الأعلام الاوروبيون الثلاثة هم لويس الرابع عشر ومترنخ الذي يلقب بداهية السياسة الألمانية وكارل ماركس

 


 

 

ينسب الى لويس الرابع عشر كلماته المشهورة- l’état c’est moi ” أنا الدولة” ويحسب بعض المؤرخين أنها قد تكون من بين الأسباب غير المباشرة لتفجر الثورة الفرنسية لاحقاً ومهما يكن الأمر وجدتني أتأمل و أتذكر هذه المقولة وما تنطوي عليه من المعاني والمدلولات و أتساءل هل كان القائل يحاول أن يعرف ماهية الدولة وهل تحتاج الدولة الى تعريف؟ وهل من مهام رجل الدولة أن يعرف ماهية الدولة؟ أم أنها بالأحرى مهمة المفكرين. يقال أنه من أصعب الأشياء محاولة تفسير الأشياء الأولية أو في أطوارها الأولية – prototypes كذاك الذي فسر الماء بعد الجهد بالماء.
هل كان القائل يرمي الى تجسيد الدولة ، وهل تحتاج الدولة الى تجسيد، فجسدها في شخصه فقط هو و ليس في أشخاص آخرين مما جلب عليه نقمة الناقمين وصوروه بأنه يمثل السلطوية والأوتوقراطية في أوج تحكمها وسيطرتها.
وهل تحتاج الدولة الى تجسيد؟ هل كانت كلماته التي أطلقها ولا يزال صداها يتردد عبر القرون مجرد زلة لسان أم أن لويس حاول بمقولته أن ينقل مفهوم الدولة من عالم المُثُل الأفلاطوني، عالم الأفكار التجريدية المحضة الى عالم الحقائق الموضوعية المادية الماثلة للعيان و التي تدركها الحواس منذ الوهلة الأولى.
الدولة يمثلها رجال الدولة من مدنيين وعسكريين تمثلها البيروقراطية المدنية والعسكرية الدبلماسيون و المعلمون و العمال والزراع و التجار ورجال الأعمال والمال و مقدمي الخدمات و المنتجين وغيرهم كثيرين ممن يتعامل المواطن معهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تصريف أمور الحياة وشؤونها اذا كان لابد من تعريف الدولة فهي كيان يعبر عنه نشاط متشعب متمدد متعدد الجوانب والمجالات والأغراض ,متغير تعتريه المتغيرات متبدل لا يستقر على طور شامل متناسق متكامل متطور الخ كل هؤلاء الأشخاص الطبيعيين أو الإعتباريين لا يدعون انهم الدولة و يقولون أنهم رجال الدولة حيناً أو ممثليها أحياناً وهذا صحيح لأن الدولة تقبع في عالم المُثُل وتحتاج أن تتنزل الى عالم الواقع. من الملاحظ أنه لم يدعي أحد عبر عصور التاريخ الإنساني أنه الدولة بخلاف لويس الرابع عشر وهذا يجعل كلماته لا تخلو من الطرافة بالرغم من وضوح خطلها و مجافاتها لحقائق الحياة و التاريخ.
الدولة لها علاقة ما بالرمزية لان علاقتها برجالها تحكمها الرمزية فنحن نقول رجال الدولة، إذن الدولة شيء آخر غير رجالها وغير ممثليها وغير رمزها الأعلى ومن ثم يتضح خطأ لويس فهو في أحسن الأحوال ليس الا رمز الدولة و ليس الدولة نفسها كما إدعى كاذباً ذاك الأوتوقراطي المتغطرس
إذن الدولة ليست سوى مفهوم تجريدي يحتاج الى التنزيل الى عالم الحقائق الأرضية الموضوعية ويحتاج الى التجسيد في شكل اشخاص أو مؤسسات طبيعيين أو إعتباريين ولكن هذا يقودنا الى جانب آخر من جوانب الاهتمامات الحياتية أو الثقافية الانسانية موازٍ لما ذكرناه سابقاً وهو جانب يتعلق بالأشياء المادية التي ينزع البعض نحو جعلها مثالية أي تماماً عكس ما فعله لويس الرابع عشر حين حول المثالي الى المادي المتجسد والأمثلة كثيرة على ذلك ومنها على سبيل المثال لا الحصر المثالية في عالم الحب حينما يعمد بعض العشاق الى تحويل المعشوق الى قيمة مثالية محضة منفصلة تماماعن عالم الماديات- idealization process وتوجد كذلك في عالم السياسة او ما يسمي بعبادة الشخصيات حينما يعمد أتباع الزعيم الى تحويل الزعيم من شخص عادي او رجل دولة عادي الى شخصية اسطورية ويضفون عليه من المناقب والصفات الخارقة مما يحول شخصيته شيئاً فشيئاً الى قيمة معنوية مثالية لا تنتمني الى عالم الحقائق المادية الموضوعية المتعارف عليها. وتوجد هذه النزعة أيضاً بقوة في الفكر الصوفي إذ غالباً ما يجنح المريدون الى إضفاء هالات القداسة على الشيخ وأنه قادر على فعل كذا وكذا من الخوارق وأنه يستطيع فعل أي شيئ قد يخطر ببال المريد أو لا يخطر وأنه يتمتع بقوة روحانية هائلة خارقة و ما اليه
مع الفارق بين هذا و ذاك فان الطوطمية و عبادة الاوثان لا تخرجان عن المفهوم المشار اليه لانها تنطوي على تحويل المادي سواء أكان الصنم او الطوطم أو مظاهر الطبيعة الى المثالي الذي تسبغ عليه صفات الألوهية
فهل هناك نزعة أو حاجة انسانية لتحويل المثالي الى مادي والعكس أي المادي الى مثالي هل هناك نهج انتهجه البشر من هذا القبيل منذ عصور التاريخ السحيقة ولايزال ماثلاً الى يومنا هذا وأننا متنازعون دوماً بين هذين القطبين
ينسب الى السياسي النمساوى مترنخ داهية السياسة الألمانية في القرن التاسع عشر قوله “إن الدولة كائن لا يتعبد” . ونستشف من هذا القول ,إذا صحت نسبته اليه، أنه كان يعتقد أن الدولة، بحكم طبيعتها ووظائفها، تتجسد في شخص غير طبيعي أو أشخاص غير طبيعيين-Artificial entity ولسبب آخر لا يفوت على فطنته وهو أن الشخص الطبيعي قد يتعبد و قد لا يتعبد
سرت كلمات مترنخ سريان النار في الهشيم أو سارت بذكرها الركبان كما كان يقول أسلافنا، تناقلها الرواة وتداولها العلمانيون من كل حدب و صوب وازدهرت في أوساطهم و في أدبياتهم وأصبحت شعاراً يرفعه دعاة الدولة المدنية في مواجهة دعاة الدولة الدينية.
أما كارل ماركس وهو أيضاً من كبار الفلاسفة والمفكرين والناشطين السياسيين في القرن التاسع عشر فكان يرى أن الدولة هي آلية القهر الطبقي التي سوف تنتفي حينما تفضي التطورات التاريخية اللاحقة، وفقاً لمنظوره للحتمية التاريخية ، الى إنتهاء المجتمع الطبقي ومن ثم إنتفاء وتلاشي الدولة تلقائياً اذ لن تعد هناك حاجة اليها. و,نفهم مما قاله ماركس أو دعى اليه أنه، أي مشروع إلغاء الدولة، هدف بعيد المنال لأن تحقيقه يتوقف على هدف أو مشروع آخر صعب المنال.

صلاح الدين التهامي المكي
sameki@hotmail.com

 

آراء