“الإنقاذ” من المفاصلة إلى المفارقة

 


 

 



الآن وقد انقضت عِدة الدهشة التي عقدت ألسنة الجميع وغفل عن توقعها أساطين المحللين وحار أولو الألباب في تتبع مغازيها, دعونا ننصرف لتحليل ما وراء تجليات التطورات السياسية الراهنة ولقراءة فاحصة لمنطقها ودينامياتها الموضوعية كما تجري بالفعل, وليس كما يتمناها البعض, ومعلوم أن القدرة لبقاء أي نظام على قيد الحياة بغض النظر عن طبيعته هي في نهاية الأمر محصلة توازنات قوى الفاعلين في اللعبة السياسية داخلياً وخارجياً, وليس لأي سبب آخر.
ومن الخفة بمكان أن يتفاعل المهتمون في الساحة السياسية السودانية بأطرافها المختلفة, أو بعضهم على الأقل, بقدر من الاستخفاف تهويناً من شأن التغييرات الجراحية العميقة البالغة الأهمية التي أجراها النظام الحاكم في تركيبته القيادية, ويصنفونها في باب تحصيل الحاصل, ويعفون أنفسهم من إمعان النظر في منطقها,ودلالاتها ودراسة تبعاتها وتداعياتها على مستقبل الأوضاع في البلاد.
وما من شئ أطال عمر النظام الحالي حتى فاق في طول عهده الذي يشارف ربع القرن من الزمان غيره من الأنظمة التي مرت على البلاد في عهد الحكم الوطني, أكثر من التعامل باستخفاف مع مقدراته الذاتية في الصمود ممسكاً بركائز السلطة وسط أمواج متلاطمة, فمن الشهرين التي توقع خصومه المعارضين ألا يتعداها في دست الحكم ها هو يقترب من عامه الخامسة والعشرين, ونحن هنا نتعامل مع تحليل حقيقة سياسية واقعة ولسنا في هذه اللحظة في معرض محاكمته أخلاقياً بشأن السبل التي استخدمها لضمان استدامة حكمه فتلك قصة أخرى, والسؤال لماذا استطال عمر "الإنقاذ"؟, فالاكتفاء بلعن الظلام لن يبدده وإن استمر اللعن إلى الأبد, لكن إيقاد شمعة يكفي لفتح كوة وإنارة مساحة تزداد بإيقاد شمعات أخرى حتى يتبدد نهائياً.
والحال هذه فإن النظام استفاد من استخفاف المعارضة بشأنه في الانصراف إلى بناء قوته الذاتية وتمكين نفسه في وقت لم تهتم هي الأخرى بتقوية وتطويرات قدراتها الذاتية لتكافئ قواه لتحدث التوازن المطلوب الذي يمكن أن يفضي إلى تغيير المعادلة السياسية, وبذلك فإن النظام اقتات على ضعف المعارضة بأطيافها كافة بأكثر مما حاولت هي ترجمة قناعتها بضعفه واستخفافها بقوته وقدراته في النهوض بنفسها.
ومما لا يمكن إنكاره أن أحد الأسباب الرئيسية لاستطالة عمر الانقاذ قدرته الفائقة على التكيف مع المخاطر التي طالما هددت وجوده, وتمتعه بمرونة كبيرة في التجاوب مع استحقاقات الصراع من أجل البقاء, والاستعداد لدفع أثمان باهظة أحياناً في سبيل ضمان الاحتفاظ بقدرته على المناورة, ولذلك فإن "الإنقلابات داخل الإنقلاب" ظلت ممارسة حاضرة دائماً عند الضرورة في السيرة الإنقاذية.
وهي على أية حال نوع من المرونة والقدرة على المناورة في أوقات الشدة, والتشكيلة الحكومية الجديدة بكل مفاجأته المذهلة التي أنهت حقبة كاملة في غمضة عين وانتباهتها ليست في الحقيقة سوى التجلي الأخير لذلك الافتراض, القدرة على تجديد مكامن القوة الذاتية عند اللزوم وهو وصفة أثبتت فعاليتها, فهي تشكل بلا شك نقطة تحول مهمة باتجاه مرحلة جديدة بالكامل في عمر السلطة الحاكمة نطلق عليها ما يمكن أن نصفه ب"النسخة الرابعة", أو الجيل الرابع للنظام الإنقاذي.
كانت النسخة الأولى هي العشرية الأولى (1989 – 1999) التي ساد فيها إلى حد ما القيادة الجماعية للحركة الإسلامية, صاحبة الإنقلاب, بشقيها المدني والعسكري بزعامة الشيخ حسن الترابي, والتي انتهت بالمفاصلة الشهيرة بخروج الشيخ وشيعته من النظام على خلفية التنازع مع المكون العسكري للنظام بقيادة الرئيس عمر البشير متحالفاً مع بعض رموز الحركة الإسلامية المنشقين على شيخهم.
ولم يكن انتهاء الحقبة الأولى نتيجة للصراع على السلطة بين الفريقين, الشيخ وشيعته من جهة والبشير والمستنصرين به من تلاميذ الشيخ الترابي الخارجين عليه من جهة أخرى, فحسب بل كانت خطوة ضرورية أيضاً للخروج من مأزق العزلة السياسية في الساحة الدولية على الرغم من سياسية التوجه شرقاً التي لم تكن كافية, ولتخفيف التخندق على صعيد الساحة الداخلية,وأتاحت تلك المفاصلة جواً من الانفراج وإن كان محدوداً مع الدخول في النسخة الثانية من الإنقاذ في العام 2000م, زاد من خلالها وتيرة التواصل السياسي مع الولايات المتحدة لا سيما التعامل في ملف الحرب على الإرهاب, وتخفف السودان بعض الشئ من آثار عزلته العربية على خلفية تبعات حرب الخليج الثانية, وانفتح على مؤسسات التمويل العربية وتطبعت علاقاتها مع مؤسسات التمويل الدولية, وجاء تدفق النفط وتصديره بما لم يكن في الحسبان من انفراج في النمو الاقتصادي.
ولكن صيغة الجيل الثاني من الحكم الإنقاذي المنزوعة من رمزية الشيخ الترابي لم تكن وحدها كافية لضمان استدامة السلطة, الهدف الرئيسي للجماعة الحاكمة, وقد أتى التحدي من حسابات السياسة الداخلية وبالأخص توازن القوى مع متمردي الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان, الذي اعتبرته تقديرات حسابات النظام الداخلية الخطر الوحيد والرئيسي, بينما قللت من شأن المعارضة الشمالية لا سيما بعدما تضعضع التجمع الوطني الديمقراطي المعارض بخروج أحد أركانه بتوقيع حزب الأمة القومي بزعامة السيد الصادق المهدي على اتفاقية جيبوتي التي تزامنت مع نهاية الحقبة الانقاذية الأولى وخروج الترابي, ولعل المهدي كان يقدر أن تلك هي السانحة المناسبة لوراثة دوره ومكانته في النظام, وعاد المهدي للخرطوم متردداً بشأن المشاركة في السلطة حتى انشق عليه طائفة من قيادات حزبه بزعامة السيد مبارك المهدي وانخرطت في أجهزة الحكم لحين. ولذلك أسقط النظام المعارضة الشمالية من حساباته بعدما أفلح في بعثرة صفوفها, ووضع عينه على حليفها الدكتور جون قرنق.
كان تقدير الحكم الإنقاذي ان خطورة الحركة الشعبية بزعامة قرنق لا تأتي فقط من الصراع المسلح على الأرض في حرب سجال, ولكن من تأثيرات البعد الخارجي لتلك الحرب الأهلية التي استطالت وأصبحت مصدراً لقلق المجتمع الدولي لا سيما واشنطن, التي شرعت بالفعل في وصع خريطة طريقة لإنهاء الحرب, وهو ما من شأنه أن يعرقل جهود الخرطوم الساعية حينها بشدة لتطبيع علاقاتها الدولية وهي مهمة شبه مستحيلة في غياب حدوث تطبيع لعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا تحديداً دارت مفاوضات السلام الماراثونية بين الحكومة الانقاذية والحركة الشعبية برعاية دولية بقيادة ورقابة لصيقة من الإدارة الأمريكية ومبعوثيها المتلاحقين للسودان.
كان واضحاً أن تلك المفاوضات بصدد وضع أسس لنظام سياسي جديد بالكامل في السودان جرى فيه "سلخ جلد النملة" من كثرة التفاصيل الدقيقة التي فصلت اتفاق مجاكوس الإطاري للتسوية وكان الرهان يقوم على إمكانية الحفاظ على سودان موحد وفق تدابير اتفاقية السلام الشامل, وهو ما يعني عملياً إنهاء حقبة الحكم الإنقاذي بتسوية تاريخية تقوم على تأسيس نظام ديمقراطي تعددي يضمن مخاطبة مظالم الجنوب وكل الأطراف المهمشة, ولكن ذلك لم يتم بدون أن يأخذ جون قرنق ضمانات قاسية حرص عليها بشدة لتفادي خيبة اتفاقية أديس أبابا التي جلبت سلام حقبة نميري في العام 1972, ولكن كانت تلك الضمانات هي كعب أخيل الاتفاقية المبشرة بالوحدة, فقد أخذت باليسار ما أعطته باليمين, حيث وضعت بوعي أو بمكر أيضاً بذور تقسيم السودان.
وهكذا ولدت النسخة الثالثة للعهد الإنقاذي في العام 2005 بمشاركة خصمها اللدود الحركة الشعبية بزعامة قرنق لفترة انتقالية لست سنوات كان من المفترض أن تؤسس لنظام دستوري ديمقراطي يحقق تحولاً في اللعبة السياسية يوفر مشاركة الجميع على قدم المساواة لتكون الضمانة في نهايته باستفتاء يؤكد على وحدة البلاد ولكن تلك الترتيبات الدقيقة في بروتوكولات اتفاقية السلام ذهبت أدراج الرياح بسبب الصراع المبكر في معسكري المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على حد سواء, وفاقم من أواره الرحيل المفاجئ للزعيم قرنق ليختل مقود القيادة في أيدي شريكه في هندسة التسوية الأستاذعلي عثمان محمد طه.
لسنا هنا في معرض تقييم اتفاقية السلام, ولكن للإشارة إلى أن الصراع الداخلي الذي أطلقته لا سيما في معسكر المؤتمر الوطني ذو صلة وثيقة بالتطورات الدرامية المدهشة التي شهدتها الخرطوم هذا الأسبوع بمغادرة طه التي كانت بمثابة حجر الدومينو الركيزة الذي أدى تهاويه إلىتداعي الحجارة التي تليه كافة. ليس سراً أن صعود نجم طه إبان فترة المفاوضات ولمعان زعامته في أروقة السياسة الدولية, أثار قلق وريبة الكثيرين في الخرطوم وخشيتهم على مستقبلهم السياسي في ظل نظام جديد يُفترض أن تؤسس له تسوية نيفاشا, ولذلك بدأت الحرب مبكراً على الاتفافية التي اعتبرها الرئيس البشير نفسه أعظم إنجازات حكمه وعدها بمثابة الاستقلال الثاني للسودان, من داخل كواليس المنظومة الحاكمة واختلطت فيها الأجندة الشخصية المتنافسة مععرابها وطاقمه, مع حقيقة أن اتفاقية السلام كانت بمثابة الفرصة الحقيقية المتاحة لصناعة قواعد لعبة سياسية جديدة والتأسيس لنظام ديمقراطي يحقق الأمن والاستقرار والوحدة.
وفي خضم تلك المعركة الداخلية المستمرة الصامتة أحياناً والصاخبة في أوقات كثيرة, والتي عاجلتها حرب دارفور لتزيد الطين بلة, وجاءت أزمة المحكمة الجنائية الدولية التي طالت الرئيس لتزيد من الأوضاع في كابينة القيادة الإنقاذية تعقيداً, تحولت الفترة الانتقالية إلى ساحة صراع مستديم بين الشريكين, وفي داخل أروقة الطرفين, لتغفل عن مهمتها الأساسية ليصحو السودانيين على الحقيقة المرة بنهايتها بتقسيم البلاد.
ولم يتم ذلك بدون تبعات فادحة وتداعيات خطيرة سياسياً واقتصادياً وأمنياً ولم يكن ممكناً أن تمر بدون دفع ثمن باهظ للأخطاء القاتلة والغفلة الكاملة وسط الصراعات الداخلية اللاهية عن عواقب تفتيت وحدة البلاد دون تحسب لها, وهكذا توالدت الأزمات المستفحلة منذ فصل الجنوب حتى أضحت الحكومة على شفير الإفلاس, وبلغت معاناة المواطنين حداً غير مسبوق من العنت والرهق مع انعدام أية أفاق لرؤية سياسية للخروج من عنق الزجاجة, وانفجرت هبة سبتمبر لتزعزع مسلمات استقرار قبضة السلطة, صحيح أنها أحكمت السيطرة أمنياً على المشهد وأحاطت به ومنعته من التفاقم ولكن ذلك لم يكن كافياً ليمنع كرة الثلج المتدحجرة في داخله من أن تزداد حجماً, لقد كانت زلزلاً بمعنى الكلمة وما كان له ان يمر بلا توابع.
ومن رحم هذه التفاعلات المتداعية بداية من التنكر لاستحقاقات عملية السلام الفعلية لتأسيس نظام ديمقراطي تعددي والانشغال بتصفية الخلافات الداخلية في الحزب الحاكم, وتقسيم البلاد الذي لم يكن ممكناً تفاديه بلا تدابير متحسبة ومحسوبة, ثم العجز عن استدراك ذلك كله بإعاد ترتيب البيت من الداخل بعد لعق جراح التقسيم, وفشل محاولة إطلاق "الجمهورية الثانية" التي دعا لها طه عقب الانفصال, وإزدياد حدة الصراع الداخلي في الحزب الحاكم على خلفية إعلان الرئيس البشير عدم ترشحه مجدداً, والأهم من ذلك كله أيضاً ترهل أجهزة الحكم وضعف أداءها, وتوزعها جزراً معزولة, وتعدد مراكز القوى داخلها, أسهم ذلك كله في وضع مستقبل النظام على المحك.
ولئن جاءت مفاصلة العام 1999 صراعية حادة في لحظة مفصلية من عمر الانقاذ, جاءت مفارقة العام 2013 انسحابية ناعمة أيضاً في لحظة مفصلية من العصر الإنقاذي, وجاءت كلاهما تحمل ملامح بطلها فالترابي المصادم بطبعه أرادها مواجهة ساخنة قصد بها أن يضع حداً بين رهانه الخاسر على تحقيق مشروعه بانقلاب عسكري مفضلاً قطيعة علانية مع رموز النسخة الإنقاذية الأولى. ليعيد تقديم أوراقه للتاريخ مفكراً ومجدداً من جديد من منصة المناهض للديكتاتورية والداعي للحرية.
وجاءت مفارقة العام 2013 تحمل توقيع بطلها الأستاذ علي عثمان الشخصية السياسية الهادئة التي تفضل التحرك بحسابات دقيقة, على نحو انسحابي ناعم بفقه "إمساك معروف أو تسريح بإحسان", من الواضح أن حسابات طه انتهت به إلى إدراك أن سفينة النسخة الثالثة من الإنقاذ لم يعد بوسعها الإبحار أكثر في أعماق أمواج متلاطمة بحمولات إفرازات عملية السلام التي كان لها في بادئ امرها ككل نصر الكثير من الآباء, ولكن للمفارقة فإن الذين قعدوا بها أن تصل إلى مبتغاها تسللوا لوذا حين أضحت هزيمة لوحدة البلاد وكلفتها تبعاتها شططاً ليشيروا إليه باعتباره الأب الوحيد لعملية السلام المقبورة, وأصبح مطالباً ان يدفع دون غيره أوزار مرحلة بكاملها شاركوا فيها جميعاً, ويبدو وهذا هو الأدهى أنه بات مطالباً وحده بالمغادرة إلى موقع آخر قيل أنه البرلمان حسبما سربت إحدى الصحف قبل بضعة أشهر.
ولأنه رجل سياسة أدرك ان آوان الرحيل قد حان وأن التنحي سيكون قراره السليم في الوقت المناسب, ولكن بالطبع لن يرحله وحده بل يرحل معه جميع رجال المرحلة في سفينة الانقاذ في نسختها الثالثة, وهكذا كما أعلن الرئيس عمر البشير عشية مغادرة طه كان هو مهندس عملية التغيير شبه الكاملة لأبرز رموز المرحلة من المدنيين, وهي خريطة طريقة لقيت ارتياحاً كبيراً في الكابينة العسكرية تخلصهم من كل حمولات الفرقاء المدنيين المتنازعين دفعة واحدة, وتفتح الطريق أمام الجيل الرابع في النسخة التالية من الإنقاذ لتحاول اختيار مسار جديد, وما كان من سبيل إلا أن يبقى رموز الجناح العسكري المؤسس للنظام الإنقاذي الذين رافقوا كل نسخها الماضية, فعلى يد العسكريين بدأ الإسلاميون مغامرتهم في السلطة, وبين أيدي العسكريين أيضاً يترك رمزهم مستقبل ما تبقى من الحركة الإسلامية وما بقي من البلاد.
فإلى أين ستتجه لترسو سفينة الجيل الإنقاذي الرابع؟.



tigani60@hotmail.com

 

آراء