كتاب الرؤى : الخضر أديب ذو قلم راسخ يتضح ذلك حين يشير في هذا الكتاب إلى أمهات الكتب التي اطلع عليها و ينتقي منها بعض الشواهد مثل عيون الأخبار لإبن قتيبة و ما كتب العلامة عبد الله الطيّب و المنفلوطي و العقاد و طه حسين و الحكيم أما في الشعر فيقتبس لك من شعر الحطئية و زهير و عنترة و إبي الطيب و إبي العلاء ومن شعر المحدثين نزار و فدوى طوقان و غيرهما أبيات حســان . و من جانب آخر لا ينسى أن يطّوف بك في فكر و أدب الفرنجة و الإشارة إلى آخر ما صدر عندهم - و لاغرو فقد عاش بين ظهرانيهم زماناً غير قليل . و يمتلك الخضر موهبة عالية في قص القصص و الحكايات - مثله مثل كثيرين من أبناء تلك المنطقة عند منحنى النيل في شمال السودان . و لا أذكر أنني قد تأثرت في الآونة الأخيرة بحكاية مثل تأثري بتلك الحكاية الحزينة التي رواها في هذا الكتاب عن مأساة الرشيد وحيد أبيه التوم و أمه النعمة بت الشيخ الذي كان زين قريته : ( فقد افتقده الناس جميعاً منذ أن قذفت به الهجرة إلى ما وراء الحدود .. و مثل الرشيد يفتقد فقد كان سباقاً إلى المكرمات - من قبيل أولئك الذين يشمرون عن سواعد الجد عند الملمات . ) و يحكي كيف تحلقت النسوة ذات نهار تحت ظل الدومة العظيمة في وسط حوش عبد العظيم حول ضاربة للودع حلّت على الفريق .. جاءت النسوة يلتمسن عندالودع معرفة حال الأبناء .. و في وسط أولئك جلست النعمة واجمة شاردة تنتظر بشرى ترد غربة وحيدها الذي غاب طويلاً .. ) و يبين لنا الخضر أسباب تقبل الرشيد لفكرة الهجرة بعد ممانعة فيقول : ( رغب الزين في زواج ( زينة ) بنت قريبه عمدة القرية إلاّ أن أمها لم تكن راضية من اقتران ابنتها بالرشيد رغبة في تزويجها من إبن أختها الموظف الكبير في دواوين الحكومة في أحد بنادر السودان فسعت ، و أفلحت ، في فسخ خطبة الرشيد من زينة .. و سارت بالخبر الحزين الركبان حتى بلغ مسامع الرشيد فغامت الدنيا في عينيه و شعر كأنما القرية كلها قد تنكرت له فأدار ظهره للبلد و غادر مهجره إلى مهاجر أبعد و انقطع خبره و تصرمت الأسباب التي كانت تشد أبويه للحياة فبدأت حالة والده الشيخ تسوء تدريجياً حتى قضى وانكفت أمه ، بعد وفاة زوجها و غياب إبنها ، على نفسها و لازمت بكاءاً لا ينقطع و شروداً دائماً و هامت على وجهها في الطرقات إلى أن فقدت عقلها في النهاية ) . و لعل أمتع فصول الكتاب تلك المساجلة المتخيّلة مع الفقيه إبن حزم الأندلسي حول ما جاء في مؤلفه الأشهر ( طوق الحــمامــة في الإلفة و الإيلاف ) -- و كذلك السلسلة السباعية المعنونة ب ( دفــاتــر الغــربة ) . ففي رحلة للخضر بالحافلة من الخرطوم لمدينة كوستي يقول : أجلست إلى جانبي شيخ فقهاء الظاهر في الأندلس أبا محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم و بعد أن بادرته بالتحية استأذنته في أن نقطع الطريق مستمتعين بعلمه الغزير وقلت له : بلى أهل السودان مالكيون لكنا اليوم لسنا بصدد الحديث في مسائل الفقه و علم الكلام بل سيكون موضوعنا ، إن أذنت ، كتابك في الإلفة و الإيلاف . و كما ترى سيدور الحديث في فلك المحبة و الأحبة و المحبين .. قال وقد سُـرى عنه بعد أن رمق الشيب الزاحف بعجل على فودي : لكنك فتى تكتهل! ( أي مالك أنت و الحب و المحبين بعد أن وخط الشيب رأسك حتى لكأنه يحشرك في زمرة الكهول ؟! ) .. و هكذا تجري المؤانسة مع طيف شيخ علماء الظاهر في الأندلس إلى أن يقول الخضر له : عابوا عليك تأليف هذا الكتاب ؟ و يرد الشيخ : أعلم ذلك وقد قلت في خاتمته ، من بين ما قلت : ( من أدى الفرائض المأمور بها و لم ينس الفضل بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله . ) أما في ( دفاتر الغــربة ) فيحدثنا الخضر عن تجارب و طرائف مجموعة من الأصدقاء ( في ميعة الصبا و شرخ الشباب ) خرجوا في منتصف سبعينيات القرن المنصرم و حلوا بإحدى مدن الخليج الكبيرة . خرجوا من البلاد عيونهم دامعة و خواطرهم كسيرة : لم يخرجهم بريق الذهب الوهّاج الذي تلأ لأ في سماء الخليج يومئذ و إنما أخرجهم بطش نظام نميري عندما توالت عليه الانتفاضات فأفقدته صوابه فطارت أجهزته القمعية في كل اتجاه فحصلت على قائمة خريجي عامي 74 و 1975 و جيء بهم من كل حدب و صوب حتى امتلات بهم السجون و ضاقت بهم المعتقلات.. و كان بعضهم قد ذاق لتوه قبض المرتبات فأذاق الوالد المريض و الأم المسنة حلاوة الكد و السهر و العرق . و رغم أن فترات الاعتقال بجل هؤلاء الشباب لم تمتد سوى أشهر معدودات إلا أن أرزاقهم كانت قد قطعت و سيف الاعتقال ظل مسلطاً على رقابهم . و يقدم لنا الخضر وصفاً دقيقاً و طريفاً للبيت الذي استأجرته مجموعة الأصدقاء تلك المكونة من أربعة --من الواضح أن الكاتب كان واحداً منهم -- في أطراف تلك المدينة الساحلية ( لعلها جدة ) : كان البيت صغيراً مكوناً من غرفتين أزيل الجدار الفاصل بينهما مع مطبخ شديد الصغر و حمام بلا سقف مزود بحنفية واحدة شحيحة العطاء خصصت للنظافة و الاستحمام معاً و في زاوية منه كان المرحاض و هو بئر كسائر الآبار . ثم ضاق هذا البيت الصغير بأهله فكان كلما خرج أحد منهم للعمل جاء بصديق وجده على أرصفة المطار أو الميناء يفترش الأرض و يلتحف السماء فأمتلأت الغرفتان بنحو عشرة أشخاص كانوا إذا ناموا باليل تسمع لهم غطيطاً خارجه . و أْختزلت ذكرى الأهل و البلد في الغناء السوداني الشجي الذي كان يبعثر الدواخل و لا يدع القلوب المرهفة تقر أبداً بأنغام تفتت الأكباد تصدر من ذلك الجهاز القبيح الهيئة الذي يبدو كما لو كان من صنع حداد في أسواقنا الإسبوعية لا يتقن مهنته ! أكتفي بهذا القدر من ( دفاتر الغربة ) لكيلا أفسد على القارئ متعة قراءة بقية حلقات هذا الفصل الممتع و هي سـبع كما سبقت الإشارة . و إن كان لابد من تعليق فإنني أقول : لولا بعض الظلال السياسية الكثيفة التي حرص الأخ السفير / الكاتب حرصاً شديداً على إيرادها في هذا الفصل من خلال الإسهاب في سرد أنواع المعاناة التي مر بها أولئك الفتية وذووهم أيام مايو الأولى ( الحمراء ) -- وهي حقيقية بلا ريب -- و التي للمفارقة -- لم ينج منها الحمر أنفسهم لاحقاً إثر انقلاب مايو عليهم بعد محاولتهم الفاشلة للانقلاب عليها -- أقول لولا تلك الظلال لكانت ( دفــاتر الغــربة ) قطعة أدبية رائعة قلّ أن تجد مثلها في أيامنا هذى ! = = = = = * الخضر هــارون : - ولد في قرية السدرة بمروي في العام 1951م . - نشأ في حي السجانة بالخرطوم جنوب ، حيث درس المرحلة الابتدائية في مدارسها ، ثم انتقل إلى مدني ليدرس بها المرحلتين الوسطى والثانوية . - تخرج في كلية الآداب من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم عام 1974م - درس الماجستير في الأنثروبولجيا ( علم الإنسان ) من جامعة هيوستون في الولايات المتحدة. - تحصل على درجة الدكتوراة في العلوم السياسية في العام 2014م من جامعة ريدنج بالمملكة المتحدة - التحق بالسلك الدبلوماسي في عام 1990 م و عمل سفيرا للسودان عام 2009 م مقيماً لدى الهند و غير مقيم لعدد من دول جنوب شرق آسيا - يعمل حاليا أستاذا مشاركا في جامعة إفريقيا العالمية.