التاريخ نور ونار! … بقلم: عمر الترابي

 


 

عمر الترابي
5 November, 2010

 


ALNAHLAN.NEW@HOTMAIL.COM
 
"التاريخ هو المعلم الأول، و صانع المعلم الأول."
 ربما تصح هذه الخلاصة حينما ننظر إلى (بعض) تاريخنا الحديث وإلى (بعض) رموزه. وربما تصلح حينما نتذكر القامات الكبيرة التي تزين سماء تاريخنا المجيد، لكن ما الذي يدعونا إلى الهروب للتاريخ!، أم ياترى هو يطل علينا دون إرادة منا، وما الذي نجنيه من إطلالته؟، و إلى أي مدى يحكمنا ، أم نحن الذين نحكمه، وكيف يستطيع بسحره الخلاب أن يصنع حاضرنا. وكيف نصنعه؟، إنها أسئلة كبرى ترويها الحياة بماء الإثارة وتغذيها التجربة بغذاء البقاء، ولا سبيل لحبسها في أجوبة مهما كان دهاء الحرف وعبقرية المعنى، فهي أسئلة ولدت لتُرقي الإجابات، لتصيغ الأسئلة الأخرى!، أكثر صخباً وأقل نضوجا، أي أسئلة المعاش اليومي الآني.
نحن نكثر من النظر إلى التاريخ في الأيام التي يخنقنا فيها الحاضر بآلامه، فالناس يهربون من عالم الشهادة إلى (عوالم) الغيب في حالات مشابهة، الغيب الذي مضى أو الذي يأتي يشكل فسحة تداوي الضيق، هم يهربون ليطمسوا حاضرهم أو يتجاوزوه ولو لبرهات. إجمالاً، فإن اللجوء إلى التاريخ هو نزعة إنسانية مرغوب فيها و (بشدة)، ففيها تسلية، وفيها عظة، وفيها أيضاً مستقبل. إذا كان الهروب إلى التاريخ ضرب من ضروب الهروب من الوجع فهذه الأيام هي أيام الهروب إلى التاريخ، فهي أيام مليئة بالأوجاع، أيام يجب علينا أن نملح قبح سوادها ببعض الذكريات البيضاء المليحة، ونمنحها بعض الطهر من مخزوننا التاريخي العظيم، فلعلنا نستطيع أن نوازن بذلك بين سواد الحاضر، وما نحمله من أمل، فمن يدري فلعل من بين هذه المآسي يطل فجر جديد وأمل جديد، وحده التاريخ يذكر أن ذلك ممكن، وأن الأمر إذا ضاق اتسع!.
من أشكال التاريخ الوضاء الذي ركن إليه الناس في هذه الأيام، وثيقة صفراء  من تاريخ الزمان الجميل، أصلها من ملحق جريدة حضارة السودان الصادر في 14 مارس سنة 1935م، إذ اشتمل عدد الجريدة رقم 1367  القائمة (الأولى) لتبرعات أهل السودان لإعانة ساكني المدينة المنورة، يتداولونها بشئ من الفخر و العز، فما أجمل أن يكون للسودان ماضي جميل، خيّر يمنح ويعطي بسخاء، تلك فسحة نريدها ونحتاجها، لنتعلم أن الأيام يداولها الله، وأن الذي يجد ويسعى تمكث ذكراه الطيبة بين الناس، وأن العمل الصالح يظل نورا بين الأجيال يضيئون به حاضرهم كل اعتم، تلك (الوريقة) تجعلنا نؤمن بحق أننا أمة "الفينا مشهودة"، و تجعلنا نعرف من أين جاء (الحب) الذي يلفنا به أهل الحجاز أينما حللنا أو حلوا، بل والاحترام الذي نلقاه.
و قبلها بأيام تداول البعض تسجيلاً ينقل مراسم وصول صاحب السيادة مولانا السيد علي الميرغني إلى مصر المحروسة،  فكم هو رائع أن ترى الحفاوة البالغة التي يحاط بها الزعيم الأكبر، و كم هو مؤنس أن ترى الإعزاز البالغ والاحترام لرمز السودان، وترى الجماهير في مصر المحروسة وهي تصف ألوفها المؤلفة لاستقباله والهتاف باسمه!، وترى زعماء بقامة جمال ناصر ومحمد نجيب، يصطفون لمصافحته، فأي فخر للسودان كان يومها وأي إعزاز، وأي عز دائم يحمله هؤلاء الكرام.
للأسف، فإن التاريخ لا يكون دائماً أبيضاً وضاءً ملهماً كما نتخيله، فهو ليس كذلك في كل حالاته، مصدرا للإعزاز والإنجاز، بل يكون في بعض الأحيان معيباً، قبيحاً، وقاتلاً، وكئيباً، ومخجلا ومخزيا. تماماً مثل حاضرنا (إن لم نتداركه)، فعلى سبيل المثال (وقد اخترت مثالاً عالمياً حياً عن قصد)، فخلال الأسبوع الماضي، سُربت وثائق تناولت ما جرى في العراق خلال السنوات الماضية، وثائقٌ نشرها موقع ويكيليكس  (المتخصص في تسريب المعلومات)،  كشفت عن معلومات جديدة، أدهشت كثيرين، وتفاعل معها البعض تفاعلاً لم يقف عند حد الدهشة، بل امتد في أحيان إلى المطالبة  بالتحقيق في الأمر، هذه الوثائق وثقت لتاريخ أسود، وحزين، وأشارت إلى أدوار خبيثة لبعض الجهات في العراق، وإن صح ما جاء فيها فإنها –مأساة-.
مسؤولو  وزارة الدفاع الأمريكية أبدوا أسفهم على –مبدأ- تسريب الوثائق وإعلانها على الملأ، أي أبدى أسفه على انكشاف التاريخ وبروز الحقيقة (كما فهم بعض الناس)، وهو أسف مقبول بحسبان (سرية و حساسية) المعلومة الأمنية، ولكني أورده هنا للتدليل على أن التاريخ قد يكون في نظر البعض كارثة!. واقعة (أو كارثة) التسريب هذي أثارت حنق بعض الشعوب وآلام البعض منها، واختلفت أشكال التعبير عن الحنق والآلام، واختلفت أشكال التعبير عن الحنق والآلام، أما أحد الاستراليين، فأبدى حنقه برمي حذاء على رئيس وزراء بلده السابق (جون هاوارد) الذي أبدى خجله لما كشفته الوثائق –إن صحت-، ولكن يبدو أن هذا الخجل لم يكن مقنعاً للمواطن، فهو يرى أن رئيس وزرائه المنتخب شارك في عمل أزهق حياة المدنيين، وهو ما يتنافى مع قيمه، بالرغم من أن هاوارد كان قد أجابه بأنه يتحمل المسؤولية!، إلا أن المواطن رشقه بالحذاء –للأسف-، إلا أنه فعل فعلته تلك تعبيراً عن الحنق والغضب الكبير.
كثيرون يهابون ما سيدونه التاريخ، حتى إنهم ليهربون، يتحايلون عليه بدهاء ماكر، بعضهم وصل به الدهاء إلى أن قال (التاريخ لن يظلمني، لأنني من سأدونه)، ولكن برغم كل التحصينات، إلا أن التاريخ الحقيقي يظهر، وإن اختفى طويلاً، يقاوم الروايات المزيفة و يقهر الدعائية المفرطة، ويظهر كما هو، واقع بلا رتوش، حقيقة لا مجاملة فيها!، فبالقدر الذي كان يُحبس في شكل وثائق سرية، وفي دواوين خاصة، وغيره إلا أن نسخته الأوثق تنطبع في سيرة المجتمع، تنطبع في أخيلة الناس ونفوسهم، تنطبع في أنفاس الطبيعة، غيظاً وكمداً، وتلك نسخة لا تتغير بسهولة، قد تتماهى مع النسخ المزورة، قد تُسايرها، ولكن الأصل يبقى صلدا، ومتنبهاً للاستيقاظ في اللحظة المناسبة، مهما كُبت التاريخ الحقيقي فإنه سينفسح ويتمدد حتى يعود ليتسيد مكانه الطبيعي في يوم ما، حتى تبدو الحقيقة بجلاء لكل الناس،  قوة التاريخ تكمن في أنه ينقل الأشياء للأجيال، لتقرأها، تقرأها كما هي، بكل قبحها أو جمالها، بكل تفاصيلها الجميل منها والدميم، محكمة التاريخ تسجل الوقائع، تدون كل شئ، إنها فقط تنتظر لحظة الإعلان، وستكون ردة الفعل واحدة.
إن الوعي بقوة التاريخ كامن في كل النفوس، ومتجذر فيها، وهو ما نراهن عليه اليوم في السودان، فإننا مطالبون بأن نتخيل ملامح الأجيال القادمة، التي بلا شك ستحاصرها الأسئلة عن الجنوب والغرب و الشرق، بل إنها ستحاصرنا نحن لا هم، أسئلة كبرى، كيف صنعت المآسي ولمصلحة من، كيف و كيف وكيف، وماذا فعلنا تلقاءها.
هل نستطيع أن نسجل تاريخاً مميزاً، حينما يخرج إلى الملأ يملأنا (أو يملأه) بالحبور؟، أونستطيع بذلك ندفق النور في أروقة الظلام، و نزرع الأمل في يباب القحط؟، نعلن الوحدة في زمان الإنفصال، نسد الرمق في أزمنة المجاعات؟، لقد استطاع أجدادنا بسودانهم القديم أن يفعلوا ذلك، فهل نستطيع، أن نجعل التاريخ نوراً.
نشر بصحيفة الصحافة يوم الجمعة 5 نوفمبر 2010.
 

 

آراء