الاستثمار بين الفساد والاستغلال
د. حسن بشير
29 November, 2011
29 November, 2011
لا يمكن للقلم ان يسير بالكلمات إلا بعد تقديم واجب العزاء في رجل نادر كان بحرا لا حدود له في النضال والإنسانية والتواضع والجمال، كان امميا، كونيا، عابرا للقارات لكل من يعرف معني العطاء ونكران الذات في العمل لمصلحة الأوطان والإنسان في كل زمان ومكان، أما في الكلمة فله باع طويل طويل غير قابل للقياس، هذا هو وأكثر من ذلك بكثير كان وسيظل التجاني الطيب بابكر، ذلك الشامخ المعطاء. له الرحمة والمغفرة ولأهله ورفاقه وكل من عرف قدره من أبناء وبنات أدام العزاء والسلوان.
مشكلة الاستثمار المحلي والأجنبي في السودان شديدة التعقيد، لا تتوقف عند حدود تعظيم الأرباح الي أقصي حد ممكن، كما هي طبيعة النشاط الرأسمالي ونظام السوق وإنما تصل الي درجة الاستغلال المنظم والفساد المستحكم. تتجلي ظواهر ما ذكرنا في كل شيء من نوعية الاستثمار وعائداته الي الحوافز والتسهيلات ومن أخطرها منح الأراضي بدون نظام او شروط وفي غياب تام لقانون يحكم العطاء او النشاط او المردود التنموي.
من ما يزيد المشكلة تعقيدا تمدد ظاهرة الاستثمار غير المجدي اقتصاديا الي قطاعات الخدمات الاجتماعية في الصحة والتعليم. هنا بالضبط يتمظهر أبشع نوع من الاستغلال من ارتفاع تكاليف الخدمات، تدهور جودتها وغياب المواصفة القياسية المطلوبة، ممارسة مختلف أنواع الاستبعاد حتى في الحالات المستثناة في التعليم وفي الأشخاص المدرجين ضمن التأمين الصحي في العلاج والدواء. أصبحت امتيازات الاستثمار تعطي لمن يدفع محلي او أجنبي وبعد ذلك للمستثمر مطلق الحرية في ان يفعل ما يشاء دون خوف من رقابة او محاسبة او عقاب، اذ حتى في حالة المخالفات الخطيرة فان من يستطيع الدفع او يملك النفوذ يستطيع الإفلات من العقاب. من الظواهر الجديرة بالملاحظة هي تميز بعض الخدمات واستبعاد ما لا يقل من 95% من المواطنين منها وحصرها في الدخول المرتفعة، وصل الأمر إلي استثناء المؤمنين طبيا من الخدمات طبية وأدوية معينة عالية السعر او الجودة (او هكذا يفترض ان تكون نظريا) وحصرها في مؤسسات عالية الدخل والامتياز، أما بقية الخلق فمن استطاع فليدفع وإلا (فاطلب الله). اذا استمر الحال بهذا الشكل فسيتحول من استثمار إلي نوع من مص الدماء.
هكذا تمددت الاستثمارات في الصحة والتعليم وفي منح الأراضي دون معايير او ضوابط. ربما يكمن أساس المشكلة في قانون ومعايير الاستثمار التي تحدد الشروط الخاصة بضبط الاستثمار في نطاق خطط تنموية تراعي المصلحة العامة بعيدا عن المصالح الشخصية والخاصة الاخري. من أهم ما يجب توفره للخروج من نفق الفساد والاستغلال هو ربط الاستثمار بالحاجات الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل أولوية قصوى في خطط التنمية حتى يستطيع المستثمر الحصول علي امتياز او حافز ما.
في السياق أعلاه يجب ابتداء تحديد الجهة المخولة بمنح امتيازات وحوافز الاستثمار التي تبدو غير محددة بشكل قاطع حتي اليوم. الجانب الثاني هو ربط حزم الاستثمار بمعايير الكفاءة في أساليب الإنتاج والجودة وتوطين التكنولوجيا ومراعاة استخدام العمالة الوطنية بنسبة ملزمة، هذا الأمر مبهم حتى اليوم. الأمر التالي هو معالجة مشكلة مجالس إدارات الجهات الأجنبية المستثمرة في البلاد ونوعية اختيار مجالس الإدارات بعيدا عن السياسة والانتماء او الولاء الحزبي. بعد ذلك يأتي تحديد عائدات وفوائد الاستثمار علي الاقتصاد الوطني خلال فترة زمنية متفق عليها تحددها طبيعة المشروع وحجم الأموال الموظفة فيه.
من الجوانب المهمة في الاستثمار الأجنبي المهملة في السودان او حتي فيما يخص الاستثمارات الوطنية ألكبري التي تستفيد من حوافز الاستثمار هي ضرورة توفير الخدمات اللازمة للسكان المحليين وللعاملين. يستلزم ذلك توفير السكن اللائق بأي شكل، مجاني ، إيجار ببدلات او تمليك، إضافة للخدمات الصحية والتعليمية وفي كثير من بلدان العالم وسائل الترفيه والثقافة أيضا. هذا الجانب يراعي نوعية الخدمات المقدمة ووضعها في نظام معين مثل التأمين الصحي والاجتماعي وغيرها من نظم مضمنة في قوانين العمل.
بهذا الشكل من المفترض قيام مجلس قومي مختص في الاستثمار يقوم بمنح المزايا والحوافز ويضع ضمانات الاستثمار، يتطلب ذلك وضع قانون محكم واضح المعالم شامل يغطي جميع أنواع النشاط الاقتصادي في الزراعة والصناعة والخدمات. ما يوجد اليوم في السودان هو نوع من إهدار متعمد للموارد يصب في مصالح ضيقة ولا يراعي المنافع العامة للبلاد. لا تختصر التجاوزات في منح مزايا الاستثمار علي الاستثمار الأجنبي بل إن التجاوزات منتشرة بشكل اكبر علي المستوي الداخلي وهي تصل الي مستويات خطيرة تقود مباشرة الي تعميق مختلف أنواع الفساد وتغذية الاستغلال للمواطن المغلوب علي أمره الذي يحتار في كيفية توزيع دخله علي الاحتياجات الأساسية كما يضطر في نفس الوقت للتضحية من اجل تعليم الأبناء ومقابلة تكاليف باهظة في العلاج دون ان يضمن جودة او نتيجة مرضية في هذا او ذاك. كل ما ذكرنا لا يمكن ان يتوفر دون مناخ ملائم للاستثمار ووضع يراعي التوزيع القطاعي للاستثمارات ومحددات النشاط الاقتصادي والتنافسية، نستنتج من ذلك ان هذا الموضوع بالغ الدقة والتخصصية ولا يمكن ان يترك للهواة والسماسرة والمتسلقين. يزيد من أهمية هذا الموضوع ما فرضه الواقع الجديد في البلاد بعد انفصال الجنوب الذي ولد نوعا من النهم نحو الاستثمار وجذب السيولة وهذا موضوع خطير إذا لم يتم الانتباه إليه وضبطه في إطار يراعي المصالح الوطنية العليا في صيانة الموارد والالتزام بالقانون. الظروف الضاغطة التي يمر بها السودان اليوم قد تقود الي الدفع بشخصيات ذات ميول استثمارية تختلط لديها المصالح الخاصة بالواجبات التنفيذية، وإذا لم يتم الالتفات الي ذلك ومراقبته من جميع مكونات المجتمع فسيؤدي حتما الي خسائر لا يمكن معرفة مداها او تعويضها وستدفع ثمنها الأجيال المقبلة لتضاف لمعاناة من يعيشون اليوم فيما أصبح يعرف بالجمهورية الثانية.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]