استطرادات على قصائد كردفانية
رئيس التحرير: طارق الجزولي
11 June, 2014
11 June, 2014
ثلاث فصائد لثلاثة شعراء معاصرين موضوعها التشوق لكردفان وأهلها مع التغزل في جمال طبيعتها والتغني بمآثر حياتها البسيطة الجميلة. وكانت القصيدة الاولى (من حيث تاريخ النشر) هي قصيدة كاتب هذه
السطور ومطلعها:
ولما دنا وادي الابيض دلنا عليه النسيم العذب والنفس العطري
أعقبتها قصيدة الشاعر ابراهيم الدلال وعنوانها "تحية كردفان" * ومطلعها
بروق من الياقوت في غرة الفجر تُضيءُ حَبيَّاً من شمارخها الخُضرِ
وبعد ممانعة من السفير خالد فرح والحاح من جانبنا تفضل مشكورا ودخل هذه المطارحة الشعرية
بقصيدته** التي اولها:
تلألأَ برقٌ بالأبيِّض موهناً فهيّج شوقاً للجحاجحة الغُرِّ
وواضح من سياق قصيدتي الدلال وخالد انهما من جديدهما الشعري مما كتبا خلال شهر أيار ا لماضي او مطالع حزيران هذا الذي يظلنا.اما قصيدتي فهي قديمة جدا فقد كتبتها قريبا من عام 1988في أعقاب رحلة بالسيارة الى تلك الربوع النواضر بصحبة صديقي الابن الحبيب ابراهيم المكي وكنت في تلك الايام في أنس متصل بالفنان والمثقف الرائع عبد الكريم الكابلي واذكر انني اطلعته على بعض ابياتها قبل تنقيحها الاخير
• ثلاثتنا من أبناء الاقليم الكردفاني ومحبيه وقد بدأنا بقصائدنا هذه نوعا من الهجرة العكسية ففي حين يتقاطر الناس على الخرطوم من مختلف أنحاء البلد قمنا ثلاثتنا بهجرة شعورية من الخرطوم الى السهوب الكردفانية بل كانت هجرة الدكتور خالد من الضفة اليسرى لنهر السين الباريسي الرشيق وهجرتي شخصيا من شواطيء المحيط الهادي الكاليفورنية أما الشاعر ابراهيم الدلال فظني (غير الاكيد) انه في منزلة بين المنزلتين بين الخرطوم وكردفان وقرينتي على ذلك اشتراكه والدكتور خالد فرح في العنوان البريدي وفي ذلك دليل على اتصال يومي ميسر علما بأن خالدا قد عاد الى الخرطوم إثر انتهاء سفارته الناجحة لدي الجمهورية الفرنسية وانني بصدد التوجه الى الوطن بعد إقامة سعيدة في الديار الامريكية التي لا يشبع منها القلب ولكن نداء الوطن أقوى من نداء السعادة الشخصية ولا بد للمغترب ان يعود الى ارض النشأة الاولى ليشارك اهله في القدر المقدر من الملاريا والتيفوئيد. ويشهد علام الغيوب أننا ما هجرناها عن قلى او مقت وانما عن قهر واضطرار. وقديما قال الشاعر:
وحبب أوطان الرجال اليهمو مآرب قضاها الرجال هنالكا
الا ان كل المآرب فاتتنا في بلد الاميال المليون المربعة فطبنا نفسا بالهجرة القاصية والاغتراب.اما الآن فان قدح الحنين قد امتلأ وفاض وآن اوان العود الى مراتع الطفولة عملا بحكمة نفس القائل:
اذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فلا غرو والحال كذلك ان يعود كل الى مرتع صباه (اللهم الا اذا كان من مواليد الخرطوم أو امدرمان وهما أوإحداهما مرتع صباه الذي لا محيص عنه ولا منتأى)
• كتبنا ثلاثتنا عن كردفان طفولتنا وصبانا- كردفان التي في الذاكرة وفي الخاطر. وقد تجاهلنا ثلاثتنا ما شهد الاقليم من الاحداث المؤذية وعلى رأسها المجاعة التي حلت بنا عام 1984 كما عبرنا فوق عقد كامل من الجفاف والتصحر وشح الطبيعة بالمطر واختلاف مواعيده ومقاديره .ولا ينبغي ان يؤخذ ذلك كإنكار للحقائق الميدانية فمن طبيعة الذاكرة ان تهرع الى الذكريات الحسان وان تقدمها على ما سواها من ذكريات الألم والعذاب.وفي كل الأحوال لابد من السعي الموحد لاستدراك ما لحق بالبلاد من أذى وويلات وعلى رأس تلك المساعي توافر المياه من مختلف المصادر وأهمها هذا الانبوب المائي الذي من شأنه ان يزود الاقليم بجزء يسير من نصيب السودان في مياه النيل وهو ذلك النصيب الذي ظل يذهب الى شمال الوادي على سبيل سلفة قهرية لعجزنا من استغلاله في ما يروي ظمأ الزرع والضرع والانسان وما يعود بالخير على مجمل الوطن وليس على كردفان وحدها.
• في عصر العنصرية والقبلية الذي نعيشه الان صار يتبادر لبعض الاذهان ان السودان مركب من كتل صماء تتجاور ولا تتفاعل مع بعضها البعض ورسخ في مخيلتهم ان ما ينفع كردفان لاينفع الجزيرة او البحر الاحمر على سبيل المثال وانما يتم على حسابهما.وذلك وهم مردود فهنالك تداخل وتعايش بين ما يتخيلونه كتلا صماء..هنالك في كردفان اعداد تقدر بمئات الالوف من ابناء وبنات الشرق والوسط والشمال ممن استقروا استقرارا كاملا بالاقليم وربطوا مصيرهم بمصيره منذ عدة أجيال وبالمثل هنالك مئات الالوف من اهل الغرب تقطن ولايات الوسط والشمال وتستفيد من الموارد المتاحة لتلك الاقاليم ليس على سبيل المنحة او الاكرامية وانما على سبيل حق المواطىة وفي ذلك ليست لاحد منة في عنق أحد إذ أننا يوم قبلنا بقيام الدولة السودانية وضعنا بين يديها كل ما نملك من ارض وانسان ومقومات ليكون ذلك رصيدا مشتركا للجميع. وقد عشنا الى ماض قريب على قطن الجزيرة ثم على بترول كردفان وذهب الشمالية وماشية دارفور دون ان يستأثر أحدنا بكل الخير او يحجره على الاخرين. وليكونن ذلك شأننا الى ان تذهب العنصرية والعنصريون وتصفو لنا قصعة الاخاء.
• تجلت تلك المعاني العظيمة في غضون هذا التثاقف الاخوي بين الشعراء الثلاثة فقد لفت نظرنا الشاعر ابراهيم الدلال الى دليل المحسي وهو الرجل /المكان الذي سنرقد في احضانه متى استرد صاحب الوديعة وديعته وقد ابرز الدلال في حواشيه العارفة انه من اصل محسي وانه نظير ابن مقلة في جمال الخط وانه خط للامام المهدي مصحفا بالغ الجمال.فهذا النوبي المحتد يتملك قدرا من تاريخ كردفان ومساحة كبرى لمراقد عظمائها. وفي هوامش الدكتور خالد فرح اشارات الى الاصول العباسية لبعض قبائل كردفان. ومع ذلك فان لكردفان علاقاتها الخاصة بمحيطها البشري فهي موئل النوبا والكاجا والميدوب وهم في الاصل قبائل نوبية هجرت موطنها النيلي في اعقاب الغزو الاثيوبي لمملكة ميروي التاريخية واستوطنت الاماكن النائية او المناطق الجبلية الحصينة. ولكردفان ايضا علاقاتها التاريخية بدارفور حيث كانت ولاية تابعة لدارفور في معطم حقبها التاريخية ولها امتداداتها الجنوبية حيث حدودها الطبيعية على نهر العرب كفاصل مائي بين ما هو شمال وما هو جنوب. ومن العسير جدا تجريد الاقليم من تلك العلاقات والامتدادات كما ورد في عبارة "مثلث حمدي" التي اطلقها الصحفي النابه طه النعمان في حوار صحفي مع ذلك الوزير.ويتعين على كل من يريد كردفان داخل المثلث المذكور ان يريد معها دارفور و كامل المجال الحيوي لقبيلة البقارة من جهة الجنوب مع احترام الخصوصية التاريخية لنوبة الجبال.واذا سمح لدارفور ان تذهب فسيكون على كردفان ان تذهب معها إذ لاحياة لواحدة منهما دون الأخرى بسبب التداخل البشري والاقتصادي بين الاثنتين..
• ينبغي أن يكون مستقبل كردفان موضع دراسة جادة تخلص الى نتائج يتبناها الجميع كبرنامج قومي لكل حكوماتها الحالية والقادمة على ان تكون تلك المشاريع مسطرة القياس في نجاج تلك الحكومات اوفشلها. الا ان لذلك موضعا غير هذا الموضع ورجالا غير هؤلاء الرجال وفي الختام اود أن اعرب للشاعرين عن عظيم تقديري واعجابي بما نفثا من سحر وما ألقيا من حبال تلقفت وابتلعت في جوفهاعصاي المتواضعة .