الاستنزاف الديمقراطي والتجديد الفكري

 


 

 

كان المفكر السوداني الراحل محمد بشير ، المعروف ب " عبد العزيز حسين الصاوي" يعتقد أن ميزان الديمقراطية الذي أسسته نخبة مؤتمر الخريجين منذ قيام " نادي الخريجين" في 1918م حتى انقلاب عبود في 1958م يميل بوتيرة متزايدة ضد قوى و توجهات التغيير الديمقراطي. و يقول في كتابه " الديمقراطية المستحيلة" ( الحقبة الانقلابية المايوية " 69 - 1985" واصلت عملية استنزاف الرصيد الديمقراطي – الاستناري من حيث توقف العهد الانقلابي الأول و لكن بقوة أكبر، مشكلة بذلك المفصل الحاسم في مسار تصاعدها إلي الحد الأقصى، و هو الغاء الوجود الفعلي للقوى الحديثة. عموما الأثر السلبي للحقب الانقلابية في هذا الصدد يتمثل في تجاوز تعطيل أي أمكانية تطور ذاتي للروافع الحزبية للديمقراطية بالمنع و القمع المباشرين إلي تجميد حركة الفكر و الثقافة العامة التي لا غنى عنها لنمو حوافز التطور، بأغلاق فضاءات التفاعل بين الأطراف الداخلية و بينها و الخارج) رغم أن أحمد خير في كتابه " كفاح جيل" كان يعتقد أن النخبة التي تكون وعيها و ثقافته بسبب التعليم الحديث و التدريب و المعارف التي اكتسبتها سوف تؤهلها إلي تأسيس المجتمع الراشد الذي يتبني مسار الفلسفة الديمقراطية، و الغريب في الأمر رغم رهان أحمد خير على النخبة الجديدة، لكن أحمد خير نفسه خان القيم التي كان يدعو لها في كتابه " كفاح جيل" عندما قبل أن يكون وزيرا لخارجية نظام عبود الانقلابي. فهل النخبة الجديدة كانت متنازعة بين قيم الوطن و المصالح الشخصية. و فضلت الأخيرة على الأولي إذا تتبعنا مسار العديد من تلك النخب؟
أن الرصيد الديمقراطي الذي تأسس في السودان بفضل التعليم الحديث الذي جاء به المستعمر، بدأ يتراجع أمام الأنظمة العسكرية المدعومة بقوى الأيديولوجية، ممثلة في انقلاب 1969م الذي كان بتخطيط من قبل الشيوعيين و القوميين العرب، و هي القوى الحديثة التي كانت تراهن بأنها القوى المناط بها تأسيس الدولة الديمقراطية، لكنها ذهبت في اتجاه أخر. و هي التي أوقفت الجدل الثقافي الذي كان دائرا بين المثقفين و الأكاديميين السودانيين في ستينات القرن الماضي، من خلال مدارس ثقافية عديدة، و أيضا كان قد برز وسط الفنانين التشكيليين تيار أهتم بقضية الهوية، حيث بدأوا يعيدون الأسئلة التي كانت قد طرحت في عقد الثلاثينيات من خلال مجلتي الفجر و النهضة، كما عمد الانقلاب على حل الأحزاب السياسية، و منع نشاطها، و أخضع الإعلام و الصحافة لسلطة الدولة، و أهم فعل قام به الانقلابيون تغيير السلم التعليم و مناهج التعليم. حيث دخلت الأيديولوجيا بقوة في المؤسسات المنتجة للثقافة الديمقراطية، و التي كانت تقوم بدور الاستنارة في المجتمع. هذا التغيير المتعمد في أوجه النشاط العام و الثقافي و التعليمي كان له أثرا بارزا في خصم رصيد الديمقراطية.
لكن نجد الصاوي نفسه ينقد حقبة ما بعد الاستقلال، باعتبار إنها كانت البيئة التي يجب أن تكون حاضنة للديمقراطية في ذلك الوقت، هي الأحزاب الكبيرة" الوطني الاتحادي – حزب الأمة" باعتبارها بيئة لم تكن صالحة لانضاج الرصيد الاستناري النهضوي بسبب غلبة الثقل الطائفي في تكوينهاعلى تفاوت في الدرجة. و يعتقد أن الأحزاب الأقل في الثقل و يقصد بها "الإسلاميين و الشيوعيين و القوميين" رغم أنهم الأكثر تمثيلا للقوى الحديثة إلا أن تكوينهم الأيديولوجي الماركسي و الديني و القومي متنافيا مع النظام الديمقراطي الليبرالي. ربما يكون الحديث منطقيا في جزء كبير منه. لكن أغفل الصاوي أن الوطني الاتحادي كان يمثل القوى الحديث، و لم تكون الطائفة مؤثرة فيه منذ تأسيسه، و دلالة على ذلك؛ الانشقاقات التي كان قد تعرض لها بعد الاستقلال مباشرة بدعم من الطائفية و الخارج، و كان أول أنشقاق قاده كل من ميرغني حمزه و خلف الله خالد و أحمد جلي، و هي الدفعة الأولى التي لم تجد مباركة من السيد علي الميرغني، لكن الدفعة الثانية التي خرجت من الحزب الوطني الاتحادي هم عناصر غير منتمين لطائفة الختمية، بل هم اتحاديين، و كونوا حزب الشعب الديمقراطي بقيادة الشيخ على عبد الرحمن و أحمد السيد حمد و حماد توفيق و أخرين، و هؤلاء كانوا مدعومين من قبل السيد علي، و أيضا من قبل عبد الخالق محجوب، و أعلنوا عقب خروجهم من الوطني الاتحادي تحالفهم مباشرة مع الحزب الشيوعي، هذه الدعم الشيوعي لحزب الشعب الديمقراطي, إلي جانب الحرب التي كان يشنها الزملاء علي الوطني الاتحادي، هي التي جعلت الأزهري يؤيد حل الحزب الشيوعي و طرد نوابه من البرلمان، رغم أنه يعد سلوكا مجافيا للقيم و الثقافة الديمقراطية. هذا الصراع السياسي الصفري شكل أكبر تحدي للديمقراطية في البلاد، و أيضا جعل الوطن يتراجع في الأجندة الحزبية حيث أصبح الولاء الحزبي هو سيد الموقف.
أن الانقلابات و دخول المؤسسة العسكرية في السياسة أدي لتراجع كبير للرصيد الديمقراطي، ثم جاء انقلاب الجبهة الإسلامية القومية الذي حاول من خلال وزارة التخطيط الاجتماعي أن يعيد هندسة المجتمع السوداني، من خلال توسيع نشاط و دور الطبقة الطفيلية في المجتمع، و هي طبقة أسست نفسها على المضاربات الهامشية الاقتصادية التي لا تعتمد على التنمية المتوازنة في المجتمع، إلي جانب تراجع مؤسسات التعليم و تراجع حركة الثقافة و الفنون بصورة كبيرة. حيث نشطت ثقافة التعبئة العسكرية، و هي ثقافة تلغي الأخر تماما من القاموس السياسي، فشكلت محوا كاملا للثقافة الديمقراطية في المجتمع، إلي جانب أنتشار الحركات المسلحة في البلاد و هي مؤسسات تزيد من رقعة الثقافة الشمولية و تخصم من الرصيد الديمقراطي، أن العمل المسلح الذي شهده السودان في المناطق المختلفة كان يغذي ثقافة الشمولية للإنقاذ ،رغم انتشار شعارات الديمقراطية، فالممارسة السائدة هي ثقافة "الأمر و التنفيذ" لا تسمح بالمجادلة أو سماع رآي يخالف رأي القائد. و أيضا توقفت الاستنارة بصورة كبيرة في المجتمع. لكن بعد توقيع اتفاقية" نيفاشة عام 2005" سمح بهامش ديمقراطي، و بدأت تزيد مساحة الحرية أكثر بفعل الصحافة التي تعرضت بدرجة عالية من القمع و الرقيب. و هي المساحة التي بدأ فيها الوعي يتشكل من جديد و جاءت ثورات الربيع العربي لكي تفتح أفاقا جديدة لعملية التغيير.
جاءت ثورة ديسمبر 2018م تحمل معها بشائر جديدة من الرؤى و تنوع في أدوات التعبير عن القناعات الجديدة عند الجيل الجديد، و استطاعت أن تتسيد بفضل التطور الكبير الذي حدث في وسائل الاتصال الاجتماعي، و الذي سمح لقاعدة كبيرة من الشباب أن تطلع على تجارب الشعوب الأخرى و تتنوع ثقافتها، و بدأت تشارك بالرأي بصورة جادة و كبيرة في القضايا المطروحة في الساحة السياسية، أن الأجيال الجديدة عندما رفضت التعامل مع الأحزاب ليس جهلا بالديمقراطية، و أنها تمثل حجر الزاوية فيها، و لكنها كمؤسسات هرمت و لم تجدد ذاتها لكي تستوعب الأجيال الجديدة، و تصوراتها في عملية التغيير. باعتبار أن أي تغيير جديد في المجتمع يجب أن يكون محكوما بثقافة جديدة تعبر عنه، و تتجاوز كل الثقافة التي تراكمت بطول سنين لنظم شمولية، هذا الواقع الجديد الذي يحمل رؤى جديدة لا يمكن أن تنفذه قيادات بلغت من العمر عتية، قيادات أهملت عملية المراجعات الفكرية التي تجعلها مواكبة لعملية التغيير في المجتمع، قيادات نضب خيالها و تريد أن تجتر الماضي بكل عوامل الفشل التي صاحبته. لذلك غضبت الأجيال الجديدة عندما تجاوزتها الأحزاب في عملية السلطة و أهملتها تماما، الأمر الذي جعلها تعبر عن ذلك من خلال المسيرات و التظاهرات التي تصدت لها سلطة الفترة الانتقالية بالقمع. أحدث ذلك شرخا كبيرا في قوى التغيير. و أصبحت هناك ثلاث علقيات الأولي تريد التغيير الذي يفضي للديمقراطية و أخرى تريده تغييرا لكي تؤسس به شمولية أخرى و ثالثة تريد السلطة و تهمش عملية التغيير الديمقراطي. نواصل\\\\

zainsalih@hotmail.com
///////////////////////////////////////

 

آراء