استعراض لكتاب هنري س. جاكسون: “ما وراء السودان الحديث”

 


 

 

استعراض لكتاب هنري س. جاكسون: "ما وراء السودان الحديث"
بيتر م. هولت Peter M. Holt
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لاستعراض المؤرخ المشهور بيتر م. هولت لكتاب الإداري البريطاني هنري س. جاكسون: "ما وراء السودان الحديث Behind the Modern Sudan". نُشر الاستعراض في صفحتي 444 – 445 بالعدد الرابع من المجلد العاشر لمجلة الشرق الأوسط The Middle East Journal" (التي تَعُدُّ أقدم دورية في شمال أمريكا متخصصة في شؤون الأوسط) الصادرة في خريف عام 1956م.
عمل هنري جاكسون (1883 - 1962م) في مجال الإدارة بالسودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، ولخص تجربته في الحكم والإدارة في عدد من المقالات والكتب التي وصف في بعضها عادات السودانيين وأمثالهم في مختلف المديريات التي عمل فيها، وأرخ في بعضها الآخر لبعض الشخصيات السودانية مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وسبق لنا أن ترجمنا للعربية بعض مقالاته التي كان ينشرها في مجلة "السودان في رسائل ومدونات"، وكتبه مثل "السودانيون المقاتلون" و"عثمان دقنة"؛ وصدرت في الأسبوع الماضي ترجمتنا لكتابه المعنون: "ما وراء السودان الحديث" عن دار نشر باركود بالخرطوم.
أما كاتب الاستعراض فهو المؤرخ بيتر هولت (1918 – 2006م)، الذي كان قد عين عقب تخرجه في جامعة أكسفورد أستاذا للتاريخ بالمدارس الثانوية السودانية، ثم عمل مفتشا بين عامي 1941 – 1953م. وأنشأ من بعد ذلك دار الوثائق وترأسها، وعمل محاضرا غير متفرغ في جامعة الخرطوم بين عامي 1952 – 1953م. وحصل في عام 1954م على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد بأطروحة عن حكم الخليفة التعايشي وعمل بعد ذلك في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بين عامي 1955 – 1982م إلى حين تقاعده. نشر هولت في خلال مسيرته الأكاديمية أعمالاً أصيلة عديدة عن تاريخ السودان (خاصة في عهد المهدية) ومصر (في عهد المماليك) وسوريا، وشارك في كتابة فصل عن العرب والإسلام في موسوعة كمبردج عن الاسلام. صدر آخر كتاب له في عام 1999م عن مملكة الفونج بعنوان:"سودان الأنيال الثلاثة The Sudan of the Three Niles. تعلم اللغة العربية في غضون سنواته في السودان، وترجم للإنجليزية كتابين من الألمانية والفرنسية، وأشرف على رسائل كثير من طلاب الدراسات العليا الذين اشتهروا فيما بعد في علم التاريخ (مثل حسن أحمد إبراهيم وجبرائيل واربورج ومحمد عدنان بخيت وعبد الكريم رافق). انظر نعي بروفيسور هولت في صحيفة الاندبندنت (https://rb.gy/omfjuj)، وما كتبته عنه الأكاديمية البريطانية: https://rb.gy/b5h0pw .
المترجم
*********** ********* ***********
يَعُدُّ كتاب "ما وراء السودان الحديث" مواصلةً لذكريات وتأملات السيد جاكسون، التي بدأها بكتاب "السودان: أيام وعادات" (الذي ترجمه السفير عوض أحمد الضو بعنوان "أيامي في السودان". المترجم). وقد قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أقسام، تناولت الأيام الأولى للحكم الثنائي، والإدارة والسكان، والعلاقات بين بريطانيا ومصر والسودان، على التوالي.
وكانت أكثر أجزاء الكتاب جِدّة ً وطرافةً وإثارة للاهتمام هي تلك المتعلقة بذكريات وتجارب المؤلف وزملائه. وصف المؤلف في هذا الكتاب الكثير من المواقف العصيبة والأخطار المهولة التي تعرض لها وتحملها المسؤولون البريطانيون من جيله، الذين فتحوا مناطق شاسعة من الجنوب، وأسسوا تدريجياً النظام في جميع أرجاء البلاد. وتنقل رواياته الانطباعية المفعمة بالحيوية إلى القارئ صورةً تنبض بالحياة عن جنوب السودان. ويسرد الكاتب بعض الذكريات الشخصية للزبير باشا، الرجل السوداني الذي أسس في القرن التاسع عشر جيشاً من المسترقين غزا بهم بحر الغزال ودارفور وسيطر عليهما. وعلى الرغم من أن السيد جاكسون لم يكن موجوداً في الخرطوم عندما وقعت اضطرابات عام 1924م (المقصود بالطبع هي حركة 1924م. المترجم)، إلا أنه كان يعرف المسؤولين البريطانيين الذين تصدوا لها؛ وقدم أيضاً وصفا مفصلا للاضطرابات المهددة التي أحدثها تمرد للقوات المصرية والسودانية في العاصمة (انظر مقال مارتن دالي عن ذلك التمرد في هذا الرابط: https://rb.gy/ywrlgx)
غير أن هذا الكتاب لم يقف عند حد مجرد وصف علاقات حياة ومغامرات المفتشين البريطانيين في "القسم السياسي" بالسودان. فقد كُتِبَ هذا المُؤَلَّف في عام 1955م، حين كان السودانيون قد حصلوا على الحكم الذاتي، وليس حق تقرير المصير. وحصل حزب كان يدعو ويتعهد رسمياً بالاتحاد مع مصر على أغلبية مقاعد البرلمان وشكل الوزارة. ولم يكن هناك وجود للقسم السياسي (البريطاني) في حكومة السودان في تلك الأيام. وبدا أن إنجازات البريطانيين في السودان قد طُمِسَتْ وتم نسيانها. وبهذا يمكن أن يُعْتَبَر هذا الكتاب، إلى حد ما، كتاباً تذكارياً، سجل – من أجل حفظ التاريخ – المثل العليا والطرق التي كان يسلكها رجال مثل السيد جاكسون، الذين "عملوا على تحقيق العدالة والأمن والسلام لمجتمعات مزقتها سنوات الحرب". ولم يكن تحقيق ذلك التقدم ممكناً من غير بذل للكثير من التضحيات: وصف المؤلف في كتابه بعض الحالات التي كان فيها ثمن تحقيق ذلك التقدم هو التضحية بعدد كبير من الأرواح. وضرب لذلك بحالة مات فيها 45 رجلاً في رحلة استكشافية عام 1901م كانت تهدف لرسم خريطة لحدود السودان الشرقية؛ وحادثة مقتل (الرائد البريطاني) اسكوت باربور على يد الدينكا (الأقار) في عام 1902؛ وحادثة (عبد القادر) ود حبوبة في عام 1908م، التي قتل فيها المفتش البريطاني اسكوت مونكريف ومساعده المصري محمد شريف.
لقد كانت مساهمة الحكم الثنائي (الذي كان فعلياً تحت السيطرة البريطانية) في صناعة السودان الحديث مساهمةً حقيقة وبالغة الأهمية، إلا أن بعض ما ذكره المؤلف حول التطورات الإدارية بالبلاد فيه نظر وشك. فعند ذكره للفترة بين عامي 1924 و1936م قال المؤلف في صفحة 210: "تقدم السودانيون بسرعة نحو الحكم الذاتي بتوجيه وإلهام بريطاني". ولكن الصحيح هو أن الخطوة الأولى نحو الحكم الذاتي لم تبدأ إلا في عام 1944م، عندما قيام "المجلس الاستشاري" (الذي كُوِّنَ من ثلاثين عضواً من زعماء العشائر ورجال الدين جميعهم من شمال السودان، برئاسة الحاكم العام. المترجم). وفي الفترة التي سبقت قيام ذلك المجلس، تمت إجازة عدد من القوانين واللوائح والمراسيم التي منحت سلطات تنفيذية وقضائية لشيوخ القبائل في شمال البلاد، ولزعماء القبائل في جنوبها. وكان إطار ونطاق تلك السلطات محلياً وقبائليا محضاً، ولم يكن يشكل ما يمكن تسميته بـ "حكم ذاتي". وختم المؤلف ذكره لتلك القوانين واللوائح والمراسيم بقول مضلل جاء فيه: "كان السودانيون في طريقهم نحو "الحكم الذاتي" (صفحة 85). وعندما جاء تقرير المصير، بعد مرور ربع قرن من صدور آخر تلك المراسيم، كان مجيئه نتيجةً لتطور إداري مختلف، كان مدفوعاً بظروف سياسية جديدة لم يكن لها استمرارية تاريخية تذكر مع تلك التجارب في الحكم غير المباشر.
ويمكن، إلى حد ما، اعتبار هذا الكتاب، دعاية مضادة للنفوذ المصري بالسودان. ويلاحظ ذلك بصورة خاصة في القسم الثالث، الذي لخص فيه المؤلف بعض النقاط الأكثر مرارةً في العلاقات الإنجليزية - المصرية على السودان - مثل الاشتباك بين الخديوي عباس حلمي وكتشنر في عام 1894م، وتمرد عام 1900م في أمدرمان، واضطرابات عام 1924م التي أفضت إلى إلغاء الثنائية في كل شيء يتعلق بالحكم ما عدا الاسم، وما حاق بالعلاقة بين مصر والسودانيين عقب ثورة الجيش المصري في عام 1952م. وهنا التزم المؤلف بتقديم وجهة النظر البريطانية التقليدية الرسمية. وربما يكون ذلك التحيز من المؤلف قد تم بشكل غير واعٍ. وأخفق ذلك التحيز في إنصاف القضية المصرية أو المثابرة الفطنة للقومية السودانية. ومع ذلك، فقد كان تسجيل المؤلف، بشكل صريح، للآراء التي تم تبنيها على نطاق واسع من الأمور القيمة.
****** ******** ********
ونشر بيتر هولت في نفس العام (1956م) استعراضاً قصيرا آخر لكتاب جاكسون (ما وراء السودان الحديث) في الجزء الثالث من المجلد رقم 32 من مجلة "الشؤون الدولية International Affairs"، ص 388 – 389. جاء في ذلك الاستعراض:
تتناول غالب أجزاء هذا الكتاب المصاعب العديدة التي واجهها بشجاعة فائقة السيد جاكسون وزملائه في القسم السياسي لحكومة السودان وهم في خِضَمّ أدائهم لواجباتهم، وبسطهم للأمن على امتداد مناطق البلاد المترامية الأطراف، في زمن كانت فيه الموارد ووسائل الاتصال محدودةً للغاية. وقدم جاكسون في كتابه عرضاَ شيقاً لإداراته للمناطق التي جاب أرجائها وأدارها في جنوب السودان، وعن لقائه مع الزبير باشا، وعن دوره في اضطرابات (حركة) عام 1924م، وفي المفاوضات التي جَرَتْ عام 1946م.
إن السيد جاكسون يكتب في مؤلفه هذا لغرض محدد، ألا وهو الاحتفاء بذكرى البريطانيين ومساهماتهم في السودان، ولتنبيه السودانيين للمشاكل التي سوف يُوَاجِهُونَ الكثير منها بعد نيلهم للاستقلال. وكان يخشى من أن ينجح المصريون في خداعهم...

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء