الآثار الاقتصادية لإنفصال جنوب السودان …. بقلم: هانئ رسلان
أحاديث سودانية
مع إقتراب الاستفتاء على حق تقرير المصير لاقليم جنوب السودان فى يناير القادم، تبرز الحاجة بشكل متزايد الى النظر والتدقيق فى الآثار والتداعيات التى سوف تترتب على الانفصال المحتمل للجنوب، وبشكل خاص فى التحديات التى سوف تواجه الدولة الجديدة فى تدبير الاحتياجات والخدمات الاساسية لمواطنيها والقدرة على بناء هياكل ومؤسسات مستقره فى المجالات الاقتصادية والامنية والسياسية.
بين يدينا الان ورقة بحثية قدمت الشهر الماضى فى ندوة مركز السودان للبحوث والدراسات الاستراتيجية حول "تقرير المصير بين الحق والواجب" أعدها إستاذ الاقتصاد بجامعة ام درمان الدكتور احمد مجذوب احمد، الذى شغل عدة مواقع هامة فى العمل العام والتنفيذى من بينها انه كان وزيرا للدولة بوزارة المالية السودانية وكان ايضا واليا للشمالية..
يقدم الدكتور مجذوب تحليلا كليا للآثار والمآلات المتوقعة للانفصال على الإقتصاد السودانى سواء على المستوى القومى أوعلى مستوى الجنوب، ويقول أيضا أن هدفه من هذه الورقه هو توسيع دائرة النقاش وتعميق دراسة الموضوع، ولا شك ان الورقة قد قدمت المفاتيح الاساسية للتعاطى مع هذه القضايا.
فيما يتعلق بالخصائص العامة لاقتصاد جنوب السودان فانه يقسمها الى مرحلتين: الاولى تتناول الفترة الممتدة من الاستقلال الى توقيع اتفاقية نيفاشا فى عام 2005 وكانت مساهمة جنوب السودان فى الاقتصاد القومى خلالها تساوى صفرا، بسبب اغلاق الجنوب وعزلة بواسطة الاستعمار البريطانى قبل الاستقلال ثم الصراعات والحرب الاهلية بجولاتها المختلفة والتى أعاقت أى تنمية أو تطور إقتصادى فى الجنوب، وكان الجنوب خلالها ذا تاثير سالب على الاقتصاد السودانى لاعتماده على الشمال وايضا لزيادة المصروفات الامنية والعسكرية لمواجهة نفقات الحرب الاهليه . أما المرحلة التالية فهى التى اعقبت توقيع نيفاشا والالتزام بمقرراتها وما ترتب عليها من قسمة للموارد بين الجنوب والشمال وتزايد حجم الموارد المحولة للجنوب والتى تقدرها الورقة بعشرة مليارات دولار حتى عام 2007 فقط .
وفى الجزء الخاص باوضاع اقتصاد الجنوب قبل ظهور النفط، تصفه الورقة بالضعف العام فى كل المجالات، وتستعرض المظاهرالدالة على ذلك فى سته سمات رئيسية، مثل ضعف البنية التحتية كالطرق وخدمات المياه والكهرباء والاتصالات والمرافق العمرانية بشكل عام، وان الانتاج الاقتصادى بدائى لم تمتد إليه يد التحديث ولم تدخله الآلة وظل محصورا في الزراعة التقليدية اليدوية، والرعي غير المنظم. بالاضافة إلى أن العمالة ظلت غير ماهرة وغير مدربة نتيجة النزوح وضعف المؤسسات التعليمية وضعف برامج التدريب والتأهيل التى تتم على المستوى القومى أو على مستوى الجنوب وبالتالى أصبح المورد البشرى غير قادر على قيادة برامج الأصلاح والتنمية الأقتصادية. أما السمة الرابعة فتتمثل فى ضعف البناء المؤسسى و التشريعي، حيث لا توجد مؤسسات مالية محلية ولاعالمية والموجود منها انحصر فى المدن الرئيسية ويعمل بموارد ضعيفة لعدم وجود البيئة الجاذبة، وأيضا لضعف النشاط التجارى الذى يمثل السمة الخامسة لاقتصاد الجنوب حيث تنحصر التجارة فى تبادل السلع الغذائية الضرورية بصيغة المقايضة فى الغالب، كما أن النشاط التجارى الحدودى مع دول الجوار ضعيف ويرتبط بذات السلع المذكورة وساعد على استمرار هذه الخاصية ضعف الأجهزة الجمركية كنتيجة لضعف الأجهزة الحكومية بشكل عام . ثم تشير الورقة الى خاصية اخيرة هى ضعف القطاع الخاص أو انعدامه، فهو إن وجد ينحصر في النشاط التجاري البدائي القائم على مقايضة السلع مع دول الجوار، والنقدي المعتمد على العملات المتعددة المحلية والأجنبية المتداولة فى الجنوب وأدى غيابه الى غياب المؤسسات المسئولة عن رعايته وتنظيمه وتطويره. وهكذا يغيب أهم عامل من عوامل النهوض الأقتصادى الذى كان يمكن أن يعوض ضعف الأجهزة الحكومية ويقود قدراً من التطوير والتنمية الاقتصادية فى بعض المجالات .
ويخلص الدكتور مجذوب من ذلك الى ان هذه الخصائص قادت إلى أن أهم صفتين أتصف بهما أقتصاد الجنوب قبل توقيع أتفاقية السلام وأستخراج النفط هما أنه اقتصاد ُمُستنزف، بمعنى أنه ظل يمثل مصدراً لإستنزاف الأقتصاد القومى، وأنه إقتصاد تابع لأنه ظل معتمداً على الأقتصاد القومى فى الشمال فى مختلف الأنشطة الأنتاجية والأنظمة المالية والتمويلية وعنصر العمل والخدمات العامة كالتعليم والصحة والمرافق العامة، ومجال المصارف والمؤسسات المالية، وعلى إقتصاديات دول الجوار فى التبادل التجارى المحدود .
تقول الورقة ان هذه الخصائص والسمات لاقتصاد الجنوب سوف تستمر فى حالة الانفصال حيث لم يتغير سوى عامل واحد هو زيادة التدفقات المالية الناتجة عن النفط، وهذا العامل بمفردة لن يستطيع أن يحدث نقلة عاجلة على المستويين القصير والمتوسط، بسبب عدم مرونة معظم العوامل والمتغيرات الاقتصادية مثل البنية التحتية والقدرات الانتاجية المحدودة، والحاجة إلى بناء مؤسسى وتشريعات اقتصادية ومالية ملائمه وتأهيل وتطوير العنصر البشرى وإيجاد المواعين الأستيعابية للنشاط المالى فلا تقدم المؤسسات المالية والتمويلية على ممارسة نشاطها بغير وجود العملاء.
يضاف الى ما سبق قضية انغلاق اقتصاد الجنوب وعدم وجود منافذ توفر له المرونة اللازمة للحركة الاقتصادية، فالاعتماد على دول الجوار، يرهن اقتصاد الجنوب للاجندات الأمنية والسياسية والاقتصادية لهذه الدول، فضلا عن ارتهانه لظروف واجندات المانحين الدوليين، الذين لم يفوا للجنوب سوى ب 14% فقط مما تم التعهد به فى نيفاشا .
على المدى الطويل تقول الورقة الى ان الجنوب سيحتاج إلى خطة إقتصادية شاملة وإلى تطوير الإيرادات النفطية التى تعتمد عليها موازنة الجنوب عليه بنسبة 99% ، لاسيما فى إكمال البنية التحتية المتعلقة بانتاج وتسويق النفط. كما يجب الاخذ فى الاعتبار الصراعات القبليه وتحديات تحقيق الإستقرار السياسى والأجتماعى، وكذلك أثر الأجندة السياسية الخارجية على استقرار الدولة الجديدة ومطلوبات فواتير الدعم السياسى والاتفاقات السياسية، لأن بعض الدول تطمع فى استخدام الجنوب كمصدر للعكننة السياسية فى المنطقة، أوعلى الأقل مع دولة الشمال الأم.
نقلا عن مجلة الاهرام الاقتصادى