اسْتِعْراض لكتاب: "الوطنية المفقودة: الثورة والذاكرة والمقاومة المعادية للاستعمار في السودان" لألينا فيزاديني Book Review: Lost Nationalism: Revolution, memory, and anti-colonial resistance in Sudan, by Elena Vezzadini Heather Sharkey هيذر شاركي ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لاسْتِعْراض بقلم الأستاذة الدكتورة هيذر شاركي لكتاب الدكتورة ألينا فيزاديني المعنون: "الوطنية المفقودة: الثورة والذاكرة والمقاومة المعادية للاستعمار في السودان" عن حركة 1924م بالسودان. الذي نشرته دار نشر جيمس كاري ببريطانيا عام 2007م. ونُشر الاسْتِعْراض عام 2016م في العدد الرابع والخمسين من مجلة "دراسات السودانSudan Studies ". وتعمل مؤلفة الكتاب أستاذة بمعهد العالم الأفريقي بجامعة السوربون. وقد حصلت عام 2008م على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة بيرجن النرويجية بأطروحة عن حركة 1924م، وأستلت منها عددا من الأوراق من بينها ورقة تمت ترجمتها للعربية بعنوان "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م" http://www.sudanile.com/66233 أما كاتبة العرض (هيذر شاركي) فهي أستاذة حاصلة على درجة البكالوريوس في الأنثروبولوجيا من جامعة ييل الأميركية، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعتي درم البريطانية وبريستون الأميركية، على التوالي، ولها عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر"، و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر"، و"تاريخ الصحافة العربية في السودان". وكنت قد عرضت لعدد من كتابات الدكتورة شاركي في مقالات مترجمة سابقة. المترجم ************* عقب توقيع حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان لاتفاق السلام الشامل في عام 2005م، تم رفع لوحة إعلانات كبيرة عليها صورتي قائد الحركة الشعبية جون قرنق (1945 – 2005م) وقائد جمعية اللواء الأبيض والثورة المضادة للاستعمار عام 1924م علي عبد اللطيف (1896 – 1948م). وربما كان الخبراء من الساسة والنشطاء الذين كانوا وراء رفع تلك اللوحة الاعلانية يأملون في استحضار ألفة وصلات وروابط تاريخية بين (حركتي) النضال الشعبي الذي عمَّ سودان القرن العشرين وسودان بدايات القرن الحادي والعشرين. غير أن المؤرخة (ألينا فيزاديني) تذكر في كتابها أن حفيد علي عبد اللطيف علق لها على تلك اللوحة الاعلانية متأسفا من أن تلك اللوحة لا تساعد أغلب الناظرين إليها على استحضار أي صلة بين الرجلين، إذ أن غالب هؤلاء لا يعرفون من هو "على عبد اللطيف" أصلاً، بل قد يظنون أنه أحد أبناء قرنق! وتذهب فيزاديني في دراستها المجودة هذه إلى أن مثل ذلك الفشل في معرفة هوية "على عبد اللطيف" عند الناظرين للوحة الاعلانية يفسر لماذا فُقدت ثورة 1924م مرتين، الأولى في عام 1924م عندما تم قمعها بعنف بالغ، والمرة الثانية تاريخيا، بسبب عدم بلغوها مرتبة "العنصر المستقر في الرواية الوطنية"(ص 7 في الكتاب). كلنا يتذكر القول المأثور: "التاريخ يكتبه المنتصرون" – ويمكننا أن نضيف له "ثم يزيحون الخاسرين جانبا". لقد استلهمت المؤلفة في كتابها هذا "الدراسات الاستتباعية / الثانوية Subaltern Studies" لمدرسة جنوب آسيا التأريخية لما بعد فترة الاستعمار، واعتمدت في رفضها لتهميش أحداث 1924م في ماضي السودان على إيمانها القوي بقدرة العاديين من الناس على تشكيل التاريخ، وأرادت أن تثبت أهمية تلك الثورة التاريخية. وجاء عملها مبنيا على بحث مجود ومدقق أجرته مستعينة بالوثائق المتوفرة في دار الوثائق المركزية بالخرطوم، والارشيف الوطني البريطاني بلندن، وأرشيف السودان بجامعة درم البريطانية، وفي أماكن أخرى. وكانت من أهم مصادرها تقارير مخابرات حكومة السودان والحكومة البريطانية ابتداءً من سنة 1924م، حين اسْتَحالَت الاحتجاجات التي بدأت هادئة إلى ثورة تغلي، ومضت مطلقةً ما سماه المؤرخ البريطاني الراحل كريستوفر بيلي (1945 - 2015م) وهو يكتب عن التجربة في سياقها الهندي بـ "ذعر المعرفة knowledge panic”، الذي أفضى إلى إنشاء "قواعد بيانات ضخمة وجيوش من المخبرين" (صفحات 257 – 258 في الكتاب). وكتبت فيزاديني أنه بفضل ذلك الكم الهائل من الأوراق والوثائق الذي خلفه "ذعر المعرفة"، فإن ثورة 1924م قد تكون هي "المرحلة التي تم فيها أفضل توثيق لتاريخ السودان الإنجليزي المصري" (صفحة 9 في الكتاب). وأهتمت المؤلفة أيضا بتوثيق التاريخ الشفوي لأحفاد وأبناء أحفاد من شاركوا في ثورة 1924م. وتحصلت من هؤلاء على نسخ مما كانوا يحتفظون به من صور (كان معظمها مقطعا أو باليا)، ونسخة سرية لقائمة بأسماء الكادر الداخلي للجمعية مكتوبة بخط اليد. وكان الاحتفاظ بتلك الوثيقة دليلا على الأهمية المستمرة لثورة 1924م عند دائرة صغيرة من السودانيين الذين لا يزالون يحملون مشاعر الحنين والتوق (النوستالجيا) لتلك الأيام (صفحات 68 و99 و207 في الكتاب). وترفض فيزاديني الروايات الرسمية لتاريخ ثورة 1924م، التي تعرض لأحداثها بحسبانها "لا حدث" جماعي (collective "non - event") قام به من أسماهم مؤرخ بارز يميل لسلطات الحكم الثنائي "مجموعة صغيرة لا تمثل إلا أقلية ضئيلة" (صفحتي 10 - 11 في الكتاب). وترفض المؤلفة أيضا نزعة المخابرات البريطانية التي كانت تصف – في احتقار - المشاركين المتنوعين في تلك الحركة بأنهم "رجرجة" و"رعاع" و"منحرفين" و" دُون" و"أراذل الناس". وتؤكد الكاتبة في البدء أن عدد المشاركين في تلك الثورة أكبر من الـ 120رجلا الذين تذكرهم الكثير من المصادر، وتؤكد أن عددهم كان لا يقل بحال عن 900، بل يتعدى الألف، وذلك بحسب ما عثرت عليه من أسماء في وثائق المخابرات التي أطلعت عليها. واقتصرت الأسماء التي أوردتها السلطات البريطانية على الرجال من دون النساء، إلا أنه ثبت لها أن هنالك نساء كن يؤيدن الحركة من خَلْفَ الكَوَالِيس، وكانت هنالك امرأة واحدة على الأقل تشارك في المظاهرات هي زوجة علي عبد اللطيف (واسمها العازة محمد عبد الله. المترجم). وتذهب المؤلفة إلى أن أحداث 1924م كانت في الواقع " انتفاضات عديدة أدخلت في حدث واحد"، وبلغت ما يمكن وصفه بـ "ثورة حقيقية" (ولكنها مُخمَدة) تخطت التسلسلات الهرمية في المجتمع، وسعت لإحداث تغير راديكالي (جذري) يشمل إنهاء الحكم البريطاني (صفحتي 14 و24 من الكتاب). غير أن السرية التي اتسمت بها تلك الثورة في تكون خلاياها جعلت من الصعوبة على مخابرات الحكومة تتبع حركتها، وجعلت من العسير على المؤرخين الكتابة عنها بعد مضي نحو قرن كامل على قيامها. واعتمدت ثورة 1924م على التقنيات التي بدأت في الازدهار في تلك الأيام في مجالي الإعلام والنقل. وكان نشطاء ومؤيدو الحركة يستخدمون البرقيات ومطابع النشر والقطارات وغير ذلك لإيصال رسالتهم، ولطي المسافات، والتنسيق فيما بين أعضائها (للمزيد يمكن النظر في مقال المؤلفة المترجم بعنوان: "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 - 1924م. المترجم)، واستخدموا أيضا التصوير، الذي وفر في نهاية الأمر بعض الأدلة المرئية على تعددية عضوية "اللواء الأبيض". انظر مثلا للصورة الشهيرة لعبيد حاج الأمين وصالح عبد القادر وعلي عبد اللطيف وحسن شريف جالسين وهم يرتدون البِدَل الكاملة وربطات العنق أمام خريطة "وادي النيل"، التي غدت للمؤرخين صورة أَيقونِيَّة (مميزة) من أشهر صور فترة الحكم الإنجليزي – المصري (صفحة 68 من الكتاب). وكانت آلات التصوير قد غدت في عام 1924م رخيصة نسبيا وسهلة الاستخدام، وقابلة للحمل أيضا. وكانت السلطات البريطانية قد اعتقلت وسجنت أحد المتعاطفين مع الثورة (واسمه زين العابدين) لقيامه بـ "تصوير مظاهرة في الشارع" (صفحة 155 من الكتاب). يَا لَهُ من تغيير كبير كان هذا الذي يجري الآن مقارنة بفترة المهدية قبل أقل من نصف قرن، حينما كان الخليفة عبد الله يحرص أشد الحرص على الاقتصاد في طباعة المنشورات، إذ لم يكن بالبلاد من مطبعة سوى "مطبعة الحجر" الوحيدة التي خلفها العهد التركي - المصري السابق. هذا إضافة لندرة الورق حينها! من لَفّق محاولة مسح وإزالة ثورة 1924م أو التقليل من شأنها؟ تشير المؤلفة نحو شخص واحد هو البريطاني جي. إي. ايوارت (J. E. Ewart)، الذي أتى للسودان من أرض البنجاب وثورة 1924 قد ثبتت أقدامها. وكان ايوارت قد قر قراره على إنهاء ما أسماه "أول اخفاق لسلطات المخابرات". وبات التقرير الذي أعده ايوارت هو "الرواية الرسمية" لكل ما حدث في 1924م. ووصف تقرير ايوارت ثورة 1924 بأنها "حركة راديكالية (متطرفة)" ونسب "سياساتها الخاطئة" لـ "بغض وحقد وشحناء" المشاركين فيها. واستعار الرجل بعض ما جاء في تقارير سابقة، وأنتقى منها وصف أولئك المشاركين في الثورة بأنهم "رجرجة ودهماء الخ"، غير أنه تحاشى التفريق بينهم عرقيا، ولم يشر إلى أصول عائلاتهم. غير أن ايوارت لام، في موضع آخر من تقريره، "السود المنبتين قبليا detribalized blacks" لتسببهم في إثارة الاضطرابات، وأشار إلى "الأصل الوضيع" لقادتها مثل علي عبد اللطيف، وتعهد بإنهاء الممارسة التي كانت تتيح لمن سماهم "ذوي الأصول السوداء غير المستقرة unstable black stock" للترقي لدرجات ذات مسؤولية عالية في الوظائف الحكومية (صفحة 269 في الكتاب). لم تقع المؤلفة في فخ لوم الأجانب – خاصة المستعمرين البريطانيين – على الفساد والخَيْبات في تاريخ السودان، بل أوضحت أن نخبة متعلمي السودانيين الشماليين انتبهوا وأدركوا واستفادوا أيما استفادة من قلة تمثيلهم كذلك. فعلى سبيل المثال عبر القاضي والشخصية الوطنية البارزة محمد صالح الشنقيطي في عام 1946م عن فخره بالأصول العربية الخالصة لشعب السودان، وقال بمثل ما قال به ايوارت من أفكار مقترنة بالانتماء العرقي، من أن ثوار 1924م هم مجموعة من "عوام السفهاء المتخلفين". وبحسب تقرير للمخابرات البريطانية فإن الشنقيطي كان "يتحدث باحتقار شديد عن علي عبد اللطيف (الذي يقبع الآن في مصحة للأمراض العقلية)، وقال بأن أمه زنجية، ووالده مجهول الأصل، وأن ذلك الوالد كان في فترة من الفترات يجمع علب الصفيح من الثكنات" (صفحة 8 في الكتاب). وقدمت فيزاديني تحليلا بليغا لأهمية ثورة 1924م على المدى الطويل، وكتبت أن ذكراها " تكمن في قلب الصدمات التي حدثت في سودان ما بعد الاستقلال، حين غدت سياسة التمثيل (the politics of representation) في الشمال تعد أي أصل جنوبي علامةً على نقص اجتماعي. وكانت ترى أن فشل السودانيين الشماليين في الاعتراف بمطالب الجنوبيين، وهوية الصراع بين شمال (يرى نفسه كجزء من العالم العربي) وجنوب (أفريقي) هو الذي أفضى لأطول حرب دموية في القارة الإفريقية ...." (صفحة 8 من الكتاب). ومضت المؤلفة في تناول ثورة 1924م التي كانت "ستصنع قومية سودانية ذات قاعدة عريضة" بحسبانها "حركة حديثة معادية للاستعمار كان بمقدورها إحداث انفجار في التراتبية الاجتماعية" (صفحة 272 من الكتاب). وهنالك سؤالان عالقان حتى الآن: السؤال الأول هو: ما هو مستقبل (ذلك) الماضي، والسودان قد انقسم إلى ما تبقى من السودان القديم، وجمهورية جنوب السودان (الجديدة)، وهل من دروس مستفادة من ثورة 1924م إلى الآن؟ والسؤال الثاني هو: إن قدر لمزيد من السودانيين في عام 2005م التعرف على علي عبد اللطيف من صورته الموضوعة بجنب صورة جون قرنق في لوحة الإعلانات تلك، وإن قدر لمزيد من السودانيين النظر إلى أحداث 1924م بحسبانها أُنْمُوذَجاً للعمل السياسي المبرأ من العرقية والقبلية والطائفية والنخبوية – أكان للسودان في نهاية المطاف أن ينقسم لقسمين في 2011م؟