الاستراتيجية .. الفريضة الغائبة لدى القوى السياسية السودانية!
محمد سليمان عبدالرحيم
16 July, 2023
16 July, 2023
الأمور التي لا تقال.. هي التي تصنع الفرق ! "دكتور فرانسيس دينج"
*محمد سليمان عبدالرحيم
لا يمكننا التصدي لهذه الحرب وهزيمتها بنفس الوسائل والأساليب والسياسات التي قادت إلى الحرب. إن الطريق التي أودت بنا إلى هذه الحرب، لن تكون هي الطريق التي ستخرجنا منها، وإذا كانت ويلات هذه الكارثة البشعة، وبحار الدم التي سالت، وأعداد الضحايا والجرحى التي فاقت الآلاف، والملايين من النازحين هرباً داخل البلاد ومئات الآلاف من اللاجئين خارجها، وقصف المستشفيات على رؤوس المرضى، وانهيار البنية التحتية بالكامل، ونهب الأموال والممتلكات، وإحراق المكتبات والمتحف، إذا كان كل ذلك لم يورثنا حكمة، ولا وعياً جديداً، أو منهجاً مختلفاً في التفكير، وإذا ظللنا نردد نفس المقولات الجامدة ونطرح نفس المقترحات البائسة ونمارس السياسة بنفس "الدغمسة" والهرجلة والفوضى التي سبقت الحرب، فنحن إزاء معضلة كبيرة وربما لن نستطيع إيقاف هذه الحرب مطلقاً وهو ما يهدد شعبنا بالفناء وبلادنا بالإندثار.
لا أريد أن أتعرض هنا إلى تاريخ طويل من الممارسة السياسية السودانية القائمة على الرؤية الضيقة وقصيرة الأمد والمصالح الذاتية الانتهازية، وهي الممارسات التي أدت، بصورة أو أخرى، إلى نشوب هذه الحرب ضمن الحروب الكثيرة التي شهدتها البلاد منذ الاستقلال في الجنوب ودارفور وغيرهما. المجال لا يتسع لذلك، ولكني سأتعرض هنا بصورة عامة لهذه الممارسات ولغياب الرؤية الاستراتيجية لدى قوانا السياسية منذ اندلاع وانتصار ثورة ديسمبر 2018 انتصاراً جزئياً. لقد كان إسقاط نظام الإنقاذ في 11 أبريل 2019 انتصاراً عظيماً للشعب السوداني، لا مراء في ذلك، ولكنه لم يكن انتصاراً كاملاً لأن عناصراً مهمة وأساسية في النظام البائد، متمثلة في اللجنة الأمنية للنظام، ظلت موجودة وشريكة رئيسية في إدارة الدولة. بدلاً من أن تستبين قوى الثورة الخطر الداهم الذي مثله استمرار وجود تلك العناصر على رأس الدولة وفي مفاصلها الرئيسية، الأمر الذي كان يحتم عليها تمتين وحدتها لاستكمال تحقيق أهداف الثورة، توهمت أن الثورة قد انتصرت نهائياً فانصرفت إلى أجندتها ومصالحها الخاصة، فانفجرت الخلافات العميقة بين أطرافها المختلفة، وارتفع دويها حتى غطى على الصراع الجوهري والأساسي مع عناصر النظام البائد. لقد كان من نتائج تلك الصراعات إضعاف الحكومة الانتقالية بشتى الأشكال وعقد اتفاق جوبا للسلام الذي وفر حاضنة سياسية لعناصر النظام البائد للوثوب على السلطة في 25 أكتوبر 2021.
لقد أعطى ما يسمى ب "الخبراء الاستراتيجيين" الذين تستضيفهم القنوات الفضائية العربية ، بجهلهم واستهبالهم وكذبهم، اسماً ومعني سيئاً لكلمة "الاستراتيجية" حتى أصبحت مثار سخرية لدى الناس العاديين. ولكن، وفي حقيقة الأمر، لا يمكن لأي جهة في أي مجال، سواء في السياسة أو الأعمال أو الرياضة، النجاح في تحقيق أغراضها دون أن يكون لها استراتيجية مناسبة لإدارة أنشطتها. الاستراتيجية هي ببساطة، وبصورة عامة، القراءة الشاملة والتحليل العميق للواقع والبيئة وتحديد القضايا والمشاكل والتحديات والمعوقات والمخاطر التي يجب علينا مواجهتها ومعالجتها، ومن ثم بحث الخيارات والبدائل وتحديد الأهداف العملية والواقعية التي سنعمل لتحقيقها، وترجمة تلك الأهداف إلى سياسات واضحة تحدد الأولويات وفق ما هو جوهري وما هو ثانوي وتقود الأداء، وأخيراً هي مجموعة الأفعال والإجراءات العملية المتناسقة والمتسقة لتحقيق الأهداف الموضوعة. وسط كل قوانا السياسية يمكننا القول بأن الجهة الوحيدة الأقرب نسبياً إلى تطبيق مفهوم الاستراتيجية هي الحركة الإسلامية، ولذلك هي أكثر نجاحاً من الآخرين في تحقيق أهدافها بصرف النظر عن رأينا في تلك الأهداف.
اندلعت الحرب في 15 أبريل، ولم يكن في ذلك مفاجأة لأحد، فجميع المؤشرات كانت تدل على أن اندلاعها كان مسألة وقت ليس إلا. انقلاب 25 أكتوبر 2021 كان برأسين، كما ذكر الأستاذ حاج وراق في أحد مخاطباته التحليلية القيمة، وبما أن طبيعة الإنقلاب لا تحتمل ذلك فقد كان من المحتم أن ينقلب أحد الرأسين على الآخر. أحلام فلول النظام البائد بالاستفراد بالسلطة لايمكن تحقيقها إلا بإخضاع الدعم السريع، ومن الجانب الآخر فإن قيادة الدعم السريع تعلم أن امبراطوريتها لا يمكن حمايتها واستدامتها في ظل انصياع قيادة الجيش للإسلاميين وفلول النظام البائد، تلك كانت هي معادلة الحرب التي توهمت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، ومرة أخرى لغياب الفهم الاستراتيجي، أنه يمكن إلغاؤها بالوساطة بين قيادات الطرفين. إن مسؤولية فلول النظام البائد من الإسلاميين عن، بل ومشاركتهم المباشرة، في هذه الحرب ليست محل جدال، ولكن الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، من جانبها، كان بإمكانها أن تبذل مجهوداً مضاعفاً لتوحيد القوى المدنية في جبهة مدنية واسعة في ذلك الوقت للحيلولة دون نشوب الحرب وسحب البساط من المروجين والدافعين لها، بدلاً من التصعيد والاستجابة للتصعيد حول ما سمي بالاتفاق الإطاري.
الآن ونحن في غمار هذ الحرب، هناك قضايا عديدة يتحتم علينا معالجتها من زاوية استراتيجية، بمعنى أنه لا تجدي معها الحلول السريعة والفوقية والوقتية أو مجرد التظاهر بحلها بينما تظل كامنة لتنفجر من جديد. لقد ذكر المفكر والكاتب السوداني الدكتور فرانسيس دينج في أحد مؤلفاته ما يمكن ترجمته بأن "الأمور التي لا تقال .. هي التي تصنع الفرق"! وهذا القول لا يتعلق بالشفافية فقط، وإنما أيضاً بالفهم الخاطيء بأنه من الممكن حل المشاكل بتجاهلها وعدم طرحها ومناقشتها بوضوح، وهذه قضية استراتيجية. من هذه القضايا المهمة، على سبيل المثال، أن الجميع يقولون أن حل هذه الأزمة يجب أن يكون حلاً سياسياً، وهذا صحيح، ولكن الحلول السياسية، بعكس الحلول العسكرية، لايمكن فرضها فرضاً على الأطراف. فقط من خلال الحلول العسكرية حيث ينتصر طرف على الآخر يمكن للطرف المنتصر أن يفرض شروطه، أما الحلول السياسية فتتم عبر التفاوض والحوار ثم التوافق. يضاف إلى ذلك، أن الحلول السياسية لا تتم بين العسكريين وإنما بين القوى السياسية. على ضوء هذه الحقائق، فهل قوانا السياسية، وأعني كل القوى السياسية بكل أطيافها وتياراتها المختلفة، على استعداد حقيقي لتحمل أعباء الحل السياسي، وهي ثقيلة جداً، والجلوس إلى طاولة الحوار لتأسيس توافق وطني يكون قاعدة لإيقاف الحرب، أم هو مجرد "كلام والسلام"؟
baha842002@hotmail.com
*محمد سليمان عبدالرحيم
لا يمكننا التصدي لهذه الحرب وهزيمتها بنفس الوسائل والأساليب والسياسات التي قادت إلى الحرب. إن الطريق التي أودت بنا إلى هذه الحرب، لن تكون هي الطريق التي ستخرجنا منها، وإذا كانت ويلات هذه الكارثة البشعة، وبحار الدم التي سالت، وأعداد الضحايا والجرحى التي فاقت الآلاف، والملايين من النازحين هرباً داخل البلاد ومئات الآلاف من اللاجئين خارجها، وقصف المستشفيات على رؤوس المرضى، وانهيار البنية التحتية بالكامل، ونهب الأموال والممتلكات، وإحراق المكتبات والمتحف، إذا كان كل ذلك لم يورثنا حكمة، ولا وعياً جديداً، أو منهجاً مختلفاً في التفكير، وإذا ظللنا نردد نفس المقولات الجامدة ونطرح نفس المقترحات البائسة ونمارس السياسة بنفس "الدغمسة" والهرجلة والفوضى التي سبقت الحرب، فنحن إزاء معضلة كبيرة وربما لن نستطيع إيقاف هذه الحرب مطلقاً وهو ما يهدد شعبنا بالفناء وبلادنا بالإندثار.
لا أريد أن أتعرض هنا إلى تاريخ طويل من الممارسة السياسية السودانية القائمة على الرؤية الضيقة وقصيرة الأمد والمصالح الذاتية الانتهازية، وهي الممارسات التي أدت، بصورة أو أخرى، إلى نشوب هذه الحرب ضمن الحروب الكثيرة التي شهدتها البلاد منذ الاستقلال في الجنوب ودارفور وغيرهما. المجال لا يتسع لذلك، ولكني سأتعرض هنا بصورة عامة لهذه الممارسات ولغياب الرؤية الاستراتيجية لدى قوانا السياسية منذ اندلاع وانتصار ثورة ديسمبر 2018 انتصاراً جزئياً. لقد كان إسقاط نظام الإنقاذ في 11 أبريل 2019 انتصاراً عظيماً للشعب السوداني، لا مراء في ذلك، ولكنه لم يكن انتصاراً كاملاً لأن عناصراً مهمة وأساسية في النظام البائد، متمثلة في اللجنة الأمنية للنظام، ظلت موجودة وشريكة رئيسية في إدارة الدولة. بدلاً من أن تستبين قوى الثورة الخطر الداهم الذي مثله استمرار وجود تلك العناصر على رأس الدولة وفي مفاصلها الرئيسية، الأمر الذي كان يحتم عليها تمتين وحدتها لاستكمال تحقيق أهداف الثورة، توهمت أن الثورة قد انتصرت نهائياً فانصرفت إلى أجندتها ومصالحها الخاصة، فانفجرت الخلافات العميقة بين أطرافها المختلفة، وارتفع دويها حتى غطى على الصراع الجوهري والأساسي مع عناصر النظام البائد. لقد كان من نتائج تلك الصراعات إضعاف الحكومة الانتقالية بشتى الأشكال وعقد اتفاق جوبا للسلام الذي وفر حاضنة سياسية لعناصر النظام البائد للوثوب على السلطة في 25 أكتوبر 2021.
لقد أعطى ما يسمى ب "الخبراء الاستراتيجيين" الذين تستضيفهم القنوات الفضائية العربية ، بجهلهم واستهبالهم وكذبهم، اسماً ومعني سيئاً لكلمة "الاستراتيجية" حتى أصبحت مثار سخرية لدى الناس العاديين. ولكن، وفي حقيقة الأمر، لا يمكن لأي جهة في أي مجال، سواء في السياسة أو الأعمال أو الرياضة، النجاح في تحقيق أغراضها دون أن يكون لها استراتيجية مناسبة لإدارة أنشطتها. الاستراتيجية هي ببساطة، وبصورة عامة، القراءة الشاملة والتحليل العميق للواقع والبيئة وتحديد القضايا والمشاكل والتحديات والمعوقات والمخاطر التي يجب علينا مواجهتها ومعالجتها، ومن ثم بحث الخيارات والبدائل وتحديد الأهداف العملية والواقعية التي سنعمل لتحقيقها، وترجمة تلك الأهداف إلى سياسات واضحة تحدد الأولويات وفق ما هو جوهري وما هو ثانوي وتقود الأداء، وأخيراً هي مجموعة الأفعال والإجراءات العملية المتناسقة والمتسقة لتحقيق الأهداف الموضوعة. وسط كل قوانا السياسية يمكننا القول بأن الجهة الوحيدة الأقرب نسبياً إلى تطبيق مفهوم الاستراتيجية هي الحركة الإسلامية، ولذلك هي أكثر نجاحاً من الآخرين في تحقيق أهدافها بصرف النظر عن رأينا في تلك الأهداف.
اندلعت الحرب في 15 أبريل، ولم يكن في ذلك مفاجأة لأحد، فجميع المؤشرات كانت تدل على أن اندلاعها كان مسألة وقت ليس إلا. انقلاب 25 أكتوبر 2021 كان برأسين، كما ذكر الأستاذ حاج وراق في أحد مخاطباته التحليلية القيمة، وبما أن طبيعة الإنقلاب لا تحتمل ذلك فقد كان من المحتم أن ينقلب أحد الرأسين على الآخر. أحلام فلول النظام البائد بالاستفراد بالسلطة لايمكن تحقيقها إلا بإخضاع الدعم السريع، ومن الجانب الآخر فإن قيادة الدعم السريع تعلم أن امبراطوريتها لا يمكن حمايتها واستدامتها في ظل انصياع قيادة الجيش للإسلاميين وفلول النظام البائد، تلك كانت هي معادلة الحرب التي توهمت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، ومرة أخرى لغياب الفهم الاستراتيجي، أنه يمكن إلغاؤها بالوساطة بين قيادات الطرفين. إن مسؤولية فلول النظام البائد من الإسلاميين عن، بل ومشاركتهم المباشرة، في هذه الحرب ليست محل جدال، ولكن الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، من جانبها، كان بإمكانها أن تبذل مجهوداً مضاعفاً لتوحيد القوى المدنية في جبهة مدنية واسعة في ذلك الوقت للحيلولة دون نشوب الحرب وسحب البساط من المروجين والدافعين لها، بدلاً من التصعيد والاستجابة للتصعيد حول ما سمي بالاتفاق الإطاري.
الآن ونحن في غمار هذ الحرب، هناك قضايا عديدة يتحتم علينا معالجتها من زاوية استراتيجية، بمعنى أنه لا تجدي معها الحلول السريعة والفوقية والوقتية أو مجرد التظاهر بحلها بينما تظل كامنة لتنفجر من جديد. لقد ذكر المفكر والكاتب السوداني الدكتور فرانسيس دينج في أحد مؤلفاته ما يمكن ترجمته بأن "الأمور التي لا تقال .. هي التي تصنع الفرق"! وهذا القول لا يتعلق بالشفافية فقط، وإنما أيضاً بالفهم الخاطيء بأنه من الممكن حل المشاكل بتجاهلها وعدم طرحها ومناقشتها بوضوح، وهذه قضية استراتيجية. من هذه القضايا المهمة، على سبيل المثال، أن الجميع يقولون أن حل هذه الأزمة يجب أن يكون حلاً سياسياً، وهذا صحيح، ولكن الحلول السياسية، بعكس الحلول العسكرية، لايمكن فرضها فرضاً على الأطراف. فقط من خلال الحلول العسكرية حيث ينتصر طرف على الآخر يمكن للطرف المنتصر أن يفرض شروطه، أما الحلول السياسية فتتم عبر التفاوض والحوار ثم التوافق. يضاف إلى ذلك، أن الحلول السياسية لا تتم بين العسكريين وإنما بين القوى السياسية. على ضوء هذه الحقائق، فهل قوانا السياسية، وأعني كل القوى السياسية بكل أطيافها وتياراتها المختلفة، على استعداد حقيقي لتحمل أعباء الحل السياسي، وهي ثقيلة جداً، والجلوس إلى طاولة الحوار لتأسيس توافق وطني يكون قاعدة لإيقاف الحرب، أم هو مجرد "كلام والسلام"؟
baha842002@hotmail.com