The Anglo- Egyptian Administration Percy Martin بيرسي مارتن ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الرابع من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution)، الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه Constable & Company لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin (1861 – 1941م). ويتناول هذا الفصل تاريخ إرساء قواعد الإدارة بالبلاد في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري. للمزيد عن تاريخ الإدارة الإنجليزية – المصرية للسودان يمكن الاطلاع عدد من المقالات المحكمة (والأكثر حيادا) منها مثلا مقال مترجم بعنوان: "إدارة السودان السياسية بين عامي 1899 و1955م" https://bit.ly/3bhZhnV ، وعرض مترجم لكتاب "السودان تحت حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري ..." https://bit.ly/2OwOU5Q. المترجم ***** ****** ***** وصف غردون ذات مرة السودان بأنه "واحد من تلك الدول المتمدنة إلى حد ما، التي يمكن أن تغدو دولا منظمة وهادئة مسالمة إن حُكمت بطريقة رشيدة". صحيح إن الرجل بدل بعد سنوات رأيه في السودان ووصفه بأنه من "الممتلكات عديمة القيمة"، وأعلن صراحةً بأنه: "لا يمكننا حكم هذا البلد، ومصر أيضا ليس بمقدورها حكمه". غير أني أميل إلى أن مقولته الأول عن السودان هي الأكثر صحةً، ويمكن الاعتماد عليها والوثوق بها. والدليل على ذلك هو أنه بعد مرور عشرين عاما من حكم إدارة أمينة مخلصة ومحكمة نجد أن السودان، بكل مساحته الشاسعة الواسعة، ينعم الآن بسلام سياسي وازدهار مادي لا تكاد تجد له من نظير في كثير من تجارب الحكم الأجنبي في العالم. قال لورد روزبيري: "الإمبراطورية البريطانية هي أعظم وسيط علماني للخير في هذا العالم". وللتأكد من صدق هذه المقولة يمكن ببساطة النظر إلى حال مصر الآن، على الرغم من حدوث بعض الاضطرابات بها بين وقت لآخر. ولعل ما أُنجز في مصر في ثلاثين سنة يقل عما أنجز في السودان في نصف تلك الفترة. إضافة إلى ذلك، فقد حدث ذلك التغيير الملحوظ من دون ضجيج إعلامي أو ضوضاء، ولا حتى تعليق عابر. والطريقة (المثلى) الوحيدة التي يمكن بها رصد مسار الأحداث بالبلاد هي قراءة الكتب الزرقاء الرسمية، التي نادرا ما يكلف الناس أنفسهم بقراءتها ("الكتاب الأزرق" هو تقويم أو دليل يحوي إحصائيات وبيانات ومعلومات. المترجم). ولعل السر في النجاح الذي أحرزه البريطانيون في السودان يكمن في التطبيق الصارم لسياسة لورد كرومر التي أعلنها مع استعادة البريطانيين والمصريين لحكم البلاد. ففي خطابه لعدد من الزعماء القبليين والشيوخ في أم درمان في الخامس من يناير 1899م، قال لورد كرومر (الذي كان يومها وكيل بريطانيا بمصر): "لن نقوم بأي محاولة لحكم السودان من القاهرة، أو حتى من لندن. يجب عليكم أن تتوقعوا العدالة والحكم الراشد من السردار وحده. لا أشك مطلقا في أنكم لن تجدوا أي سبب للشعور بالخذلان". وما قال به كرومر شهدت به أفعال الحكومة في السودان بصورة لا تنكر. فمن العسير أن تجد شعبا أكثر رضا واقتناعا بحكومته من السودانيين اليوم. لقد أحسوا، بل أيقنوا، أن حكامهم الجدد يتحلون بروح العدل والاعتدال، وهو أمر لم يعهدوه فيمن حكمهم في عهود سالفة. ومهما يكن من شكوك وارتياب عند المحمديين (المسلمين) من أهل السودان من كونهم يحكمون من قبل مسيحيين، إلا أن لورد كرومر أفلح في تبديد مخاوف السودانيين بمقولة ناجزة قاطعة وهي: "لن نتدخل البتة في أموركم الدينية". وبالفعل، لم يحدث أن تدخلت حكومة السودان في شؤون السودانيين الدينية، ولم تُثر – حتى الآن - أي حساسيات دينية قد تفضي لاضطرابات بالبلاد، ولم يصب السودانيون المسلمون بأي قلق أو خيبة أمل في حكامهم المسيحيين (حدثت في سبتمبر من عام 1921م - أي بعد عام واحد من العشرينية الأولى للحكم الثنائي - حركة مناوئة للاستعمار في دارفور بقيادة عبد الله السحيني. انظر المقال المترجم بعنوان "التمرد والعنف وتكوين الدولة في دارفور في سنوات الاستعمار الأولى. http://www.sudanile.com/71528 المترجم). وبادر البريطانيون بشرح وتوضيح نوع الحكم الذي يمكن للأهالي السودانيين توقعه منهم. أخبروهم بأنه يمكنهم الاعتماد على البريطانيين في بسط عدالة متساوية للجميع، الأغنياء والفقراء، وأصحاب المكانة الرفيعة ومن هم دون ذلك. فعليهم جميعا دفع ما عليهم من ضرائب. ووعدت الحكومة بأن تكون تلك الضرائب معتدلة ومنصفة ومتناسبة، وأن تكون ثابتة الفئة (بحسب تقاليد البلاد القديمة)، كتلك التي تطبق في البلاد الإسلامية الأخرى. وخلافا لما كان يحدث في عهود ماضية، يمكن لدافع الضرائب أن يطمئن أنه لن يطالب بدفع مزيد من الاتاوات أن سدد ما هو مفروض عليه. غير أن الحكومة الجديدة قامت، في نفس الوقت، بتحذير الأهالي بأنها لا تنوي تدليلهم أو فعل كل شيء بالإنابة عنهم. قال لهم لورد كرومر: "ينبغي أن تجهدوا أنفسكم (في العمل). لا بد أن تستأنفوا العمل في زراعة حقولكم، إذ أنه لا خوف بعد الآن من الاعتداء عليها من قبل كائن من كان". ويشهد الازدهار الذي شهدته عموم مناطق السودان بعد عشرين عاما من الحكم البريطاني - المصري بأن السودانيين قد سمعوا ووعوا لنصيحة لورد كرومر، وأن الوعد الذي قطعه لورد كرومر للأهالي بتوفير الحماية لهم ولمزارعهم كان وعدا صادقا. وكان نتاج ذلك الوعد عملا مثمرا لم يكن ليتوقعه أشد الناس تفاؤلا في غضون تلك الفترة الوجيزة. ووضح جليا مدى الاتقان الذي أبدته الإدارة في القيام بمهام عسيرة في السودان في تلك السنوات، شملت عمليات تمدين السودان وبسط الأمن والنظام به، مما جعل من المتيسر للناس الحركة والتنقل في مختلف أرجاء البلاد في أمان (وهو أمر لا ينبغي أن يؤخذ كأمر مسلم به، إذ أنه لم يكن متيسرا قط في عهود ماضية). وبإمكان التجار أن يبعثوا بكميات ضخمة من أموالهم وبضائعهم القيمة إلى مختلف أصقاع السودان بأمان نسبي عبر الصَحَارَى والوهاد والجبال والأنهار الغزيرة، ومرورا بمناطق تقطنها قبائل جُبِلَ أفرادها على نهب وسلب الأفراد والقوافل التي تمر بمناطقهم. وكان ذلك من أسباب ركود التجارة وحركة الأهالي في تلك المناطق. وكان مجرد ذكر اسم "الإدارة" أو "الحكومة" يثير في نفوس الأهالي الرعب في العهود الماضية، غير أن ذكر ذلك هذا الاسم يثير في نفوسهم الآن مشاعر الاحترام. وهذا مما سهل فتح طرق التجارة الداخلية بين مناطق السودان المختلفة، وجعل بإمكان الرجل أن يسافر من غير سلاح من أقصى الشمال إلى أبعد نقطة في الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، عبر الطرق المعتادة، من غير خوف أو خشية على أمنه الشخصي. وبالإضافة لتلك الميزة التي لا تقدر بثمن (وهي ميزة لا تستطيع إلا حكومة متيقظة ومقتدرة توفيرها والحفاظ عليها) فقد أدخل العهد الحالي أيضا القطارات السريعة لحمل لركاب ونقل البضائع (خاصة تلك القابلة للتلف) عوضا عن الحمل والنقل على الإبل كما كان في السابق. وأدخل أيضا خدمات البريد والبرق والهاتف، الذي اختصر الوقت وقرب المسافات كثيرا. ويعيش الآن السوداني أو الأجنبي في راحة وأمن تام في مدن منظمة، تحرسها الشرطة، وينعم بالحرية لنفسه وأفراد عائلته في مناطق لم يكن يجرؤ على مجرد التفكير في جلبهم لها. نعم، يتمتع السودانيون بكل تلك المزايا. غير أن تلك المزايا لا تترك إلا أقل الآثار على عقولهم الكَسُولة التي لا تقدر قيمة ما قدم لهم، ولا يرون فيما نعموا به حديثا إلا أشياءً عادية، مثلها مثل شروق الشمس وغروبها كل يوم. (كتاب ذلك الزمان كانوا لا يكتمون عنصريتهم، ولا يأبهون لمشاعر "الأهالي" أو للياقة السياسية political correctness. المترجم) وما الذي يُتوقع منهم في باب المساهمة أو "التضحية" (كما يفضلون تسميتها) في مقابل تلك المزايا والمنافع الجماعية العديدة؟ وما هو نصيبهم في تحمل مسؤولية إدارة بلاد واسعة مترامية الأطراف وقاسية المناخ كالسودان أُنقذ منذ سنوات قليلة فقط من وحشية فظيعة وتَخْرِيب شامل؟ لا يتوقع منهم سوى دفع ضريبة على ما يكسبونه الآن (بسهولة) من مال بنسب معلومة ليغطي ما تنفقه الحكومة سنويا لتسيير أعمال الدولة. وما هو مطلوب من أي فرد من الأهالي الآن مطلوب من أي مواطن في أي دولة، وذلك ليساعد - وليس ليعارض بعناد – الإدارة في حفاظها على النظام في داخل حدودها. لقد قيل في بعض الأحايين أن عبء الضرائب الآن في المناطق الحضرية بالبلاد كبير جدا، غير أنه من الظلم أن يوصف بأنه أثقل مما يحتمله المواطن. ويصح أيضا قول من زعم بأن هنالك تباطؤا عند المسؤولين في إدخال وتطبيق إصلاحات (إدارية)، وأن الإجراءات الروتينية الكثيرة التي تطبقها المراكز تؤخر أو تعطل المجهودات والمبادرات التي يقوم بها المسؤولون في المديريات. وكانت السيطرة المفرطة التي تفرضها السلطة المركزية تقيد كل أبواب الصرف في المديريات، وتثير غضب المسؤولين فيها. بل إن الاستثناءات القليلة التي قد تمنحها السلطة المركزية – لسبب ما - لبعض الأقاليم دون غيرها في قليل من أبواب الصرف تثير الشكوى والاحتجاج من الأقاليم التي لم تمنح تلك الاستثناءات. غيره أنه يجب القول بأنه ما إدارة مثالية في هذا العالم، ولا تخلو أي جهود بشرية من هنات أو أخطاء. وليس هناك من سبيل لإرضاء كل الناس، أو معظمهم (خاصة في بلد غير متجانس الأعراق مثل السودان). وغاية ما يمكن لحكام (مثل حكام بلد كالسودان) أن يفعلوه هو أن يحكموا بعدل وأمانة بالقدر المتاح تحت ظروف البلاد وقدراتها الحقيقية وامكانياتها التي تجدها تحت أيديها. وهذا ما يحدث في السودان الآن ويقر به المنصفون من النقاد. والدليل على ذلك هو مقارنة أحوال السودان الاقتصادية منذ مجيء الحكومة الإنجليزية – المصرية في سبتمبر 1898م بحاله في العهد السابق، حيث سادت فوضى كاسحة لا أمل معها في أي تقدم أو نماء. ويجب أن نضيف هنا أن أشد منتقدي حكومة السودان قسوةً عليها هم زمرة عالية الأصوات (المزعجة) من الأجانب المقيمين مؤقتا بالبلاد، مع قليل من الأهالي العُنُد الذين لا يُرجى ارضائهم. ويصدق هنا عليهم المقولة الإيرلندية: "ضد الحكومة agin the government"، التي يكررونها دوما ضد كل أطراف السلطة الحكام. وتم بسبب قيام الحرب (العالمية الأولى) طرد غالب هؤلاء الأجانب غير المرغوب في وجودهم من البلاد، ومن المستبعد أن يسمح لهم بالعودة مجددا. وكان عزم السلطات المسؤولة على أن ألا يٌحكم السودان مجددا - بعد إعادته لمصر – كما كانت تُحكم مصر يُعد بمثابة "خلاص salvation" له. ولم تقم بالسودان، كما حدث في مناطق أخرى، محاكم قنصلية (consular courts) ولا محاكم مختلطة (mixed tribunals) ولا امتيازات مالية (capitulations) كريهة تزعم لنفسها حقوقا وامتيازات خاصة (للبريطانيين في السودان)، واستثناءات من الالتزامات المعتادة ومن الظلم والانتهاكات. ووضح أن نظام الإدارة الذي طبق على المديريات (السودانية) التي تمت استعادتها، والذي اتفقت عليه الحكومة البريطانية وحكومة خديوي مصر في 19 يناير من عام 1899م كان أفضل نظام يمكن التوافق عليه. وكان عبقري الإدارة لورد ساليسبوري هو من صمم تلك المعاهدة بالاشتراك مع لورد كرومر، الذي حصل على خبرات شخصية واسعة عن مصر والسودان. وحرص الرجلان على ألا يدخلا في تلك المعاهدة أي بند يمكن أن يُعد معاديا ل السودان، أو يفضي لاحتكاك بينهم وبين الأجانب القاطنين بالبلاد. لقد أعطت معاهدة 19 يناير من عام 1899م مهمة إدارة السودان لحاكم عام، ترشحه بريطانيا ويُعين بفرمان سلطاني، ولا يمكن عزله إلا بفرمان سلطاني وبموافقة البريطانيين. وبالإضافة لذلك، حرص البريطانيون على أن يكون السودان حرا تماما من أي تدخلات مصرية، وذلك بمنعهم تطبيق أي قانون أو مرسوم أو أوامر وزارية مصرية في السودان دون موافقة الحاكم العام (البريطاني). وكان الحاكم العام (الحكمدار) بالسودان منذ عام 1825م / 1240 هـ من المصريين أو الأتراك. وكان كل واحد من هؤلاء قد حكم لفترة قصيرة (12 شهرا في المتوسط)، ما عدا علي خورشيد باشا، الذي امتد حكمه لثلاثة عشر عاما (1826 – 1839م). وكان أول حاكم عام بريطاني للسودان هو الجنرال شارلس جورج غردون، الذي تسنم ذلك المنصب لثلاثة وأربعين شهرا فقط (كانت فترته الأولى بين فبراير 1877 إلى ديسمبر 1879م، والثانية من فبراير 1884 إلى يناير 1885م) ومات غردون مقتولا أمام مقر إقامته وعمله. وفي غضون الثلاثة عشر عاما التي أعقبت مقتله حكم البلاد المهدويون. ثم تولى بعدهم جنرال بريطاني آخر (لورد كتشنر) حكم السودان، إضافة لمنصبه كسردار للجيش المصري. ومن المفيد أن نعود إلى التعليقات التي خطها غردون في يومياته فيما يتعلق بتعيين الجنرال كتشنر كحاكم عام للسودان. فقبل خمسة عشر عاما قبل حدوث ذلك التعيين كتب غردون ما نصه: "إن قبل كتشنر بالمجيء إلى هنا، فسيكون أفضل رجل يتبوأ منصب الحاكم العام". وعندما تم تعيين كتشنر في منصب "وكيل بريطانيا بمصر، أو مفوضها الأعلى بمصر"، سار على نهج سلفه اللورد كرومر في ترك حاكم عام السودان يتصرف بحسب ما يراه مناسبا، ودون تدخل منه. وكان ذلك نهجا حكيما وسديدا، ويؤكد على أنه يمتلك كل مؤهلات رجل الدولة. وكان مفوض بريطانيا الأعلى بمصر الحق - قانونا - في الاشراف على عمل الحاكم العام. غير أنه كان يمتنع – بحكمة – عن استخدام ذلك الحق القانوني، ويكتفي بتقديم "اقتراحات" للحاكم العام، له أن يأخذ بها أو يرفضها. وكان هدف اللورد كتشنر وسير ريجلاند وينجت منذ بداية الحكم الثنائي هو العمل على قيام حكم لامركزي لأقصى حد بالسودان، وأن يتركا للمسؤولين في المركز أو المدينة المعينة السيطرة على مناطقهم، واتخاذ ما يرونه مناسبا في أمور الإدارة المحلية. ويتبع الحاكم العام الحالي (سير لي استاك) نفس ذلك النهج وذات السياسة الحكيمة. وكانت الإدارة المركزية تتكون من الحاكم العام ومجلسه ومديري المديريات. وكان الحاكم العام وأعضاء مجلس الحاكم العام يقيمون بالعاصمة (الخرطوم) ويشرفون على مختلف الشؤون في كل مديريات السودان. وقبل الحرب (العالمية الأولى) لم يكن هنالك بالسودان أي مسؤول يتلقى راتبا سنويا يفوق 1500 جنيها استرلينيا (وهو راتب الحاكم العام). غير أن الحاكم العام كان يتلقى راتبا إضافيا عن عمله كسردار للجيش المصري. ومع ارتفاع تكاليف المعيشة تمت زيادة مرتبات المسؤولين زيادة كبيرة. وكان يساعد الحاكم العام في إدارة شؤون البلاد مجلس مكون من السكرتير الإداري والسكرتير المالي والسكرتير القضائي، ومدير المخابرات، والمدير الطبي، ومديري مصالح السكة حديد والوابورات والزراعة والبريد والبرق والأشغال والجمارك والمعارف. كان إسماعيل خديوي مصر هو من أدخل في عام 1871م إصلاحات إدارية بالسودان قضت بتقسيمه إداريا إلى مديريات، يدير كل مديرية منها – باستقلال كبير - مدير يكون مسؤولا عن شؤونها المختلفة، وليس مجرد ممثل للحاكم العام. ولا يضطر مدير المديرية للسفر إلى الخرطوم (التي تبعد مسيرة أيام وأحيانا أسابيع) ليتلقى بالحاكم العام، فهو مستقل عنه – فعليا – في إدارة شؤون مديريته. وتم في العهد الحالي تقسيم السودان إداريا إلى خمسة عشر مديرية هي: دنقلا ودارفور وبربر والخرطوم وكسلا وسنار وكردفان وبحر الغزال وأعالي النيل (في المرتبة الأولى)، وحلفا والبحر الأحمر والنيل الأزرق ومنقلا والنيل الأبيض وجبال النوبة (في المرتبة الثانية). وكانت المسؤوليات والمهام الملقاة على عاتق الحاكم العام كبيرة ومتنوعة ومتعددة. وبدت تلك المسؤوليات والمهام عويصة شديدة العسر أمام الحكومة الجديدة، بل لا أمل في القيام بحقها. أما الان، وبعد مرور عقدين من الزمان وتراكم خبرات متنوعة، غدت المشاكل التي يجب حلها تبدو أقل عسرا مع مرور الأيام. ورغم أن عبء المسؤوليات ظل ثقيلا، إلا أن تطبيق لامركزية الحكم الآن ساهم في تخفيف عبء الحكومة، الذي كان في السابق يدار من العاصمة وحدها. وكان الحاكم العام قد قام، منذ سنوات مضت بتفويض جزء كبير من الأعمال التي كان يقوم بها (مثل دراسة تفاصيل المشروعات المقترحة) إلى مجالس (أو هيئات) دائمة متنوعة ليتولى أعضائها تقديم المشورة والتوصيات له بشأنها. وهذه أمثلة لتلك المجالس: 1 / المجلس الاقتصادي المركزي، الذي أنشأ في عام 1906م، ومهام رئيس وأمين هذا المجلس مهام استشارية بحتة، وليست تنفيذية. 2/ لجنة اختيار الخدمة المدنية، وتتكون من مسؤولين من حكومتي السودان ومصر كانوا من قبل يشكلون معا لجنة تنعقد سنويا في لندن لاختيار موظفي الخدمة المدنية. ولا يأتي هؤلاء للسودان، إذ أنهم يقيمون في القاهرة أو لندن. 3/ مجلس الأمناء: ويقوم أعضاء هذا المجلس بدراسة كل ما يتعلق بمرسوم المعاشات. 4/ مكتب المعلومات التجارية: ويعمل هذا المكتب بتنسيق مع المجلس الاقتصادي المركزي (الذي سبق ذكره أعلاه). 5/ مجلس تحسينات ومخصصات مدينة الخرطوم: وهو مجلس يضم رؤساء المصالح المختلفة، ومهمتهم هي دراسة توزيع وبناء المباني على الأراضي الحكومية – وهذه تشمل عمليا كل الأراضي بمديرية الخرطوم – وتشييد الطرق الجديدة بالمدينة، وأي أمور أخرى تتعلق بتحسين وتجميل المدينة. وبالإضافة لتلك المجالس الخمسة: كان هنالك أيضا ستة مجالس أو مكاتب هي: مجلس متحف الخرطوم، ومكتب العمل، والمجلس الدائم للترقيات، وهيئة الأنهار، ومجلس الصحة الأعلى، ولجنة كبح تجارة الرقيق. وتم إحداث تغييرات في طبيعة وأهداف نطاق عمل الإدارة بالسودان. فقبل سنوات قليلة فقط تحول السودان من حالة تسودها البربرية، لذا فإن الحاجة (بعد "استعادة" السودان) كانت في المقام الأول هي لقيام حكومة جيدة، أكثر منها حكومة وطنية. وتم التغاضي مؤقتا عما تفرضه الحضارة الغربية وما تفضي إليه المشاكل الاجتماعية، وتم التركيز، عوضا عن ذلك، في أمور مثل محاربة الرق، ولكن من دون إثارة أو تهييج للأهالي الذين كان كثير منهم قد اعتادوا على تملك الرقيق منذ أزمان بعيدة، وكانوا يمارسون تلك التجارة البغيضة تحت سمع وبصر – بل تشجيع – الحكومة المصرية. غير أنه كان على الحكومة أيضا أن تأخذ حِذْرَها من عودة ظهور حركات دينية متعصبة، وأن تنشغل في ذات الوقت بحل الصعوبات المادية الكبيرة في إدارة بلاد تعادل مساحتها ضعفي مساحة فرنسا وألمانيا مجتمعةً، وتشمل أراضيها صحارى ومستنقعات وغابات. أما الآن فالوضع مختلف جدا. فكل مديرية غدت دولة صغيرة شبه مستقلةً ضمن نطاق دولة واحدة (imperium in imperio) يحكمها مدير بريطاني يعينه الحاكم العام، ويعاونه عدد من المفتشين البريطانيين الأَكْفَاء، مع مساعدي المفتشين المصريين. وتم التغلب نهائيا تقريبا على تباعد المسافات بإدخال خدمات ممتازة لوسائل اتصال حديثة شملت البريد والبرق والهاتف، ومدت آلاف الأميال من خطوط السكة حديد، وكُونت حاميات عسكرية من جنود سودانيين. وفوق كل هذا وذاك، نمت الحكومة شعورا بالثقة بينها وبين تحكمهم، وظهر ذلك التأثير المعنوي بوضوح في رفاه الناس. ومكن تحسن الأحوال بالبلاد الحكومة من أن تلتفت إلى كان مؤجلا في قائمة مهامها، مثل التوسع في التعليم والتقدم الاجتماعي لأفراد المجتمع، وإيجاد طرق أفضل للإدخال إدارة أهلية فعالة، ونظام للضرائب أكثر عدلا، وإصلاح الأحوال الصحية بالبلاد، أي باختصار: تحسين أحوال وطرق عيش الأهالي. وبعد أن أزيلت غالب العوائق المادية الباكرة أمام حركة التطور بالبلاد، غدا الطريق معبدا لإحداث تغييرات إدارية وعدلية ومالية تناسب احتياجات الأهالي البدائيين، الذين تتولى الحكومة رعاية مصالحهم وكل ما له صلة برفاههم. ومنذ الأيام الأولى لتكوين حكومة السودان كحكومة منفصلة ومسؤولة، عملت الحكومة على ضمان أن يكون من يعين في إدارتها بعيد كل البعد عن العجز (عن أداء مهمته الرسمية)، وعن المحسوبية والتسلط. وقد يصعب أي حكومة حديثة (في هذا العالم) أن توفي تماما مثل تلك الشروط. لقد كان الالتحاق بخدمة حكومة السودان أمر مرغوبا بشدة، خاصة عند الجيل الصاعد في بريطانيا، ويعد ميزة عظيمة لمن يحظى به. وهذا مما جعل عدد المتقدمين للالتحاق بخدمة حكومة السودان العسكرية والمدنية يفوق الطلب الفعلي. ورغم ذلك فشروط الالتحاق لم تكن ليست سهلة، بل قد تُعد في بعض الأحايين شديدة الصرامة، خاصة فيما يتعلق بالإجادة للغة الأهالي العربية. لذا ليس من المستغرب أن ترفض الحكومة تعيين متقدم كفء ومؤهل ولكنه لا يوفي شرط تعلم تلك اللغة. وكان المترشحون لتلك الوظائف من خريجي أعرق المؤسسات التعليمية ببريطانيا مثل جامعات أكسفورد وكمبردج ولندن وأدنبرا وكلية ترنيتي بدبلن. ورغم أن التوصيات بتعيين شخص معين من أشخاص يعرفونه كان أمرا مقبولا، إلا أنه لم تكن لمثل تلك التوصيات أي أهمية في تحديد صلاحية المتقدم للوظيفة، مهما علا شأن الموصي سياسيا أو اجتماعيا، ويمكن لمن لا يجد من يرشحه أو يوصي عليه أن يظفر بالوظيفة التي تقدم لها إن استوفى شروط التعيين. لذا فقد تميز التعيين في خدمة الحكومة السودانية بالنزاهة والكفاءة والصرامة. وكان الاختيار للتعيين يتم في كل مصالح الحكومة – العسكرية والمدنية – بناءً على نتائج الفحص الطبي وقدرات المتقدم، وعلى كسبه الأكاديمي وأخلاقه غير ذلك. ويرسب بالطبع الكثير من المتقدمين للتعيين في خدمة حكومة السودان لأسباب موضوعية لا تمت بصلة إلى دين المتقدم أو مذهبه أو اتجاهه السياسي. وتقوم لجان مختصة بتحديد المقبولين من بين الذين تقدموا لشغل الوظائف المعلنة. وكان عدد المتقدمين لها يعادل أربعة أضعاف العدد الذي يقبل فعلا. وعقب الموافقة المبدئية لقبول شخص ما، يطالب المتقدم بإجراء فحص طبي شامل عند لجنة طبية مقرها لندن لتحديد مدى صلاحيته البدنية للعمل في السودان. ويعقب ذلك اختبار للغة العربية. وبعد النجاح في هذه الاختبارات واجتياز المقابلة الأولى ينبغي على المرشح للوظيفة إجراء مقابلة "نهائية" مع لجنة تعيين تنعقد في لندن في أغسطس من كل عام. وعند موافقة تلك اللجنة على تعيينه بصورة نهائية، يخير المتقدم بين العمل في مصر أو السودان، ويوضع اسمه - بصورة نهائية غير قابلة للتعديل لاحقا - في قائمة السودان أو مصر بحسب رغبته. ويمكن للمتقدم أن يترك للجنة حرية اختيار أي من البلدين مقرا لعمله. غير أنه يمكن لصغار الموظفين أن يطلبوا نقلهم من بلد آخر بعد سنوات قليلة من العمل. ويُطلب من الذي تم قبول طلبه للعمل (بحكومتي السودان أو مصر) أن يقضي سنة كاملة تحت الاختبار في جامعة كمبردج أو أكسفورد لتحسين لغته العربية. ويتكفل الموظف (تحت الاختبار) بمصاريف تلك السنة الدراسية. ويتلقى بالإضافة للعربية دروسا في "الإسعافات الأولية"، وأساسيات علم المساحة، والمحاسبة (مسك الدفاتر) وعلم الأنثروبولوجيا، وأي علوم أخرى ترى لجنة التعيينات ضرورة دراستها، وذلك بالتنسيق مع الجامعتين المذكورتين. كذلك ينبغي أن يبدأ الموظف (تحت الاختبار) في تعلم ركوب الخيل على الفور، إن لم يسبق له ممارسة تلك الرياضة. وفي ختام ذلك العام يجلس ذلك الموظف لامتحان في اللغة العربية، ويتم تسكينه في وظيفة تتناسب درجتها مع مدى معرفته بتلك اللغة. ثم يتم فحصه طبيا مرة أخرى قبل أن تجتمع لجنة التعيين في لندن لتحدد إن كان ذلك (الموظف تحت التمرين) يصلح للعمل في خدمة حكومتي السودان أو مصر أم لا. لقد كانت "روح الفريق esprit de corps" عالية جدا عند أولئك الشباب الموظفين (تحت الاختبار)، وكانوا لا يكتفون بمجرد النجاح العادي في كل اختباراتهم، بل كانوا يتنافسون للنجاح بدرجة الشرف. ولم يكن مرد ذلك المكافأة المالية (مئة جنيه إسترليني) التي كانت تمنح لمن يحرز درجات عالية في مقرر اللغة العربية المتقدم. وكان معدل النجاح في ذلك المقرر، على وجه العموم، متدنيا، إذ لم يحصل على درجات عالية فيه إلى الآن سوى أربعة موظفين، أحدهم هو مدير مديرية النيل الأزرق الحالي، السيد جي. أي. اليس. (لمزيد من طرق اختيار الإداريين للعمل بالسودان يمكن النظر في مقال مترجم بعنوان: "كيف كان البريطانيون يختارون الأطباء للعمل بالسودان". وما جاء في كتاب المهندس السوداني محمد النجومي المعنون: "وصايا عظيمة"، عن أمر اختيار البريطانيين للعمل في "إدارة السودان السياسة": " كان طيب المولد والأخلاق الحسنة أهم بالنسبة للجان التعيين من الذكاء المفرط. وكانت تلك اللجان تعد أن الصرامة الأخلاقية والتميز في الرياضة البدنية يحملان نفس أهمية التفوق الأكاديمي. وبالطبع تعد المؤهلات التعليمية من الأمور المفروغ منها، ولا تختار من لا يكون رائدا متميزا وسط أقرانه من الخريجين. وبهذه الطريقة البالغة الصارمة لم يختر قط للعمل بالسودان سوى صفوة خريجي الجامعات البريطانية من أبناء العائلات البريطانية. ولم يسبق لقطر في هذا العالم أن اجتمعت على أرضه مجموعة طيبة من أمثال أولئك الموظفين لأداء عمل واحد مثلما حدث في السودان." المترجم). وأعرف شخصيا أن الكثير من الموظفين الصغار كانوا يقضون غالب أوقات عطلاتهم – وهم مسرورين - في منازلهم لتحسين مستواهم في اللغة العربية.، التي تعلموها في مدارس اللغات، أو بحضور محاضرات في اللغة والقانون بالكلية. ومع مثل تلك الروح العالية عند أولئك الشباب ليس من المستغرب الفخر الكبير الذي تحس به قيادات الإدارة بالبلاد لما معهم من موظفين جديد يخدمون بإخلاص في البلاد. وكان من لا يسعده الحظ بالقبول في خدمة حكومة السودان يعزى بخطاب رسمي يفيد بأن عدم نجاحه في القبول لا يعني أنه ليس كفؤا للخدمة، بل بسبب أن لجنة الاختيار كانت لديها معايير أعلى للاختيار، وكان عدد المتقدمين كبيرا، وكان من المنطقي ألا تختار إلا قلة قليلة منهم. وكانت فترة التعيين للموظف لأول مرة لا تزيد عن عامين، تعد بمثابة "فترة اختبار" للموظف. وإن ثبت أن الموظف المرشح (وهو بالفعل ما يزال "مرشحا") لم يعد مناسبا للخدمة، بسبب المرض أو أي سبب آخر، فيمكن إيقافه من الخدمة بعد تسليمه إنذارا قبل شهرين. ويمنح المفصول تذكرة سفر مجانية لبريطانيا (إن أراد الرجوع إليها)، مع مكافأة تعادل مرتب نصف شهر. وكل هذا مكتوب في البند رقم 33 من "شروط الخدمة في حكومة السودان"، الذي يوقع عليه الموظف الجديد عند بدء إجراءات تعيينه. وتضمن تلك الشروط العدالة للموظف الذي يفصل من عمله. وكان عدد الذين تم فصلهم من الخدمة قليل جدا، وهذا مما يؤكد أهمية ودقة ونجاح إجراءات التعيين الطويلة التي كانت تجرى قبل قبول المرشحين للعمل في خدمة حكومة السودان. وكان يحق لكل موظف زيادة مالية في راتبه كل عامين، وهو في نفس درجته الوظيفية. وقد يحصل على ترقية بعد ثلاثة أعوام من الخدمة الممتازة، وترقية أخرى لوظيفة أعلى بعد عامين. وتعتمد تلك الترقيات على النجاح في امتحانين في مادتي القانون واللغة العربية. ولا يعتد بطول فترة الخدمة عند النظر في أمر ترقية موظف أو منحه علاوة مالية. فمنح العلاوة والترقية يعتمد على كفاءة وحماس وطريقة عمل الموظف، مع وجود وظائف شاغرة بالفعل، بالطبع. وحقاً ليس هنالك أفضل من خدمة حكومة السودان في اختيار الموظف الأفضل. وكانت الحكومة سخية في إعطاء مرتبات مجزية لموظفيها، وكذلك في منحهم بدلات ترحيل ونقل، تزاد لمن يعمل في "مناطق الشدة". ويعطون أيضا مقابلا ماليا لرعاية وعلف دوابهم، واستئجار الجمال أو الخيول، وغير ذلك من المنصرفات الصغيرة. وكان من يختار العمل في مصر (حيث الحياة أفضل منها في السودان) يعطي راتبا يقل بنسبة 10% عن رصيفه الذي يقبل بالعمل في السودان. ووجدت الحكومة نفسها مضطرة لإيقاف التعيينات الجديدة وعلاوات وترقيات موظفيها في عام 1916م بسبب الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب (العالمية الأولى). غير أن الأحوال عادت الآن لما كانت عليه بعد انتهاء الحرب. ولا شك أن هنالك بعض المآخذ على خدمة وإدارة حكومة السودان، كما هو موجود في أي مكان في العالم. غير أني أرى أنها واحدة من بين أفضل الإدارات، وهي تستقطب أفضل عناصر الشباب البريطاني المتعلم المكافح من الخريجين الجدد، رغم انعدام مزايا الحياة المريحة والمال الوفير في تلك الوظائف. ولا شك أن الواحد من هؤلاء الشباب كان يرغب بالفعل في أن يصنع لنفسه اسما في هذا البلد. ولا ريب أيضا أن كل من يدرك أحوال السودان يعلم أن العمل فيه يجذب البريطاني لموافقته طبيعة البريطاني التي تميل إلى العمل الجاد وتحمل المسؤولية، ومجابهة الصعاب والأخطار/ والوحدة (أحيانا). ويتضح هذا الحب للعمل بالسودان عندما تحين ساعة فراقه بعد نهاية فترة الخدمة، حين يسعى بعضهم لمد فترة عمله به.