استعادة الديمقراطية.. ودولة الثقب الأسود (2-2)

 


 

 


 khogali17@yahoo.com
استعادة الديمقراطية بكافة الوسائل (الحوار/ الانتفاضة/ التسوية) تحتاج لصفوف جماهير متراصة ولأحزاب قوية وديمقراطية لإحداث التغيير, وكل ذلك يمكن تحقيقه وفي وقت وجيز بشرط مراعاة المتغيرات والظروف الجديدة على كافة المستويات.
وهناك أسباب موضوعية تسببت في إضعاف الأحزاب لا يكفي الإقرار بها بل العمل الجاد على تجاوزها. فسنوات حظر الأحزاب السودانية فاقت الثلاثين عاماً, والأحزاب المطاردة سرية النشاط لا تجد مجالاً للعمل الجماهيري المفتوح وتجعل كل همها المحافظة على بقائها.
وأبرز نتائج الحظر ضعف الديمقراطية الداخلية وسيادة المركزية وهذا الأثر له علاقة بإنحسار عضوية الأحزاب وفتح الأبواب أمام الأخطاء في العمل القيادي, وان أكثر ما يساعد أحزاب وأجهزة النظم الشمولية في اختراق الأحزاب هو الحظر أو عرقلة نشاطها الجماهيري.
وحالة الطواريء التي تعيش عليها النظم العسكرية والشمولية القابضة تؤثر أيضاً على النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني بما يتطلب تجديد سياستها لاستفادة الديمقراطية فيها وللأحزاب السياسي دورها الذي يجب أن يكون واضحاً. فسنوات حالة الطواريء كما سنوات الحكم العسكري والشمولي تطاولت كثيراً.
نظام حكم جديد
أفلحت الجماهير في معظم الدول غير الديمقراطية وبالذات في المنطقتين العربية والافريقية في إنهاء حقبة الحزب الواحد الحاكم وبطرق مختلفة. ونلاحظ انه بالتجربة السودانية اختلفت الطرق بحسب طبيعة النظام الحاكم. ففي حقبة الحكم العسكري الأول 1958-1964م كان الاضراب السياسي والعصيان المدني أداة إسقاط النظام الديكتاتوري عبر ثورة ديمقراطية كان فيها الدور الرئيسي للعاملين والجماهير الحديثة في المدن الرئيسية. وفي نظام حكم مركزي سلطته في الخرطوم.
وفي تجربة إسقاط النظام المايوي (الحزب الحاكم الواحد) كانت الأداة الرئيسية للجماهير العريضة في أحياء المدن بالعصيان المدني. وفي نظام حكم مركزي سلطته في الخرطوم ونظام شمولي ارتبط بالرأسمالية الدولية والصهيونية وما حدث في 1985م هو ثورة ديمقراطية وفي التجربه السودانية بعد اتفاقية نيفاشا 2005م واتفاقية المصالحة الوطنية 2006م تم إنهاء حكم الحزب الواحد ولكن هذه المرة بأداة (الاتفاق) وتدخل المجتمعين الاقليمي والدولي خلافاً لتجربتي 1964م و1985م.
ومعظم النخب الحاكمة في الدول غير الديمقراطية, توصلت بنفسها الى انه لابد من ضرورة (التغيير السياسي) لاستمرار بقائها أو استمرارها في الحكم. واختارت طريقاً هجيناً يتحول عن طريقة الحزب الحاكم (الواحد) الى حزب (مهيمن) في ظل تعددية حزبية ولا يستكمل فيه التحول الديمقراطي. وعلى ذلك تستمر بأشكال جديدة للمباديء الايديولوجية التي كان يستند عليها الحزب ويمارس كل سلطاته القديمة (ديمقراطياً) أو بالأغلبية.
ودولة النظام الهجين: هي دولة الثقب الأسود لا مكان فيها لدولة القانون بل انها تعتمد على القوانين التي تصادر الحقوق والحريات الأساسية التي يتضمنها الدستور (الدستور الديمقراطي من مقومات النظام الهجين) واللوائح التي تتعارض مع القوانين.. هدف الحزب المهيمن غياب الحياة الديمقراطية والرقابة الشعبية.. لأطول وقت (في السودان لا تزال في العام 2016م نتحدث عن تعديل القوانين لتتواءم مع الدستور المؤقت 2005م وهي أكثر من ستين قانون كما أفادت وزارة العدل).
ان طبيعة النظام القائم في السودان تختلف عن طبيعة النظم السابقة سواء من حيث نمط الحكم وحتى اللا مركزية.. واستعادة الديمقراطية تتطلب جهوداً ضخمة وتغييرات متلاحقة في التكتيكات الفرعية وتقوية الأحزاب بالديمقراطية الداخلية وردم الهوة بينها والجماهير والانتباه للقضايا الجديدة.
الأوضاع الاقتصادية
ثورة 1964م عواملها الرئيسية: مصادرة الديمقراطية والفساد, والتسليم للأجنبي وثورة 1985م من عواملها الرئيسية: مصادرة الديمقراطية والدفاع عن السيادة الوطنية أما استفادة الديمقراطية اليوم فإنها الى جانب العوامل المشتركة أفرزت الأوضاع الاقتصادية كمسألة لا يمكن تجاوزها.
فالاصلاح الاقتصادي ظل في حدود:
1-خصخصة القطاع العام والتنفيذ الحرفي لتوصيات وبرامج التصحيح الهيكلي للمؤسسات المالية الدولية.
2-تتحول المؤسسات العامة الى شركات حكومية أو شركات لأجهزة الدولة أو الرأسمالية الطفيلية الجديدة التي تنقل ارباحها أو حتى أموال البلد خارج السودان.
3-رفع الدولة يدها عن خدمات التعليم والصحة بحجة الفعالية والمنافسة.
والنتائج: تدمير القطاعين الصناعي والزراعي, وارتفاع معدلات البطالة, واستشراء حدة الفقر وقيام طبقة جديدة محدودة يؤول اليها كل شيء.
وان النزوع نحو القبيلة سببه المباشر الفصل بين إعادة الهيكلة الاقتصادية والسياسية وقسمة السلطة لممثلي قبائل فرضوا تمثيلهم وغيرهم. والاصلاحات الاقتصادية والسياسية والقسمة تزيد أعداد فئات المستفيدين من نظام الحكم القائم, ولكنهم يظلون فئة محدودة وأقلية بالنسبة لغالبية أفراد الشعب الذي يحلم بالتنمية بابعادها المختلفة (المستوى المعيشي, دولة القانون, الحريات, الكرامة الانسانية) وغير ذلك.
ونظام الحزب الواحد (الحاكم) أو (المهيمن) لا يقبل المعارضة المنظمة ويهيمن على المجتمع والتطورات الاقتصادية العالمية في نهاية القرن العشرين أدت الى بروز نمط جديد من الأنظمة الشمولية أو الهجين لا تقبل أي سياسة اقتصادية بديلة, بل تعمل على اخضاع الحقوق الاجتماعية للمواطن الى منطق واحد هو المنافسة مع التخلي عن ادارة مجموع نشاطات المجتمع الى آلية الأسواق المالية.
وكتب هربيرت ماركوز:
النظام الشمولي لا ينتج فقط عن شكل معين من الحكم بل أيضاً عن نظام خاص من الانتاج والتوزيع متوافق جداً مع تعددية حزبية.
وكتب (انياسو راموني).
ان اقتصاد السوق أصبح شكلاً من أشكال العقيدة التي تحجب على المواطن الحر أي تفكير متنوع.. والإطار الفكري الآحادي الجديد مختزل في مجموعة مصطلحات.. الخصخصة, المنافسة, الانتاجية, السوق, حرية التبادل, تخفيض عجز الميزانية وهو في الحقيقة الترجمة الايديولوجية على المستوى الدولي لمصالح مجموعة محددة من القوى الاقتصادية ولا سيما مصالح الرأسمال الدولي.
وتقارير المنظمات الدولية ومؤتمراتها وأنشطتها توصلت الى ضرورة توافر عناصر تشكل البنية الأساسية لأي ديمقراطية في عالم اليوم وأبرزها:
1-مكافحة الفساد وتبني اجراءات للشفافية والمساءلة واحترام الحقوق الأساسية للمواطنين.
أنظر: خلو حوار الوثبة أو مفاوضات التسوية الشاملة من هذا العنصر)
2-حرية واستقلال الصحافة وحرية المعلومات.
3-بناء المؤسسات: البرلمانات/ الأحزاب/ القضاء.
4-نهضة التعليم والثقافة.
5-مشاركة سياسية تتيح الفرص المتكافئة أمام الأحزاب والتيارات والجماعات والأفراد وفق حق الاختلاف.
6-فاعلية المجتمع المدني وقوة واستقلال جماعاته المختلفة.
مأزق السلام قبل الديمقراطية
مبدأ المجتمع الدولي الثابت هو تقديم السلام على الديمقراطية في الدول غير الديمقراطية وبها حروب أو نزاعات مسلحة, ولأن أطراف الحرب أو النزاعات معلومة فإن الاتفاق يكون بين الطرفين بما يعني المحافظة على سلطة الحكم القائم لانفاذ الاتفاق. وهكذا كان الحال بعد اتفاق سلام نيفاشا 2005م وكما هو متوقع من خلال اجراءات التسوية السياسية الشاملة 2016م فالأولوية عند المجتمع الدولي هو وقف الحرب والمعونات الانسانية قبل (استعادة الديمقراطية).
واتفاقية المصالحة الوطنية بين التجمع الوطني الديمقراطي (المعارض) والحكومة (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) في 2006م اهتمت شكلاً بالتحول الديمقراطي وفي واقع الممارسة فان الحكومة تهربت من انفاذها وتباطأت حتى نهاية الفترة الانتقالية. ولم يكسب التجمع المعارض شيئاً بخلاف دخول ممثليه في المجالس التشريعية والتنفيذية ويلزم هنا التوقف أمام أمرين:
الأول: ان هذه التجربة التي اطلقت عليها المعارضة الرسمية (التفكيك عن طريق التفاوض) هي جديدة بالنسبة للحركة الجماهيرية السودانية.
الثاني: ان اتفاق المصالحة الوطنية كان فوقياً بين النخب وخارج السودان وغابت الحركة الجماهيرية مرتين: عند التفاوض وبعد المصالحة فلم نشهد الجماهير تضغط لانفاذ الاتفاقية بما في ذلك قضية المفصولين تعسفياً عن الخدمة. خاصة بعد أن ذهب القول بجعل الاتفاقية جزءاً من الدستور مع رياح المشاركة في السلطة. ولذلك فان شعار استفادة الديمقراطية بالحوار أو بغيره تحيط به التعقيدات من كل جانب. ومن التعقيدات التدخلات الفظة للمجتمع الدولي. وعلى الرغم من ان الجماهير ترى بعينيها تنافس الدول الرأسمالية والصناعية الكبرى على موارد البلاد إلا ان أياً من الأحزاب السياسية لم يرفع عالياً شعار الدفاع عن السيادة الوطنية بما يشير الى اندماج مصالح تلك الدول مع مصالح تيارات في الأحزاب المختلفة هذا بالاضافة الى ان معظم القيادات في الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة من مزدوجي الجنسية ومزدوجي الولاء. والأحزاب المعارضة لم تتخلف أبداً عن دعوات الوساطة الدولية الكثيرة رغم اعلانها المتكرر عن الأزمة الوطنية الشاملة بما في ذلك الحزب المهيمن الذي أقر بسياسات التمكين وفشل الخصخصة وإعادة الهيكلة حتى اعلان  حوار الوثبة.
ومن التعقيدات الانتقائية في تكوين الجبهات الحزبية فيما يطلق عليه مراكز المعارضة ومحاولة كل مركز أن يكون وحده ممثل المعارضة الرسمية وممثل الشعب فاشتعلت الحرب بين المراكز المعارضة بما اضعفها كلها. وهي في تنازعها لقيادة حركة الجماهير تناست تماماً الموقف من الأحزاب الاتحادية المشاركة وأخص بالذكر الحزب الاتحادي الأصل والختمية. بل ان مراكز المعارضة الرسمية عملت على اضعافه باعلان قيادات حزبية معارضة ان جماهير الحزب الاتحادي ضد المشاركة في السلطة وبمعنى آخر فان قيادة الحزب الاتحادي الأصل والختمية لا جماهير لهم..
ولم تقف عند هذا الحد, بل ضمت المراكز المعارضة بداخلها ممثلين لتيارات من الحزب الاتحادي مختلفة مع قيادته وكان من أهداف مراكز المعارضة الرسمية اضعاف الأحزاب الأخرى ومحو الحزب الاتحادي الأصل من الخريطة السياسية. وشراكة الحزب الاتحادي الأصل لا تعني بأي حال شطبه والحكم افتراضاً بانعدام أثره. ولا يزال أمام تلك المراكز مهمة إعادة النظر في العلاقات مع الاتحادي الأصل فالمعارضة المسلحة معظم قياداتها كانت جزءاً من النظام وفي أرفع مواقعه ومناصبه الكبرى.
استحالة التحول الديمقراطي بأداة المجتمع الدولي
التجربة الثالثة لاستعادة الديمقراطية استندت على الدعم الاقليمي والدولي (اتفاقية المصالحة الوطنية 2006) خلافاً لتجربتي 1964 و1985م ويبدو اننا أمام التجربة الرابعة للتحول الديمقراطي (!) في صورة مماثلة لما حدث في 2006م أي بحث امكانيات التحول الديمقراطي بالحوار والتسوية السياسية الشاملة. وغياب الجماهير أصحاب المصلحة في النضال لاستعادة الديمقراطية يعني تكرار التجربة وقيام حكومة وفاق وطني واجراء انتخابات عامة معلومة النتائج سلفاً.
وجولة المفاوضات الأخيرة في أديس أبابا أكدت عزلة الاحزاب الحاكمة والمعارضة عن الجماهير, التي ظلت تتابع تلك المفاوضات دون ان تشارك فيها بالدعم المباشر والواضح لهذا الموقف أو ذاك. لكن يجب ان نقر بأن الحركة الشعبية شمال قد اتخذت موقفين لتحسين صورة التفاوض وكذلك حكومة الحزب المهيمن.
فالمعلوم ان أول خطوة لمشاركة الجماهير في العملية التفاوضية هو اخراج التفاوض من الغرف المغلقة. وذلك يعني وجود (آلية) متفق عليها بين الأطراف والوساطة توكل لها مثل هذه المهمة. بالقيام بشرح أجندة التفاوض ومواقف الأطراف منها, والمتفق عليه والمختلف عليه ودواعي كل طرف وما بذلته الوساطة والاقتراحات التي تقدمت بها وموقف الأطراف منها الى الجماهير. وهذه المهمة لن يستطيع الناطق الاعلامي لهذا الفريق أو ذاك بأدائها لفقدانه استقلالية الطرح..
ومن جهة ثانية دفعت الحركة الشعبية بمؤيدين لها ليكونوا بالقرب من ساحة التفاوض (ساحة المعركة) وحرضت أحزاب سياسية بالداخل للمشاركة.. وقام الاتحاد الافريقي بدعوة أحزاب للحضور كمراقبين. والحزب المهيمن قام أيضاً بخطوة مماثلة في حضور قيادات من جنوب كردفان الى ساحة التفاوض وغيرهم كما قام بتوظيف الاعلام وبالذات القنوات الفضائية.
ان النتيجة الرئيسية لجولة المفاوضات الأخيرة وما صاحبها من حشد للأحزاب والمراقبين وغير ذلك: ان طريق الحوار والتسوية الشاملة هو الطريق الوحيد وهذا أكبر نجاح حققه المتفاوضون والوساطة.
ان مصلحة الحكومة والحزب المهيمن في وقف الحرب واستمراره في السلطة كطرف أصيل في اتفاق السلام القادم ولا مصلحة له في التحول الديمقراطي أو استفادة الديمقراطية وهذا لا يحول دون إعادته النظر في سياساته التي تضمن له حلفاء جدد وتمنحه أطول وقت في الحكم. بل ان الدعوة لاصلاح الدولة واصلاح الحزب والاصلاح الاقتصادي أصبحت من الأمور غير المختلف عليها وكل من يدعون للاصلاح في جانب الحكومة توصلوا الى ضرورة التغيير السياسي والجو السياسي.
ومن جهة أحزاب المعارضة فقد تأكد للمعارضة (الديمقراطية) انه من المستحيل الإسراع بتحول ديمقراطي برضا الحكومة والنظام الشمولي أو الهجين ويلزم إجبار الحزب المهيمن التخلي عن هيمنته. وكل الدلالات تشير انه من غير الممكن ان تظل الساحة السياسية بصورتها الراهنة لوقت طويل. ومع استحكام الأزمة فإن احتمالات التغيير قبل نهاية هذا العام من الأمور المرجحة. بصرف النظر عن الحلول التي يتم التوصل اليها جماعياً أو جزئياً.
واذا سارت المسائل في طريق التسوية الشاملة وتحققت فإن العلاقات السياسية بين الأحزاب سيطالها تغيير كبير ومؤثر حيث يتم إعادة رسم خريطة التحالفات وستكون الأحزاب التي تدعو الى الحوار المشروط أو اسقاط النظام بالاضراب السياسي والعصيان المدني في موقف صعب وأمام خيارين:
× تعديل موقفها وقبول حلول المجتمع الدولي وهذا يفقدها الكثير أمام عضويتها والجماهير المؤيدة لها, ويدخل السودان بذلك في طور جديد.
× ان تظل على موقفها وهذا يفقدها الحلفاء المنضمين للتسوية وفي ظل المنافسة الحزبية التي ستكون من نوع جديد فيما بعد التسوية, فان مصائرها تظل غامضة.
المراجع:
1-اسماعيل صبري عبدالله (دراسة) الديمقراطية داخل الأحزاب الوطنية وفيما بينها.
2-علي خليفة الكواري (دراسة) ملاحظات أولية حول مفهوم الحزب الديمقراطي.
3- عبدالغفار رشاد محمد (بحث) رؤية المؤسسات الدولية للديمقراطية والاصلاح السياسي.
4- جوزيف س فاي – كتاب القوة الناعمة.
5- جون دن – كتاب قصة الديمقراطية.
6- رفعت السعيد – الديمقراطية والتعددية.

 

آراء