارة الرئيس اوباما هي ان العديد من الاحكام الواردة في قانون دود-فرانك هي "مقاس واحد يناسب الجميع". على الرغم من عدم وجود أي دليل، جادل أولئك الذين يضغطون من أجل قانون الاصلاح بأن متطلبات رأس المال والسيولة والإجهاد للبنوك الإقليمية والمجتمعية ستكون ضارة بالاقتصاد. تنبأ عدد من الاقتصاديين في حينها بأن قانون الإصلاح سيكون بذور الأزمة المالية المقبلة. صدقت تنبأتهم لأن البنوك التي تعاني من الازمة الحالية هي بنوك محلية ومجتمعية.
في رايي ربما ايضاً يقوم إدارة بايدن بإدخال بعض التعديلات الجديدة في القوانين السارية لتنظيم عمل البنوك. هذه التعديلات سيشمل البنوك المحلية والمجتمعية بصفة خاصة ويضع قيوداً اكثر عليها.
الخلاصة:
هل هنالك عواصف مالية هائلة تتجمع في الافق وتأتي تباعاً وتدمر قطاع المصارف بنظمه الحالية في الاقتصاد الرأسمالي الذي يعاني من النمو؟ لقد تم انقاذ القطاع المالي مرتين في اقل من عقدين ٢٠٠٨ و ٢٠٢٣ في أمريكا وكذلك في أوروبا (اليونان وإيطاليا). إلي متي سيستمر هذا الدعم؟ وما أثره على الميزانية العامة والقطاعات الاخرى؟ هل يتراجع ثقة المستثمرين والمواطنين في القطاع المصرفي والسياسات الاقتصادية العامة؟ هل يتخلى المستثمرون من البنوك المحلية والمجتمعية ويهربون الي البنوك الكبيرة فقط وبالتالي يصبح قطاع المصارف اكثر تمركزاً؟ هل سيفرض بعض القيود على وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وإنستغرام؟ هل ستستمر البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة لمحاربة ارتفاع معدلات التضخم وفي نفس الوقت تستطيع التعامل مع انفجارات البنوك؟ إم يغض الطرف عن احدهما؟ ماهي الاثار الخفية الأخرى في الخروج المفاجئ للبيئة الاقتصادية من أسعار الفائدة الصفرية؟ لقد ساعد مرونة القطاع المصرفي المحلي والمجتمعي في نمو قطاع التكنولوجيا المتطورة في امريكا، مقارنة بأوروبا الاكثر تنظيماً وانضباطاً ولكن ليس لديها قطاع تكنولوجي ناشئ منافس لأمريكا. اضف إلي كل ذلك دول مثل اليابان لم تشهد اقتصادها ارتفاع في الأسعار العامة وسعر الفائدة لعقود طويلة، وبدأ الاجهاد التضخمي يطل في الأفق. ماذا ستفعل هذه الدول بعد التجربة الامريكية؟ ماهي تداعيات استمرار الحرب الروسية–الأوكرانية والصراع الاقتصادي الدائر بين امريكا والصين؟ هل ستلعب العملات المشفرة دوراً في حل مشكلة السيولة في المستقبل؟ كل هذه أسئلة تبحث عن إجابات من الصعب الإجابة عليها حالياً.
سيعلن البنك الفدرالي قراره القادم حول سعر الفائدة يوم ٢٢ مارس القادم. لا احد يعلم ماذا سيكون القرار ولكن غالبية المستثمرين يتوقعون زيادة طفيفة في سعر الفائدة (0.25٪) او تركه بدون أي تغير. لو ترك بدون تغير، هل نحن في بداية حقبة في التاريخ الاقتصادي من المحتمل أن تعرف باسم التضخم المفرط؟ هنا اشير إلي مقالي المنشور في جريدة سودانايل بتاريخ ٢١ يوليو ٢٠٢٢، تحت عنوان "زيارة الرئيس الأمريكي بايدن للشرق الأوسط وأزمة الضمير الانساني والرأسمالية".
a_bdulelah@hotmail.com
////////////////////////////
تأسس البنك في عام ١٩٨٣ لتوفير خدمات الائتمان لشركات التكنولوجيا الناشئة في سيليكون فالي في كالفورنيا ومن هنا جاء اسم البنك. حيث كان هناك فجوة كبيرة في السوق المصرفي لتمويل مثل هذه الشركات. غالباً ما ترفض البنوك الكبيرة تمويل الشركات الناشئة نسبة للخطورة العالية الكامنة في تمويلها. حيث لا تمتلك هذه الشركات أصول ثابتة او إيرادات لتغطية نفقاتها الباهظة في سنواتها الأولى لتستطيع تطوير وتحويل افكارها إلي منتجات ربحية. وهنا لعب البنك دوراً هاماً ورئيسياً لتمويل هذا النوع من الشركات. صار البنك في فترة وجيزة من اكبر البنوك في هذا المجال واحتل المرتبة رقم ١٦ في ترتيب البنوك الأمريكية من حيث قيمة الأصول التي بلغت ٢٠٩ مليار دولار في نهاية ٢٠٢٢.
أثر جائحة فيروس الكورونا على البنك:
رغم مزاولة البنك نشاطه في المجال المصرفي لحوالي ٤٠ عاماً إلا أنه خلال الفترة ٢٠١٧-٢١ نمى حجم الودائع بالبنك بوتيرة مطردة حيث زادت قيمتها من ٤٤ مليار دولار في عام ٢٠١٧ إلي ١٨٩ مليار دولار في عام ٢٠٢١ مما يعني ان حجم الودائع لديه زاد بمعدل ٣٣٠٪ في تلك الفترة وبنسبة ٦٦٪ في المتوسط السنوي. السبب الرئيسي في هذه الزيادات الكبيرة في حجم الودائع هو ضخ تريليونات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي (حوالي ٣ ترليون دولار) في بداية ظهور جائحة فيروس كورونا. لتشجيع المؤسسات المالية و خاصة البنوك التجارية للتوسع في سياسات التمويل قامت البنوك المركزية والبنك الاحتياطي الفدرالي (Federal Reserve Bank, Fed) بخفض سعر الفائدة إلي الصفر، ذلك هو السعر الذي بموجبه يمنح الفدرالي المؤسسات المالية والبنوك التجارية القروض. إلا أن المؤسسات المالية والبنوك التجارية لن تقترض اموالاً من البنوك المركزية حتي ولو كانت بدون سعر فائدة أذا لم تستطع ان تحقق ارباحاً من هذه الاموال. لذلك قامت بتسهيل شروط التمويل للشركات. استغلت الشركات الناشئة فرصة التمويل السهل وبدأت التوسع في الاقتراض. كانت هذه الشركات الناشئة تقترض من شركات راس المال المخاطر Capital Venture بشروط سهله وتستودع الأموال المقترضة في البنوك التجارية إلي حين الاستفادة منها. واحد من اكبر البنوك المستفيدة كان هو بنك سيليكون فإلي الذي لم يكن له منافس في هذا المجال. هذا هو السبب الرئيسي في زيادة الودائع في البنك خاصة في السنوات ٢٠٢٠ و ٢٠٢١. إلي هنا لا توجد أي مشكلة. المشكلة الرئيسية هي كيفية استثمار هذه الودائع.
أثر انخفاض سعر الفائدة على سوق الأوراق المالية:
عندما انخفضت أسعار الفائدة إلي الصفر، أصبحت اذون الخزانة والسندات الحكومية غير جذابة للمستثمرين من حيث الأرباح، ولا يرغبون الاحتفاظ بأموالهم في شكل سيولة. وجدوا الاستثمار الأمثل هو اسواق الأسهم المالية. أدى ذلك إلي ارتفاع اسعار اسهم بعض الشركات بصورة جنونية، في بعض الأحيان كانت ترتفع بنسبة ١٠٠٪ بل ارتفعت اسعار بعض الأسهم بنسبة ٢٠٠٪. حققت بورصة ناسداك (Nasdaq) الامريكية وهي بورصة متخصصة في شركات التكنولوجيا في المتوسط السنوي أرباح تعادل ٢٩٪ في فترة (٢٠١٧ -٢١) وهي نسبة عالية وصلت في العام ٢٠٢٠ إلي ٤٨٪ لأول مرة في تاريخ البورصة. اما بورصة أس اند بي500) (S&P الذي يضم اكبر ٥٠٠ شركة أمريكية وصل متوسط أرباحها السنوية لنفس الفترة ١٩٪ وهو ايضاً عائد غير مسبوق في تاريخ البورصة. تلك هي نفس الفترة التي ضخت فيها مليارات الدولارات المجانية في الاقتصاد الامريكي.
تدخل البنك الفدرالي:
بدأ الفدرالي الانتباه الي النمو القوي للاقتصاد الأمريكي والضغوطات الساخنة للتضخم. لذلك صرح في بداية العام ٢٠٢٢ انهم سيبدؤون في رفع سعر الفائدة. على اثر هذه التصريحات بدأت أسعار الأسهم في الانخفاض بينما قيمة اذون الخزانة والسندات الحكومية بدأت تدريجياً في الارتفاع. يجتمع الفدرالي ثمانية مرات في العام لمناقشة معدل سعر الفائدة الذي يرغب فيه. ويأخذ في الحسبان العوامل الاقتصادية المختلفة مثل معدلات التضخم، معدلات العمالة والتشغيل، سوق العقارات، معدلات الاقتراض من المؤسسات المالية وأي عوامل مستجدة تؤثر في الاقتصاد الأمريكي بصفة عامه مثل ما يحدث في قطاع المصارف الآن.
اتخذ الفدرالي اول قرار له برفع أسعار الفائدة في ١٧ مارس ٢٠٢٢، حيث قرر رفع سعر الفائدة بنقطة أساس يعادل ٢٥ أي (0.25٪) . ومنذ ذلك الوقت استمر البنك في زيادة أسعار الفائدة في كل مرة بوتيرة متصاعدة وصلت إلي نقطة أساس٧٥ (0.75٪) أربعة مرات ومرتين إلي نقطة اساس ٥٠ (0.50٪) واليوم وصل سعر الفائدة الفدرالي إلي ٤.٧٥٪.
الأثر الاقتصادي لقرارات رفع سعر الفائدة:
عندما ترتفع اسعار الفائدة ترتفع التكاليف الأساسية لرأس المال الذي يقرضه البنوك لعملائه وترتفع معه أسعار كل شيء في الاقتصاد وبالتالي ينكمش حجم المبيعات في محلات التجزئة والجملة ، وسوق العقارات الخ، لتآكل القوة الشرائية لدي المستهلك مما يؤدي إلي انخفاض معدلات التضخم. ايضاً مع ارتفاع أسعار الفائدة ترتفع قيمة السندات الحكومية طويلة الاجل الصادرة حديثاً لقلة المخاطر وارتفاع العائد بينما تنخفض قيمة السندات التي صدرت في السنوات السابقة نسبة لعائدها المنخفض. كذلك تنخفض أسعار أسهم الشركات في البورصة لأن أرباح الشركات تقل مع ارتفاع الأسعار بسرعة وارتفاع تكلفة التمويل لاستثماراتهم الجديدة. وصل سعر السندات الحكومية السائدة الآن إلي ٤٪ او اقل بقليل. يعني ذلك شراء سند حكومي اليوم ب ١٠٠ دولار يعطي عائد سنوي ٤ دولار بينما نفس السند الحكومي للأعوام ٢٠٢٠ و ٢٠٢١ يدر واحد دولار فقط كعائد سنوي. ولذلك بدأ الآن كل اسرار الاستثمارات في القطاع المصرفي تتعرى، من هو الأكثر عرضة للخطورة، من هو الأكثر تحوطاً، من هو المغامر ومن هو صاحب القرارات الخاطئة، ومن هو الذي كان يسبح عارياً.
هنالك مقولة مشهورة للملياردير الأمريكي الشهير وارن بافيت (Warren Buffet)، اكبر المستثمرين في سوق الأوراق المالية يقول "فقط عندما ينحسر المد سنرى من كان يسبح عارياً"
(It's only when the tide goes out that you learn who has been swimming naked).
الآن وضح جلياً ان بنك سيليكون فالي كان يسبح عارياً، وضح ذلك من طريقة استثماره للودائع الضخمة في سندات طويلة الاجل (٥ إلي ١٠ سنوات) بعائد سنوي لا يتجاوز ١.٥٪ ، ويمثل اكثر من ٥٠٪ من محفظة البنك الاستثمارية. تعتبر هذه النسبة نسبة عالية مقارنة باستثمارات البنوك الأخرى في هذه السندات التي غالباً لا تفوق نسبة ٢٥٪. عندما ارتفع عائد السندات الحكومية طويلة الاجل إلي ٤٪ لم يكن في مقدور البنك فعل اي شيء تجاه هذا الاستثمار غير الموفق سوى الانتظار لنهاية المدة او بيعها بأسعار منخفضة. هنا تدخلت شركة موودي (Moody’s) وهي شركة تصنيف أمريكية لتقيم سندات واسهم الشركات العامة والمصارف. عندما اكتشفت موودي خطورة استثمارات البنك قررت ان تخفض تصنيف درجة الامان لاستثمارات البنك. طلب البنك من شركة موودي مهلة للتخلص من بعض السندات الحكومية وعمل طرح ثانوي في سوق الأوراق المالية لزيادة رأسمال البنك. فشل البنك في طرح نوعين من الأسهم، اسهم عادية (Class B) واسهم ممتازة (Class A ) بقيمة ١.٧٥ مليار دولار امريكي وذلك لان سوق الأوراق المالية كان منخفضاً جداً منذ منتصف ٢٠٢٢ إلي بدايات ٢٠٢٣. بالإضافة، تخلص البنك من بعض السندات الحكومية بخصم كبير من قيمته الحالية في السوق مما سبب له خسارة فادحة. انتشر خبر ان البنك لا يملك أصول كافية لتغطية طلبات العملاء وتخفيض موودي لتصنيفه عبر وسائل التواصل الاجتماعي في دقائق معدودة. لذلك تسارع وتيرة طلبات العملاء لسحب ودائعهم في يوم الخميس ٩ مارس حيث وصل إلي ٤٣ مليار دولار. في اليوم التالي تعثر البنك في الوفاء في تلبية طلبات الزبائن. تدخلت مؤسسة تامين الودائع الفدرالية (Federal Deposit Insurance Corporation) واستولت علي البنك. تقوم المؤسسة بتامين ايداعات تصل إلي ٢٥٠ الف دولار فقط، ما يزيد عن ذلك فهي ودائع غير مؤمنة و يعادل ١٥٠ مليار دولار، اي ما يقارب ٩٥٪ من الودائع لا يشملها التأمين.
انتشار الازمة وتدخل إدارة الرئيس بايدن:
انتشر انهيار البنك إلي بقية المصارف المحلية مثل بنك سيجنيتشر (Signature Bank, NYC). لتفادي خطورة الامر، تدخلت إدارة الرئيس الامريكي بايدن بشكل مباشر وسريع وحاسم. القى الرئيس بايدن خطاب في يوم الاثنين ١٣ مارس ٢٠٢٣ التزم فيه لعملاء البنك بدفع قيمة ودائعهم بالكامل، وذلك بالرغم من قانون دود-فرانك الذي يمنع ذلك، وطالب ايضاً برفع رأسمال البنوك الأخرى. وطمأن الشعب الامريكي بان قطاع المصارف الامريكية بخير ولا يعاني من أي ازمة سيولة. بالرغم من ذلك واجه بنك آخر اسمه فيرست ريبابليك (First Republic) خطر الانهيار المصرفي. هذه المرة تدخلت مجموعة من البنوك الامريكية الكبرى واودعت حوالي ٣٠ مليار دولار امريكي لدي البنك. يجدر القول هنا بان بنك فيرست ريبابليك يأتي في المرتبة رقم ١٤ في ترتيب البنوك الامريكية بينما يأتي بنك سيجنتيشر في المرتبة رقم ٢٩.
امتدت ازمة القطاع المصرفي إلي اوروبا حيث اعلن بنك كريدي سويس (Credit Suisse) الذي يعاني منذ فترة ليست بالقصيرة من خسائر مالية. وهو بنك اكبر حجماً بكثير من البنوك الامريكية التي تعاني من الازمة الحالية ومنتشر عالمياً. رفض البنك الأهلي السعودي المساهم في كريدي سويس بضخ المزيد من الأموال للبنك بحجة أنه لا يرغب في زيادة حصته لأكثر من ١٠٪. تدخل البنك المركزي السويسري واودع ما يعادل حوالي ٥٤ مليار دولار لدي البنك. يجدر الإشارة هنا ان طبيعة ازمة البنك السويسري تختلف عن طبيعة ازمة البنوك الحالية في امريكا.
النظم القانونية للمصارف ودوره في الازمة:
منذ عهود طويلة القطاع المصرفي في الأنظمة الرأسمالية مليء بالمخاطر غير المتوقعة حتى من المنظمين انفسهم. لعب انهيار القطاع المصرفي دوراً محورياً في الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. عندما حدث مرة اخرى في عام ٢٠٠٨ بصورة اكبر واشد وقعاً قرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما اصلاح القطاع المالي الذي كان مجزأةً وقديمة ويعمل في ظل قليل من الرقابة والاشراف. وقع الرئيس أوباما على قانون دود-فرانك (Dodd-Frank Wall Street Reform and Consumer Protection Act ) لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك وزيادة الرقابة والاشراف والشفافية. احدى الفقرات في قانون دود-فرانك تشير بوضوح عدم تدخل الحكومة الامريكية لسداد الودائع التي تزيد عن ٢٥٠ الف دولار.
في مايو ٢٠١٨ وقع ترامب على قانون النمو الاقتصادي والإغاثة التنظيمية وحماية المستهلك (قانون الإصلاح).
The Economic Growth, Regulatory Relief and Consumer Protection Act (the “Reform Act”)
كانت الحجة الرئيسية لإدارة الرئيس ترامب ضد إصلاحات إدارة الرئيس اوباما هي ان العديد من الاحكام الواردة في قانون دود-فرانك هي "مقاس واحد يناسب الجميع". على الرغم من عدم وجود أي دليل، جادل أولئك الذين يضغطون من أجل قانون الاصلاح بأن متطلبات رأس المال والسيولة والإجهاد للبنوك الإقليمية والمجتمعية ستكون ضارة بالاقتصاد. تنبأ عدد من الاقتصاديين في حينها بأن قانون الإصلاح سيكون بذور الأزمة المالية المقبلة. صدقت تنبأتهم لأن البنوك التي تعاني من الازمة الحالية هي بنوك محلية ومجتمعية.
في رايي ربما ايضاً يقوم إدارة بايدن بإدخال بعض التعديلات الجديدة في القوانين السارية لتنظيم عمل البنوك. هذه التعديلات سيشمل البنوك المحلية والمجتمعية بصفة خاصة ويضع قيوداً اكثر عليها.
الخلاصة:
هل هنالك عواصف مالية هائلة تتجمع في الافق وتأتي تباعاً وتدمر قطاع المصارف بنظمه الحالية في الاقتصاد الرأسمالي الذي يعاني من النمو؟ لقد تم انقاذ القطاع المالي مرتين في اقل من عقدين ٢٠٠٨ و ٢٠٢٣ في أمريكا وكذلك في أوروبا (اليونان وإيطاليا). إلي متي سيستمر هذا الدعم؟ وما أثره على الميزانية العامة والقطاعات الاخرى؟ هل يتراجع ثقة المستثمرين والمواطنين في القطاع المصرفي والسياسات الاقتصادية العامة؟ هل يتخلى المستثمرون من البنوك المحلية والمجتمعية ويهربون الي البنوك الكبيرة فقط وبالتالي يصبح قطاع المصارف اكثر تمركزاً؟ هل سيفرض بعض القيود على وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وإنستغرام؟ هل ستستمر البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة لمحاربة ارتفاع معدلات التضخم وفي نفس الوقت تستطيع التعامل مع انفجارات البنوك؟ إم يغض الطرف عن احدهما؟ ماهي الاثار الخفية الأخرى في الخروج المفاجئ للبيئة الاقتصادية من أسعار الفائدة الصفرية؟ لقد ساعد مرونة القطاع المصرفي المحلي والمجتمعي في نمو قطاع التكنولوجيا المتطورة في امريكا، مقارنة بأوروبا الاكثر تنظيماً وانضباطاً ولكن ليس لديها قطاع تكنولوجي ناشئ منافس لأمريكا. اضف إلي كل ذلك دول مثل اليابان لم تشهد اقتصادها ارتفاع في الأسعار العامة وسعر الفائدة لعقود طويلة، وبدأ الاجهاد التضخمي يطل في الأفق. ماذا ستفعل هذه الدول بعد التجربة الامريكية؟ ماهي تداعيات استمرار الحرب الروسية–الأوكرانية والصراع الاقتصادي الدائر بين امريكا والصين؟ هل ستلعب العملات المشفرة دوراً في حل مشكلة السيولة في المستقبل؟ كل هذه أسئلة تبحث عن إجابات من الصعب الإجابة عليها حالياً.
سيعلن البنك الفدرالي قراره القادم حول سعر الفائدة يوم ٢٢ مارس القادم. لا احد يعلم ماذا سيكون القرار ولكن غالبية المستثمرين يتوقعون زيادة طفيفة في سعر الفائدة (0.25٪) او تركه بدون أي تغير. لو ترك بدون تغير، هل نحن في بداية حقبة في التاريخ الاقتصادي من المحتمل أن تعرف باسم التضخم المفرط؟ هنا اشير إلي مقالي المنشور في جريدة سودانايل بتاريخ ٢١ يوليو ٢٠٢٢، تحت عنوان "زيارة الرئيس الأمريكي بايدن للشرق الأوسط وأزمة الضمير الانساني والرأسمالية".
a_bdulelah@hotmail.com
////////////////////////////