الثُنائية وسياسة الإستقطاب المُدمر في السودان -2- …. بقلم: مهدي إسماعيل مهدي/ بريتوريا

 


 

 

 

(Dualism and the Destructive Politics of Polarization in Sudan)

 

   mahdica2001@yahoo.com

 

ثانياً: ثُنائية الإسلام/المعتقدات الأُخرى:

 

لعل هذه الثُنائية من أكثر الثُنائيات تعقيداً وأكثرها حساسية ًوخطراً على وحدة الأُمة السودانية التي لا تزال في طور التشكُل والإندماج، وللهروب من مواجهة هذا المأزق يتم السكوت عن عامل الدين خوفاً وتُقية، ومما يزيد الأمر تعقيداً وصعوبة أن بعض المُفسرين والسياسيين الذين يستخدمون الدين ويدغدقون المشاعر الدينية بهدف الوصول للسلطة والثروة، يُفسرون النصوص القُرآنية تفسيراً جامداً لا يُراعي تغير الزمان والأحوال ولا يأخذ بمتطلبات العصر، بل ويتجاهل حقيقة أن الإسلام لم يأمر بإنتهاج نظام سياسي مُحدد، وإنما ذكر المعايير الأخلاقية العامة كما جاء في الحديث الشريف (الدين المُعاملة، وإنما أتيت لأُتمم مكارم الأخلاق) وترك التفاصيل للتقدير والإجتهاد البشري (أنتم أدرى بشئون دنياكم)، وآية ذلك أن كُل الخلفاء الراشدين تم اختيار كل واحد منهم بطريقة مُغايرة، مما يدل على أن الخلاف السياسي وتعدد الآراء وتنوعها بدافع الإستحواذ على السُلطة السياسية خُلة وإرثاً إسلامياً قديماً، والشاهد أن صحابة الرسول أشرعوا سيوفهم في وجه بعضهم البعض ولما يستقر النبي في مثواه الأخير، ولم تكن ثمة مرجعية تعينهم على تجاوز مُعضلة كيفية تداول الحكم.

ليس من أغراض هذه الورقة الدخول في جدل ديني وفلسفي حول مناهج الحُكم، ومع ذلك فإن علاج هذا القصور أو الإباحة تستدعي الحاجة إلى جهود ودور المُجددين الإسلاميين ومدى مقدرتهم على تقديم تفسير يُراعي تطور المجتمع، دون التخلي عن ثوابت الدين، ولقد فطن إلى هذه الحالة السودانية الإمام عبد الرحمن المهدي (نجل القائد الأصولي الإسلامي/ محمد أحمد المهدي) وقال قولته الشهيرة "الدين لله والوطن للجميع"، وهي تعني عملياً أن المواطنة وليس الدين هي أساس الإنتماء للسودان.

لقد أثبتت تجربة العقدين الماضيين 1989-2009 (حكم الجبهة الإسلامية) أن الدين يُمكن أن يكون عنصر تدمير كبير وتمزيق وتشرذم إذا لم يتم إحترام بقية المُعتقدات الأُخرى، واتضح بكل جلاء أنه لا يمكن حشر السودان الواسع جغرافياً، المتعدد عرقياً، المتنوع ثقافياً، المختلف دينياً، في نظام آحادي إقصائي، مهما زعُم هذا النظام لنفسه من قُدسية أو ألوهية، ومهما حاول إرهاب الناس بإسم الرب والسماء والجهاد. لأن قضية الناس التي يترجونها من أي حكم، هي تحقيق أمن الفرد والمجتمع، وتوفير الغذاء وتقديم الخدمات كما جاء في القُرآن الكريم (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعهمهم من جوع وآمنهم من خوف)، أي أن القُرآن نفسه قرن العبادة والطاعة بالأمن الغذائي والأمن الشخصي/الجسدي، أما الغيب والإيمان والجنة والنار فهي شأن بين العبد وربه.

   ولذا لا يمكن أن يكون للدولة (كهيئة إعتبارية) دين رسمي تتم محاسبتها به يوم القيامة، لأنها وبكل بساطة تضم مواطنين ذوي مُعتقدات دينية متنوعة، بل ومُلحدين لا دين ولا مُعتقد غيبي لهم، ولذا فإن الفصل بين الدين والدولة والإعتراف بحق الإعتقاد للجميع وهو ما أُصطلح على تسميته بالعلمانية (Secularism) هو العلاج الأمثل لهذه المُعضلة التي تهدد وحدة السودان، وليكن واضحاً أن العلمانية لا يقصد بها ولا تعني إخراج الدين من حياة الناس أو نفيه عن المجتمع، فالدين الإسلامي مكون أساسي من مكونات الإنسان السوداني وتُدين به الغالبية، كما إن العلمانية لا تعني حرمان الإسلاميين من حق العمل السياسي مثلهم مثل غيرهم من التيارات الفكرية والسياسية، بل ويمكنهم من خلالها الوصول إلى كراسي الحكم (الحالة التركية)، بشرط احترامهم لأسس وقواعد النظام الديمقراطي، الذي يتيح حرية الاعتقاد والتعبير والتنظيم.

   لقد تخلت تُركيا، آخر دولة إسلامية (دولة الخلافة الإسلامية في السلطنة العُثمانية)، عن الدولة القائمة على الدين، وتبنت خيار العلمانية، وها هي اليوم رغم علمانيتها يحكمها حزب إسلامي مُقيد بالديمقراطية وحرية الإعتقاد وترك أمور الدُنيا للدُنيا (أي ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، كما أن في التجربة الماليزية أفضل مثال يُلائم الحالة السودانية.

 

ثالثاً: ثُنائية اللغة العربية/ اللُغات السودانية الاُخرى:

السودان دولة متعددة اللغات واللهجات، وتعتبر اللغة العربية السودانية (الناتجة عن تلاقح اللغة العربية المصرية، وعربية شبه الجزيرة العربية مع اللهجات المحلية التي يُطلق عليها الرُطانة) هي اللغة السائدة في شمال البلاد، مع سيادة بعض اللغات الأخرى في جنوب السودان وخاصة لُغة الدينكا والنوير، وبعض اللغات الأُخرى في الشمال والشرق (كلغة النوبيين وقبائل البجة)، ووفقاً للدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لعام 2005 (إتفاقية السلام الشامل- CPA)، فإن اللغة العربية واللغة الإنجليزية هُما اللغتان الرسميتان للدولة، هذا ويبلغ عدد اللغات السودانية 142 لُغة، منها 134 لُغة لا تزال مثستخدمة، بينما تعتبر الثماني لغات الباقية في عداد اللُغات المُنقرضة، وتتميز اللُغة العربية السودانية بوجود مفردات غير عربية (نوبية وحامية) كثيرة بها، مما يعكس مدى تأثرها بالثقافتين العربية والإفريقية.

يُلاحظ أن دستور عام 1998، يجعل من اللغة العربية وحدها اللغة الرسمية للدولة، ولكن المادة 8 من الدستور الإنتقالي  (2005) ، تنُص على:

1-        تُعد كل اللغات السودانية المحلية لغات وطنية، وينبغي إحترامها وتطويرها.

2-        اللُغة العربية هي لُغة التخاطب الأكثر إنتشاراً في السودان.

3-        اللُغة العربية، باعتبارها اللغة الرئيسية على المستوى القومي، واللُغة الإنجليزية هُما لُغتا العمل الرسميتين للحكومة القومية، ولُغتا التعليم العالي.

4-        بالإضافة إلى اللُغتين العربية والإنجليزية، فإن للبرلمان التشريعي على مستوى الحكم الولائي الحق في اعتماد أي لُغة محلية أُخرى كلُغة عمل رسمية على المستوى الولائي لذاك الإقليم.

5-        لا يجوز التمييز ضد استخدام أياً من اللُغتين العربية والإنجليزية في أي مستوى من مستويات الحُكم، أو في أي مرحلة من مراحل التعليم.

 

يبدو من النصوص المذكورة أعلاه، أن الدستور المُنبثق عن إتفاقية السلام الشامل-2005 (إتفاقية نيفاشا) قد حسم "نظرياً وتشريعياً على الأقل" مسألة اللُغة بطريقة مُرضية لكافة الأطراف، وهذا إنجاز يُحسب لإتفاقية السلام الشامل، بالرغم من أن الكثيرين لم يولوه كبير أمر، وأهتموا أكثر بمسائل تقسيم السُلطة والثروة لأنها الأسهل تنفيذاً والأسرع تطبيقاً (حسب التصور الفطير لمسألتي السُلطة والثروة)، إذ لا يقتضي أمرهما سوى إصدار مراسيم وقرارات بتعيين هذا وزيراً وذاك مُستشاراً، مما يُصادف هوى النفس وسعي بعض النخب المتهافت نحو السُلطة بإعتبار الأخيرة اُم الثروة. ولكن بقاء هذه النصوص المتعلقة بالمساواة اللُغوية دون تطبيق أو تطبيق بعضاً منها وترك البعض الآخر، يعني إستمرار هيمنة اللغة العربية والتحيز لمصلحتها، مما يُعد إنتهاكاً للدستور ذاته.

من نافلة القول أن مصلحة السودان، ثقافياً وعلمياً (البحث العلمي) وعملياً (سوق العمل والتوظيف) ووطنياً (تمتين الوحدة الوطنية) أن يكون دولة ثُنائية اللغة وأن يُتقن بنيه اللُغتين العربية والإنجليزية بذات درجة الإجادة، وقد كان هذا هو الحال قبل تعريب المناهج الدراسية في عقدي الستينيات والتسعينيات كما سلف ذكره.    

      

لم يعرف السودان اللغة العربية إلا مع الدخول المتأخر للعرب المُسلمين إلى السودان إبتداءاً من القرن الخامس عشر الميلادي تقريباً، وحتى عهد قريب كانت معظم القبائل والمجتمعات السودانية تتحدث لغاتها المحلية، وللمفارقة فإن القبائل النوبية في الشمال (المحس والسكوت والحلفاويين والدناقلة) ظلت ولازالت، بالرغم من قربها الجغرافي من مركز الحضارة العربية الإسلامية (مصر)، من أكثر المجموعات السُكانية السودانية إصراراً على الحفاظ على لغاتها المحلية، وكذلك الحال في دارفور (قبائل الفور والفلاتة والهوسا والزغاوة والمساليت،،،، إلخ)، أما في الجنوب وبالرغم من سياسات التعريب التي اختطها الحُكم الوطني منذ الإستقلال عام 1956، إلا أن كافة القبائل لا تزال محتفظة بلغاتها المحلية، ولا يتحدث العربية سوى المتعلمين من أبناء الجنوب وأولئك الذين نزحوا شمالاً إبان الحرب الأهلية المتطاولة، ومع ذلك فإن الغالبية منهم تُفضل التحدث باللغة الإنجليزية التي تُعتبر اللغة الرسمية الآن في جنوب السودان.

   يسود إعتقاد خاطئ بين النخب السودانية المتنفذة في الشمال والوسط النيلي، بأن نشر وتعزيز وضع اللغة العربية يستدعي بالضرورة إضعاف اللغات الأُخرى وخاصة اللُغة الإنجليزية، مع أن الواقع لا يُثبت هذا الزعم، فبالرغم من عمليات التعريب التي تمت في إطار العربنة والأسلمة (المشروع الحضاري) في عقد التسعينيات من القرن المُنصرم، إلا أنه من الثابت تدهور حال اللُغتين معاً.

   لعل في تجربة جنوب إفريقيا، التي تعتمد إحدى عشر لُغة رسمية، ما يعزز سلامة وصوابية الإتجاه نحو التعدد اللُغوي في المجتمعات المتعددة عرقياً وثقافياً. 

 

 

آراء