الاتفاق الإطاري.. ومستقبل التحوُّل الدِّيمُقرَاطي (2-4) .. تقديم: ماهر أبوجوخ
ماهر أبوجوخ
28 January, 2023
28 January, 2023
سيناريوهات تقود لتوازن “الضَّعف”
تقديم: ماهر أبوجوخ
دار الجالية السودانية
تورونتو- كندا
15 يناير 2023م
سيناريوهات المشهد
بالنظر لتلك المُعطيات، فإنَّ سيناريوهات المشهد وفقاً لتلك التركيبة كانت تشير لإمكانيَّة تطوُّر الأوضاع صوب أي من السيناريوهات التالية:
الأول: نجاح الإنقلاب في فرض نفسه كأمر واقع داخلياً وخارجياً
يقتضي تحقيق هذا السيناريو محدِّدات تتمثل في مقدرة الانقلاب على توسعة قاعدة قُبُوله السياسي والشعبي في ظل محافظته على تماسُكه الدَّاخلي وهذا ما كان يمكن تحقيقه بشكلٍ جُزئي من خلال إتفاق 21 نوفمبر “حمدوك/البُرهان”، إلَّا أنَّ فُقدان الإرادة لدى بعض أطراف الإنقلاب جعلهم فعلياً يختارون وضع العراقيل أمام حمدوك، ودفعه للاستقالة من موقعه، لفرض أمرهم الواقع. ومضت الأحداث بذات السيناريو المرسوم، لكنهم فشلوا في التقدُّم ولو خُطوة واحدة للأمام بسبب تنامي فشلهم السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، واستمرار حالة الرَّفض الشعبي لانقلابهم، والانحسار الشعبي، الذي يمكن أن نطلق عليه “كشفهم شعبياً وجماهيرياً”، فقام من هذا الواقع الاستعانة بعناصر النظام المُباد، وتسبَّب هذا الإجراء في تعزيز الرَّفض الشعبي، وزيادة المخاوف الإقليميَّة والدَّوليةَّ من تداعيات استمرار الإنقلاب ونتائجه المُتمثلة في إعادة إحياء النظام المُباد صاحب السِّجِلِّ الحافل والذاخر بالتورُّط في دعم عدم الاستقرار في المنطقة، ودعم الإرهاب والجرائم العابرة للحُدُود.
لم تقتصر أزمة الإنقلاب في فرض نفسه كأمرٍ واقع على الخارج، ومن ثمَّ تمدَّد هذا القُبُول على مستوى الدَّاخل، ولكن نتيجة تفاعُلاتٍ داخليَّة ذاتيَّة جرَّاء صراعات مُكوِّناته، فقد ذهب صوب التحلل والتفكُّك، ورويداً رويداً، ظهر جلياً أنَّ الخلافات داخل الإنقلاب دخلت في مرحلة خطيرة بإمكانيَّة حُدُوث صدامٍ مُباشر بين مُكوِّناته بسبب الاختلافات – بغضِّ النظر عن تفاصيلها – بين قُطبَيْهِ الأساسيين، البُرهان وحميدتي.
الثاني: إسقاط المقاومة للانقلاب وإحلال البديل المدني
يتأسَّس هذا السيناريو على مقدرة الحركة الجماهيرية على هزيمة الانقلاب وإجباره على التراجُع من خلال حركة جماهيريَّة واسعة، تنتظم كل أنحاء البلاد، ومن الضَّروري الإقرار والاعتراف بأنَّ مقاومة انقلاب 25 أكتوبر منذ فجر ذلك اليوم حتى هذه اللحظة غير مسبوقة في التاريخ السُّوداني الحديث، والتي لم تقتصر على الفعل الجماهيري الشَّعبي، ولكن تعدَّد بأشكالٍ مختلفة ومتعددة (عصيانٌ مدني، إغلاق البنوك والأسواق، والإضرابات والوقفات الاحتجاجيَّة) وغيرها.
تحقيق هذا السيناريو كان يستوجب توفر عدَّة عوامل مُجتمعة، وهي وحدة بين مُكونات المقاومة والثورة، والإتفاق على رُؤى مستقبليَّة وسندٌ إقليمي ودولي، ثمَّ انحياز أطرافٍ من القُوى المسلحة النظاميَّة واستجابتها لمطالب الجماهير بالتغيير السياسي، وبالتالي إجبارها أو إبعادها للقيادة العسكرية العُليا الحاكمة للبلاد من المشهد، كما حدث في أبريل 1985م وأبريل 2019م.
كما ذكرتُ في موضع سابق، فإنَّ حالة التصدُّعات والتشرذم وسط قُوى الثورة، وفقدان أي فرص أو بارقة أمل في وحدتها التنظيميَّة أو البرامجيَّة، أو التنسيق الميداني في ظل أجواء التربُّص والتخوين، قوَّض الدُّعامة الأساسيَّة لتحقيق هذا السيناريو، وهذا بدوره أنتج إرتباك إقليمي ودولي حيال مستقبل الأوضاع بالبلاد، أمَّا مسألة انحياز القُوَّات النظاميَّة، ونتيجة لأجواء الاستقطاب والاستقطاب المُضاد قبل 25 أكتوبر وسط تلك القُوَّات، وتعدُّد وجود الجُيُوش ومراكز قياداتها، كان يشير إلى أنَّ الإنحياز الجزئي في حال حُدُوثه يترتب عليه إندلاع حربٍ أو حُروبٍ مُسلحة بين أكثر من طرف، قابلة للتمدُّد والانتشار حسب حجم وعدد القُوَّات التي إتخذت قرار الإنحياز في مواجهة قُوَّات أخرى ترى ذلك الإنحياز تمرُّداً أو خيانة.
إذا في ظل التفتت وانعدام فرص الوحدة وتراجع فرضيات إنحياز أطراف من القوات النظامية دون أن يترتب على ذلك حدوث مواجهة مسلحة بحيث ينتهي الأمر بشكل سلس فإن هذا السيناريو كان فعلياً يبتعد رويداً رويداً وفق معطيات الواقع.
السيناريو الثالث: السلاح يحسم المعركة
هذا السيناريو يمكن حُدُوثه كنتيجة لفشل السيناريو الأوَّل وسط الإنقلابيين، أو السيناريو الثاني بالنسبة لقُوى الثورة المقاومة للإنقلاب، وفق افتراضين، أولهُما، نتيجة للصِّراع بين أطراف المكون الإنقلابي العسكري، خاصة الجيش والدعم السريع، في ما سيكون بقيَّة الأطراف المسلحة الموقعة على إتفاق جوبا للسَّلام عامل دعم لأي من الطرفين.
أما الافتراض الثاني، فينتج في حال اللجوء لهذا الخيار والسيناريو كردِّ فعلٍ وإحباط من تأخُّر وعدم حُدُوث عمليَّة الإنحياز من القُوَّات النظاميَّة، وتتزايد خُطوات هذا الإفتراض وجعله أمراً واقعاً في حال تزايُد وتيرة العُنف تجاه المُتظاهرين السلميين، وتزايُد الخسائر قتلاً، ومع حالة الإحباط والغضب، فإنَّ الثورة السلميَّة سيكون أمامها: إمَّا خيار الإقرار بالهزيمة، أو الانتقال لحمل السلاح لإعادة التوازُن في هذا الصراع، وقد يكون هذا التحوُّل متدرِّجاً في الانتقال من السلميَّة إلى العُنف، أو مباشراً باللجوء للسلاح لحسم المعركة، وبالتالي الانتقال لمرحلة الثورة المسلحة، ولعلَّ أبرز النماذج بالمنطقة التي تحوَّلت من ثوراتٍ سلميَّة بسبب العُنف لثوراتٍ مسلحة، هُما تجربتي سوريا وليبيا عام 2011م.
حدوث هذا السيناريو هو تطبيقٌ عملي لمقولة شمشون الجبَّار، وهُو يَهِدُّ المعبد على رأسه والجميع “عليَّ وعلى أعدائي”.. فالكل خاسرٌ فيه بكُل تأكيد، مع عدم إغفال التكلفة الانسانيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة وعدم إمكانيَّة التنبُّؤ بالميقات الزمني لتجاوز هذه الحالة التي ستختلف عن الحُروب السابقة التي شهدتها البلاد الحافلة بالحُروب قبل الإستقلال، لأنَّ اندلاع الحرب وفق هذا السيناريو لن يكون الأطراف كما حدث في تاريخ الحُروب الأهليَّة المسلحة السابقة بالبلاد، ولكن سيكون مركزها العاصمة نفسها، على عكس التجارب السابقة التي تأثرت بها العاصمة بشكلٍ غير مباشر– فيما عدا محاولتي الهُجُوم عليها في يوليو 1976م ومايو 2008م – نسبة لوجود الأطراف المتصارعة المسلحة داخلها، سواء من المُكونات العسكريَّة المُنخرطة في الانقلاب، أو الأطراف السلميَّة التي ستختار الانتقال لخانة العمل المُسلح.
من المهم أن ندرك أنَّ حجم الخسائر الحاليَّة لثورة ديسمبر 2018م، وحتى مقاومة الانقلاب، لم يتجاوز الألف شهيد، وهو كرقمٍ أحدث صدمة شديدة وسط السُّودانيات والسُّودانيين، فما بالهم إذا اندلعت الحرب الشاملة، فإنَّ الخسائر البشريَّة مُرشَّحة لتجاوُز عشرات الآلاف إذا لم يُقدَّر لها أن تبلُغ مئات الآلاف، وربما الملايين، حسب الحقبة الزمنية لامتداد هذه الحرب، بخلاف الآثار النفسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المترتبة على نوعيَّة مثل هذا الصراع.
السيناريو الرابع: الإنهيار التلقائي
ينتُج هذا السيناريو نتيجة لسُلوك الأطراف الفاعلة، الذي سيقود للإنهيار التلقائي للدولة كمُؤسَّسة تراكمت أزماتها الهيكليَّة، واختلطت بحالة عجزها الإقتصادي وشللها السياسي، التي تفاقمت بسبب ممارسة ثلاثة عُقودٍ من التمكين السياسي والحزبي، يُضافُ لذلك، انهاكها بمُؤسَّساتٍ موازية في شتى المجالات، خلقها النظام المُباد لتعزيز سيطرته وهيمنته على البلاد، ما أرهق خزينة البلاد وجعلت أولويَّة الصَّرف عليها، ولما كانت من المظاهر غير الصحيحة الواجب تصويبها، فإن هذا الأمر أنتج تراخي مُؤسَّسات الدَّولة الفعليَّة بشكلٍ جعلها غير قادرة على السيطرة بشكلٍ إجمالي، وقاد لإنحسار سُلطتها، ليس في أطراف البلاد، وإنما حتى في العاصمة نفسها.
يتفاقم ما ذُكر سابقاً نتيجة لواقع السُّلطة ومُؤسَّساتها عُزلتها الشعبيَّة بسبب الرَّفض السياسي لنظام حُكمها الناتج عن إنقلاب 25 أكتوبر، وصولاً لمرحلة مقاطعتها وحرمانها من عوائدها من ضرائب ورسوم وغيرها، وهو ما يقود لتراجُع دورها ومسئوليتها ونطاق سيطرتها وبدايتها في التحلل فعلياً.. الانهيار التدريجي وصولاً لاقتصار بسط السُّلطة في ما يُشبه “المنطقة الخضراء”، لتتضمَّن المواقع السياديَّة والوزارات، فيما تختفي وتتلاشى وتنحسر خارجها، ويصبح جُلَّ هَمِّ السُّلطة الحاكمة الدفاع وإحكام تحصينات منطقتها الخضراء.
غياب وجود السُّلطة المادي والمعنوي، الذي سيفاقمه تنامي القطيعة الشعبيَّة مع القُوَّات النظاميَّة بسبب معارك الكرِّ والفرِّ مع شعبها المُناهض للسُّلطة التي يُدافع عنها، وشيخوخة الخدمة المدنيَّة وانحسار المساهمة في الإنتاج، ثمَّ التراجُع الاقتصادي للدَّولة بسبب الضَّعف في تحصيل الرسوم والعائدات، وخروج الدولة من دائرة التأثير بمناطق الإنتاج سيُفضي إلى خلق أوضاع أكثر ارتباكاً للمُؤسَّسات العسكريَّة والمدنيَّة للدَّولة، وفي هذا الإطار، فإنَّ بعض مظاهر الفوضى المُصطنعة بغرض إرباك المشهد قد تجد نفسها جرَّاء الفراغ قد انتقلت فعلياً بحُكم هذه الظروف من مرحلة “الأداة” أو “الكومبارس” لتصبح بحُكم هذا الواقع هي فعلياً “الحاكم” أو “البطل والمُخرج والمُنتج”، ويشمل ذلك الظواهر السياسيَّة أو الإجراميَّة أو الاقتصاديَّة على حدٍ سواء، انطلاقاً من أن الطبيعة لا تقبل الفراغ.
بالنظر لجميع تلك المُعطيات، ومظاهرها التي باتت واضحة للعيان، ومع استصحاب تنامي العُزلة الشعبيَّة لمُؤسَّسات إنقلاب 25 أكتوبر، فإنَّ ملامح تحلل الدَّولة وتلاشي وجودها وسُلطتها بدأت ملامحه تظهر رُويداً رودا، وتمدَّد كمشهد الغياب التدريجي لضُوء الشمس قبل المغيب، وعند اكتماله دون تشغيل مصابيح الإضاءة، فإنَّ الظلام الدامس قادمٌ لا محالة!
السيناريو الخامس: حالة اللاحسم
يفترض هذا السيناريو استمرار الانقلاب في الاستحواذ على السُّلطة واحتكار القُوَّة الماديَّة المسلحة، والاقتصادية المملوكة للدَّولة، مع استمرار المقاومة الشعبيَّة في مناهضتها، ويستمر الطرفين في صراع مُمتد يستخدم فيها كل طرف الأدوات المُتاحة لكُلٍ منهُما دون تمتُّع أي منهما بالقُدرة على حسم المُواجهة لصالحه، وتجنُّب الطرفين بشكلٍ عقلاني أي انزلاقٍ للبلاد في أتون الصراع المُسلح، باعتباره سيناريو غير محبَّذ، وليس في مصلحة أي طرف من الأطراف، وبالتالي، دخول هذا الصراع في رحلة “اللاحسم”.
في تقديري، أنَّ هذا السيناريو يتناقض مع قاعدة ديناميكيَّة العمل السياسي، فبكل تأكيد أن استمرار الانقلاب مع استمرار المقاومة، وفي ظل فشله العام، سيقود لتحلل الانقلاب، وبذات القدر فإن افتراض استمرار المقاومة بذات عنفوانها دون تأثر بتطاول أمد الصِّراع، وغياب مؤشرات تظهر ترجمة هذا الفعل لنتائج، وبالنظر لفرضيَّة استمرار العُنف والقمع، وبافتراض أن ردَّة الفعل ستكون “باردة”، هو أيضاً إفتراضٌ سيكون غير دقيق، فلا بد أن يقود هذا الواقع إمَّا إلى اندثار وتراجُع المقاومة، وبالتالي هذا سيُفضي لتعزيز وضعيَّة الانقلاب باعتبار أنَّ الخيار سيكون مبنيٌ من الأطراف الإقليميَّة والدوليَّة، ليس النموذجي أو الأصوب، وإنما أفضل الخيارات السيِّئة، أما ردَّة الفعل الثانية، فهي الانتقال لمجابهة العُنف بعُنف آخر، وهذا سيقودنا رويداً رويداً صوب إندلاع الحرب، مع ضرورة إغفال عدم وحدة وتماسُك المُكون العسكري المُنفذ للانقلاب بداية، أو تحلل وتفتت الدَّولة نفسها وانهيارها.
توازن “الضَّعف”:
السيناريوهات المذكورة سابقاً أفضت فعلياً لإيصال كل الأطراف لمرحلة “ضعف” مع وجود سيناريوهات قد تقود المشهد برُمَّته صوب سيناريوهات الإنزلاق نحو أتون المُواجهات المُسلحة، أو الإنهيار التلقائي للدولة وتحللها، كأحد نتائج إستمرار الأطراف في الصراع، وعدم مقدرة أي طرف من الأطراف من حسمه، بسبب حالة الضَّعف التي تعتري كل الأطراف. تُعرَفُ هذه النقطة التي يصل إليها أطراف الصراع بـ“مرحلة توازُن الضَّعف”.
عند بلوغ أطرف الصراع نقطة “توازُن الضَّعف”، عندها تصل هذه الأطراف بحُكم المُعطيات لعدم إمكانيَّة حسمها الصراع والمُواجهة لصالحه، وعندها يشرع كل طرف في الشُّروع في حصد أكبر قدرٍ من المكاسب وتقليل الخسائر ويكون مفهوم هذه العمليَّة قائم على مُعادلة وقاعدة مفادها بأنه سيُحقق مكاسب ولكنه لن يخرج دون خسائر.. لذلك، عليه أن يجعل المُحصِّلة النهائيَّة لقيمة المكاسب تعلو على الخسائر، أو بشكلٍ رياضي أن يكون حاصل عملية خصم الخسائر من المكاسب أكبر. أمَّا القاعدة الثانية لهذه القاعدة، ومفادها أن المُحصلة النهائيَّة للعمليَّة يترتب عليها خسائر مهما تحققت من مكاسب، ولذلك فإن الخسائر – أو التنازُلات – هو شرطٌ مصاحب ولازم للمكاسب.
مثَّل “توازُن الضَّعف” الأرضيَّة التي جعلت القُوى الدوليَّة والإقليميَّة تشرع فعلياً في اتخاذ قرارها بضرورة إحداث اختراقٍ بين الأطراف، وصولاً لمرحلة “المفاوضات”، وهذه الفترة نفسها لم تكن بالسُّهُولة بمكان.. الإقناع والوصول إليها، بداية من تحديد الأطراف وتقسيمها لأطرافٍ “فاعلة” و“ثانويَّة”، وأخرى خارج العمليَّة برُمَّتها. وما زاد من التعقيد، أنَّ جميع تلك الأطراف، بما في ذلك النظام المُباد، ومن خلال صلاته ببعض عناصر وقيادات الانقلاب، كانوا قادرين على التحرُّك السياسي والإعلامي، برعاية وحماية كاملتين من بعض أطراف السُّلطة التي تتحدَّث أنها جاءت لاستكمال أهداف الثورة! وفي ذات الوقت، فإنَّ الطرف المُقاوم للانقلاب نفسه يعيش تصدُّعاتٍ عميقة، وينقسم بين معسكراتٍ مُتعدِّدة مُتباينة ومُتقاطعة في بعض المواضع. وفي خاتمة المطاف، فإنَّ التحليل الواقعي أفضى للوصول لحقيقة أنَّ الطرفين الفاعلين في المشهد فعلياً هُما: تحالُف قُوى الحُريَّة والتغيير والمُكوِّن العسكري الانقلابي، مع وجود تبايُناتٍ داخليَّة في كليهما.
شهدت الفترة من يونيو وحتى أغسطس 2022م ذروة التحرُّكات والمناورات السياسيَّة بين الأطراف، بداية بأوَّل لقاءٍ مُباشر علنيٍ يُعقد بين الحُريَّة والتغيير ومُمثلين للمُكوِّن العسكري في يونيو 2022م، بعد فشل الجولة الأولى للحوار، الذي رعته الآليَّة الثلاثيَّة وقاطعته الحُريَّة والتغيير، ثم عقد الحُريَّة والتغيير لورشة تقييم الأداء (يوليو 2022م)، وتنظيم اللجنة التسييريَّة للمحامين لورشة صناعة الدُّستور (أغسطس 2022م)، وهذه الورشة تمخَّض عنها تحوُّلين أساسيين: أولهُما، وثيقة دستور تسييريَّة المُحامين لسنة 2022م، الذي نقل النقاش من الأهداف للقضايا وأسَّس رؤية دُستوريَّة لا تقتصر على الحُريَّة والتغيير، وإنما أطرافٌ أخرى، وحظيت هذه المُسودَّة بموافقةٍ وترحيبٍ إقليمي ودولي. أمَّا التحوُّل الثاني، فهو استقطاب أطراف جديدة لموقف الحُريَّة والتغيير من خارج المجموعات المُكوِّنة لها، أبرزها المُؤتمر الشَّعبي والحزب الجُمهوري وأطرافٌ داخل الاتحادي الأصل.
(نواصل)
تقديم: ماهر أبوجوخ
دار الجالية السودانية
تورونتو- كندا
15 يناير 2023م
سيناريوهات المشهد
بالنظر لتلك المُعطيات، فإنَّ سيناريوهات المشهد وفقاً لتلك التركيبة كانت تشير لإمكانيَّة تطوُّر الأوضاع صوب أي من السيناريوهات التالية:
الأول: نجاح الإنقلاب في فرض نفسه كأمر واقع داخلياً وخارجياً
يقتضي تحقيق هذا السيناريو محدِّدات تتمثل في مقدرة الانقلاب على توسعة قاعدة قُبُوله السياسي والشعبي في ظل محافظته على تماسُكه الدَّاخلي وهذا ما كان يمكن تحقيقه بشكلٍ جُزئي من خلال إتفاق 21 نوفمبر “حمدوك/البُرهان”، إلَّا أنَّ فُقدان الإرادة لدى بعض أطراف الإنقلاب جعلهم فعلياً يختارون وضع العراقيل أمام حمدوك، ودفعه للاستقالة من موقعه، لفرض أمرهم الواقع. ومضت الأحداث بذات السيناريو المرسوم، لكنهم فشلوا في التقدُّم ولو خُطوة واحدة للأمام بسبب تنامي فشلهم السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، واستمرار حالة الرَّفض الشعبي لانقلابهم، والانحسار الشعبي، الذي يمكن أن نطلق عليه “كشفهم شعبياً وجماهيرياً”، فقام من هذا الواقع الاستعانة بعناصر النظام المُباد، وتسبَّب هذا الإجراء في تعزيز الرَّفض الشعبي، وزيادة المخاوف الإقليميَّة والدَّوليةَّ من تداعيات استمرار الإنقلاب ونتائجه المُتمثلة في إعادة إحياء النظام المُباد صاحب السِّجِلِّ الحافل والذاخر بالتورُّط في دعم عدم الاستقرار في المنطقة، ودعم الإرهاب والجرائم العابرة للحُدُود.
لم تقتصر أزمة الإنقلاب في فرض نفسه كأمرٍ واقع على الخارج، ومن ثمَّ تمدَّد هذا القُبُول على مستوى الدَّاخل، ولكن نتيجة تفاعُلاتٍ داخليَّة ذاتيَّة جرَّاء صراعات مُكوِّناته، فقد ذهب صوب التحلل والتفكُّك، ورويداً رويداً، ظهر جلياً أنَّ الخلافات داخل الإنقلاب دخلت في مرحلة خطيرة بإمكانيَّة حُدُوث صدامٍ مُباشر بين مُكوِّناته بسبب الاختلافات – بغضِّ النظر عن تفاصيلها – بين قُطبَيْهِ الأساسيين، البُرهان وحميدتي.
الثاني: إسقاط المقاومة للانقلاب وإحلال البديل المدني
يتأسَّس هذا السيناريو على مقدرة الحركة الجماهيرية على هزيمة الانقلاب وإجباره على التراجُع من خلال حركة جماهيريَّة واسعة، تنتظم كل أنحاء البلاد، ومن الضَّروري الإقرار والاعتراف بأنَّ مقاومة انقلاب 25 أكتوبر منذ فجر ذلك اليوم حتى هذه اللحظة غير مسبوقة في التاريخ السُّوداني الحديث، والتي لم تقتصر على الفعل الجماهيري الشَّعبي، ولكن تعدَّد بأشكالٍ مختلفة ومتعددة (عصيانٌ مدني، إغلاق البنوك والأسواق، والإضرابات والوقفات الاحتجاجيَّة) وغيرها.
تحقيق هذا السيناريو كان يستوجب توفر عدَّة عوامل مُجتمعة، وهي وحدة بين مُكونات المقاومة والثورة، والإتفاق على رُؤى مستقبليَّة وسندٌ إقليمي ودولي، ثمَّ انحياز أطرافٍ من القُوى المسلحة النظاميَّة واستجابتها لمطالب الجماهير بالتغيير السياسي، وبالتالي إجبارها أو إبعادها للقيادة العسكرية العُليا الحاكمة للبلاد من المشهد، كما حدث في أبريل 1985م وأبريل 2019م.
كما ذكرتُ في موضع سابق، فإنَّ حالة التصدُّعات والتشرذم وسط قُوى الثورة، وفقدان أي فرص أو بارقة أمل في وحدتها التنظيميَّة أو البرامجيَّة، أو التنسيق الميداني في ظل أجواء التربُّص والتخوين، قوَّض الدُّعامة الأساسيَّة لتحقيق هذا السيناريو، وهذا بدوره أنتج إرتباك إقليمي ودولي حيال مستقبل الأوضاع بالبلاد، أمَّا مسألة انحياز القُوَّات النظاميَّة، ونتيجة لأجواء الاستقطاب والاستقطاب المُضاد قبل 25 أكتوبر وسط تلك القُوَّات، وتعدُّد وجود الجُيُوش ومراكز قياداتها، كان يشير إلى أنَّ الإنحياز الجزئي في حال حُدُوثه يترتب عليه إندلاع حربٍ أو حُروبٍ مُسلحة بين أكثر من طرف، قابلة للتمدُّد والانتشار حسب حجم وعدد القُوَّات التي إتخذت قرار الإنحياز في مواجهة قُوَّات أخرى ترى ذلك الإنحياز تمرُّداً أو خيانة.
إذا في ظل التفتت وانعدام فرص الوحدة وتراجع فرضيات إنحياز أطراف من القوات النظامية دون أن يترتب على ذلك حدوث مواجهة مسلحة بحيث ينتهي الأمر بشكل سلس فإن هذا السيناريو كان فعلياً يبتعد رويداً رويداً وفق معطيات الواقع.
السيناريو الثالث: السلاح يحسم المعركة
هذا السيناريو يمكن حُدُوثه كنتيجة لفشل السيناريو الأوَّل وسط الإنقلابيين، أو السيناريو الثاني بالنسبة لقُوى الثورة المقاومة للإنقلاب، وفق افتراضين، أولهُما، نتيجة للصِّراع بين أطراف المكون الإنقلابي العسكري، خاصة الجيش والدعم السريع، في ما سيكون بقيَّة الأطراف المسلحة الموقعة على إتفاق جوبا للسَّلام عامل دعم لأي من الطرفين.
أما الافتراض الثاني، فينتج في حال اللجوء لهذا الخيار والسيناريو كردِّ فعلٍ وإحباط من تأخُّر وعدم حُدُوث عمليَّة الإنحياز من القُوَّات النظاميَّة، وتتزايد خُطوات هذا الإفتراض وجعله أمراً واقعاً في حال تزايُد وتيرة العُنف تجاه المُتظاهرين السلميين، وتزايُد الخسائر قتلاً، ومع حالة الإحباط والغضب، فإنَّ الثورة السلميَّة سيكون أمامها: إمَّا خيار الإقرار بالهزيمة، أو الانتقال لحمل السلاح لإعادة التوازُن في هذا الصراع، وقد يكون هذا التحوُّل متدرِّجاً في الانتقال من السلميَّة إلى العُنف، أو مباشراً باللجوء للسلاح لحسم المعركة، وبالتالي الانتقال لمرحلة الثورة المسلحة، ولعلَّ أبرز النماذج بالمنطقة التي تحوَّلت من ثوراتٍ سلميَّة بسبب العُنف لثوراتٍ مسلحة، هُما تجربتي سوريا وليبيا عام 2011م.
حدوث هذا السيناريو هو تطبيقٌ عملي لمقولة شمشون الجبَّار، وهُو يَهِدُّ المعبد على رأسه والجميع “عليَّ وعلى أعدائي”.. فالكل خاسرٌ فيه بكُل تأكيد، مع عدم إغفال التكلفة الانسانيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة وعدم إمكانيَّة التنبُّؤ بالميقات الزمني لتجاوز هذه الحالة التي ستختلف عن الحُروب السابقة التي شهدتها البلاد الحافلة بالحُروب قبل الإستقلال، لأنَّ اندلاع الحرب وفق هذا السيناريو لن يكون الأطراف كما حدث في تاريخ الحُروب الأهليَّة المسلحة السابقة بالبلاد، ولكن سيكون مركزها العاصمة نفسها، على عكس التجارب السابقة التي تأثرت بها العاصمة بشكلٍ غير مباشر– فيما عدا محاولتي الهُجُوم عليها في يوليو 1976م ومايو 2008م – نسبة لوجود الأطراف المتصارعة المسلحة داخلها، سواء من المُكونات العسكريَّة المُنخرطة في الانقلاب، أو الأطراف السلميَّة التي ستختار الانتقال لخانة العمل المُسلح.
من المهم أن ندرك أنَّ حجم الخسائر الحاليَّة لثورة ديسمبر 2018م، وحتى مقاومة الانقلاب، لم يتجاوز الألف شهيد، وهو كرقمٍ أحدث صدمة شديدة وسط السُّودانيات والسُّودانيين، فما بالهم إذا اندلعت الحرب الشاملة، فإنَّ الخسائر البشريَّة مُرشَّحة لتجاوُز عشرات الآلاف إذا لم يُقدَّر لها أن تبلُغ مئات الآلاف، وربما الملايين، حسب الحقبة الزمنية لامتداد هذه الحرب، بخلاف الآثار النفسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المترتبة على نوعيَّة مثل هذا الصراع.
السيناريو الرابع: الإنهيار التلقائي
ينتُج هذا السيناريو نتيجة لسُلوك الأطراف الفاعلة، الذي سيقود للإنهيار التلقائي للدولة كمُؤسَّسة تراكمت أزماتها الهيكليَّة، واختلطت بحالة عجزها الإقتصادي وشللها السياسي، التي تفاقمت بسبب ممارسة ثلاثة عُقودٍ من التمكين السياسي والحزبي، يُضافُ لذلك، انهاكها بمُؤسَّساتٍ موازية في شتى المجالات، خلقها النظام المُباد لتعزيز سيطرته وهيمنته على البلاد، ما أرهق خزينة البلاد وجعلت أولويَّة الصَّرف عليها، ولما كانت من المظاهر غير الصحيحة الواجب تصويبها، فإن هذا الأمر أنتج تراخي مُؤسَّسات الدَّولة الفعليَّة بشكلٍ جعلها غير قادرة على السيطرة بشكلٍ إجمالي، وقاد لإنحسار سُلطتها، ليس في أطراف البلاد، وإنما حتى في العاصمة نفسها.
يتفاقم ما ذُكر سابقاً نتيجة لواقع السُّلطة ومُؤسَّساتها عُزلتها الشعبيَّة بسبب الرَّفض السياسي لنظام حُكمها الناتج عن إنقلاب 25 أكتوبر، وصولاً لمرحلة مقاطعتها وحرمانها من عوائدها من ضرائب ورسوم وغيرها، وهو ما يقود لتراجُع دورها ومسئوليتها ونطاق سيطرتها وبدايتها في التحلل فعلياً.. الانهيار التدريجي وصولاً لاقتصار بسط السُّلطة في ما يُشبه “المنطقة الخضراء”، لتتضمَّن المواقع السياديَّة والوزارات، فيما تختفي وتتلاشى وتنحسر خارجها، ويصبح جُلَّ هَمِّ السُّلطة الحاكمة الدفاع وإحكام تحصينات منطقتها الخضراء.
غياب وجود السُّلطة المادي والمعنوي، الذي سيفاقمه تنامي القطيعة الشعبيَّة مع القُوَّات النظاميَّة بسبب معارك الكرِّ والفرِّ مع شعبها المُناهض للسُّلطة التي يُدافع عنها، وشيخوخة الخدمة المدنيَّة وانحسار المساهمة في الإنتاج، ثمَّ التراجُع الاقتصادي للدَّولة بسبب الضَّعف في تحصيل الرسوم والعائدات، وخروج الدولة من دائرة التأثير بمناطق الإنتاج سيُفضي إلى خلق أوضاع أكثر ارتباكاً للمُؤسَّسات العسكريَّة والمدنيَّة للدَّولة، وفي هذا الإطار، فإنَّ بعض مظاهر الفوضى المُصطنعة بغرض إرباك المشهد قد تجد نفسها جرَّاء الفراغ قد انتقلت فعلياً بحُكم هذه الظروف من مرحلة “الأداة” أو “الكومبارس” لتصبح بحُكم هذا الواقع هي فعلياً “الحاكم” أو “البطل والمُخرج والمُنتج”، ويشمل ذلك الظواهر السياسيَّة أو الإجراميَّة أو الاقتصاديَّة على حدٍ سواء، انطلاقاً من أن الطبيعة لا تقبل الفراغ.
بالنظر لجميع تلك المُعطيات، ومظاهرها التي باتت واضحة للعيان، ومع استصحاب تنامي العُزلة الشعبيَّة لمُؤسَّسات إنقلاب 25 أكتوبر، فإنَّ ملامح تحلل الدَّولة وتلاشي وجودها وسُلطتها بدأت ملامحه تظهر رُويداً رودا، وتمدَّد كمشهد الغياب التدريجي لضُوء الشمس قبل المغيب، وعند اكتماله دون تشغيل مصابيح الإضاءة، فإنَّ الظلام الدامس قادمٌ لا محالة!
السيناريو الخامس: حالة اللاحسم
يفترض هذا السيناريو استمرار الانقلاب في الاستحواذ على السُّلطة واحتكار القُوَّة الماديَّة المسلحة، والاقتصادية المملوكة للدَّولة، مع استمرار المقاومة الشعبيَّة في مناهضتها، ويستمر الطرفين في صراع مُمتد يستخدم فيها كل طرف الأدوات المُتاحة لكُلٍ منهُما دون تمتُّع أي منهما بالقُدرة على حسم المُواجهة لصالحه، وتجنُّب الطرفين بشكلٍ عقلاني أي انزلاقٍ للبلاد في أتون الصراع المُسلح، باعتباره سيناريو غير محبَّذ، وليس في مصلحة أي طرف من الأطراف، وبالتالي، دخول هذا الصراع في رحلة “اللاحسم”.
في تقديري، أنَّ هذا السيناريو يتناقض مع قاعدة ديناميكيَّة العمل السياسي، فبكل تأكيد أن استمرار الانقلاب مع استمرار المقاومة، وفي ظل فشله العام، سيقود لتحلل الانقلاب، وبذات القدر فإن افتراض استمرار المقاومة بذات عنفوانها دون تأثر بتطاول أمد الصِّراع، وغياب مؤشرات تظهر ترجمة هذا الفعل لنتائج، وبالنظر لفرضيَّة استمرار العُنف والقمع، وبافتراض أن ردَّة الفعل ستكون “باردة”، هو أيضاً إفتراضٌ سيكون غير دقيق، فلا بد أن يقود هذا الواقع إمَّا إلى اندثار وتراجُع المقاومة، وبالتالي هذا سيُفضي لتعزيز وضعيَّة الانقلاب باعتبار أنَّ الخيار سيكون مبنيٌ من الأطراف الإقليميَّة والدوليَّة، ليس النموذجي أو الأصوب، وإنما أفضل الخيارات السيِّئة، أما ردَّة الفعل الثانية، فهي الانتقال لمجابهة العُنف بعُنف آخر، وهذا سيقودنا رويداً رويداً صوب إندلاع الحرب، مع ضرورة إغفال عدم وحدة وتماسُك المُكون العسكري المُنفذ للانقلاب بداية، أو تحلل وتفتت الدَّولة نفسها وانهيارها.
توازن “الضَّعف”:
السيناريوهات المذكورة سابقاً أفضت فعلياً لإيصال كل الأطراف لمرحلة “ضعف” مع وجود سيناريوهات قد تقود المشهد برُمَّته صوب سيناريوهات الإنزلاق نحو أتون المُواجهات المُسلحة، أو الإنهيار التلقائي للدولة وتحللها، كأحد نتائج إستمرار الأطراف في الصراع، وعدم مقدرة أي طرف من الأطراف من حسمه، بسبب حالة الضَّعف التي تعتري كل الأطراف. تُعرَفُ هذه النقطة التي يصل إليها أطراف الصراع بـ“مرحلة توازُن الضَّعف”.
عند بلوغ أطرف الصراع نقطة “توازُن الضَّعف”، عندها تصل هذه الأطراف بحُكم المُعطيات لعدم إمكانيَّة حسمها الصراع والمُواجهة لصالحه، وعندها يشرع كل طرف في الشُّروع في حصد أكبر قدرٍ من المكاسب وتقليل الخسائر ويكون مفهوم هذه العمليَّة قائم على مُعادلة وقاعدة مفادها بأنه سيُحقق مكاسب ولكنه لن يخرج دون خسائر.. لذلك، عليه أن يجعل المُحصِّلة النهائيَّة لقيمة المكاسب تعلو على الخسائر، أو بشكلٍ رياضي أن يكون حاصل عملية خصم الخسائر من المكاسب أكبر. أمَّا القاعدة الثانية لهذه القاعدة، ومفادها أن المُحصلة النهائيَّة للعمليَّة يترتب عليها خسائر مهما تحققت من مكاسب، ولذلك فإن الخسائر – أو التنازُلات – هو شرطٌ مصاحب ولازم للمكاسب.
مثَّل “توازُن الضَّعف” الأرضيَّة التي جعلت القُوى الدوليَّة والإقليميَّة تشرع فعلياً في اتخاذ قرارها بضرورة إحداث اختراقٍ بين الأطراف، وصولاً لمرحلة “المفاوضات”، وهذه الفترة نفسها لم تكن بالسُّهُولة بمكان.. الإقناع والوصول إليها، بداية من تحديد الأطراف وتقسيمها لأطرافٍ “فاعلة” و“ثانويَّة”، وأخرى خارج العمليَّة برُمَّتها. وما زاد من التعقيد، أنَّ جميع تلك الأطراف، بما في ذلك النظام المُباد، ومن خلال صلاته ببعض عناصر وقيادات الانقلاب، كانوا قادرين على التحرُّك السياسي والإعلامي، برعاية وحماية كاملتين من بعض أطراف السُّلطة التي تتحدَّث أنها جاءت لاستكمال أهداف الثورة! وفي ذات الوقت، فإنَّ الطرف المُقاوم للانقلاب نفسه يعيش تصدُّعاتٍ عميقة، وينقسم بين معسكراتٍ مُتعدِّدة مُتباينة ومُتقاطعة في بعض المواضع. وفي خاتمة المطاف، فإنَّ التحليل الواقعي أفضى للوصول لحقيقة أنَّ الطرفين الفاعلين في المشهد فعلياً هُما: تحالُف قُوى الحُريَّة والتغيير والمُكوِّن العسكري الانقلابي، مع وجود تبايُناتٍ داخليَّة في كليهما.
شهدت الفترة من يونيو وحتى أغسطس 2022م ذروة التحرُّكات والمناورات السياسيَّة بين الأطراف، بداية بأوَّل لقاءٍ مُباشر علنيٍ يُعقد بين الحُريَّة والتغيير ومُمثلين للمُكوِّن العسكري في يونيو 2022م، بعد فشل الجولة الأولى للحوار، الذي رعته الآليَّة الثلاثيَّة وقاطعته الحُريَّة والتغيير، ثم عقد الحُريَّة والتغيير لورشة تقييم الأداء (يوليو 2022م)، وتنظيم اللجنة التسييريَّة للمحامين لورشة صناعة الدُّستور (أغسطس 2022م)، وهذه الورشة تمخَّض عنها تحوُّلين أساسيين: أولهُما، وثيقة دستور تسييريَّة المُحامين لسنة 2022م، الذي نقل النقاش من الأهداف للقضايا وأسَّس رؤية دُستوريَّة لا تقتصر على الحُريَّة والتغيير، وإنما أطرافٌ أخرى، وحظيت هذه المُسودَّة بموافقةٍ وترحيبٍ إقليمي ودولي. أمَّا التحوُّل الثاني، فهو استقطاب أطراف جديدة لموقف الحُريَّة والتغيير من خارج المجموعات المُكوِّنة لها، أبرزها المُؤتمر الشَّعبي والحزب الجُمهوري وأطرافٌ داخل الاتحادي الأصل.
(نواصل)