الجبهة المدنية الديمقراطية وقوى الحرية والتغيير والشفافية .. هل وعينا الدرس
محمد خالد
26 October, 2023
26 October, 2023
الشفافية لغة هي قابلية الجسم لإظهار ما وراءه، وتستعار للشخص الذي يظهر ما يبطن، فيقال تحدث بشفافية أي بوضوح تام، وإصطلاحا الشفافية هي قول أو فعل يتخذ بغرض عدم كتم أوحجب سر أو معلومة. وفي السياسة والحكم الرشيد تعني الشفافية أن تتوفر للمواطنين المعلومات الموثوقة المتعلقة بالسياسات والقرارات والإجراءات وعواقبها التي تتخذها المؤسسات أو القادة السياسيين.
والشفافية من سمات المجتمعات الديمقراطية، وبالطبع أنظمة الحكم الديمقراطية أكثر شفافية من الأنظمة الاستبدادية، ولا يستطيع القادة في الأنظمة الديمقراطية أن يتحرروا بالكامل من الإلتزام بالشفافية وقول الحقيقة. الشفافية تعزز الديمقراطية والمحاسبة والمشاركة السياسة، وشفافية المؤسسات والقادة السياسيين تعزز ثقة المواطنين فيهم وتجلب مزيدا من المؤيدين، كما أن الشفافية تقلل من الفساد بشكل عام والفساد السياسي كذلك. والشفافية في الأنظمة الديمقراطية ليست مطلقة فهناك معلومات محجوبة عن العامة، بل وأحيانا عن أعضاء المجالس النيابية، وعادة إتاحة هكذا معلومات تمس أسرارا عسكرية أو الأمن القومي للبلد قد تسبب أضرارا جسيمة، وبالرغم من ذلك تكون مثل تلك المعلومات متاحة للجان محددة في المجالس النيابية مثل لجنة الأمن والدفاع أو لجنة الشوؤن الخارجية، ومن ثم تكون متاحة للعامة بعد مضي عدد من السنين حسب قوانين حرية المعلومات والوثائق للبلد وقد تحذف منها أجزاء وأسماء للضرورة الأمنية.
مثلت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي لاحقا) الأطراف الثورية المدنية الساعية نحو التحول الديمقراطي منذ مفاوضات الوثيقة الدستورية، مرورا بالسلطة الإنتقالية ومفاوضات الإتفاق الإطاري وصولا للحرب التي تفتك بالشعب السوداني الآن. وخلال هذه المراحل لم تكن قوى الحرية والتغيير شفافة بالقدر المطلوب من قوى سياسية تسعى للتحول الديمقراطي ويفترض فيها تعزيز القيم الديمقراطية وبالتأكيد الشفافية إحدى هذه القيم.
المتابع للشأن العام في السودان وخصوصا الوضع السياسي، يمكنه أن يدرك وبسهولة أن قوى الحرية والتغيير لم تكن شفافة بالكامل أو بالقدر الكافي مع قوى الثورة والتحول الديمقراطي، على الأقل مع تنظيمات الثورة المستقلة والافراد المستقلين المؤيدين للتحول المدني الديمقراطي، وهذا بإفتراض أن قوى الحرية والتغيير تتواصل بشفافية مع قواعدها الحزبية والمهنية وغيرها. لا يبدو هذا الغياب الكامل أو الجزئي للشفافية أنه نتاج تقدير موقف ظرفي في حالات معينة، بل هو أقرب إلى أن يكون نمط متكرر راتب. هناك الكثير من حالات القصور في الشفافية خلال المراحل منذ مفاوضات الوثيقة وحتى ما بعد حرب ١٥ أبريل، وأورد هنا نماذج على القصور في الشفافية أوردت من فاعلين سياسيين ومهتمين بالشأن السياسي، وهناك الكثير من الأمثلة على هذا القصور، فمثلا:
١. كتب البراق النذير، وهو السكرتير الصحفي لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في مداخلة مكتوبة أرسلت لورشة تقييم الفترة الإنتقالية التي نظمتها صحيفة الديمقراطي خلال الفترة من ٢٠ إلى ٢٤ يوليو ٢٠٢٢م، تعقيبا على ورقة تجربة الحرية والتغيير التي قدمها محمد الفكي عضو مجلس السيادة خلال الفترة الإنتقالية، كتب البراق عن التفاوض على الوثيقة الدستورية "لم تواجه الحرية والتغيير الشعب السوداني بوضوح بما يجري خلف الأبواب، وكانت بعض الأطراف تتحدث بلسانين من أجل الوصول لصيغة إتفاق، وذلك مرده لوقوعها تحت الضغط ما بين محاولات الإيفاء بمطلوبات الشارع من جانب، وضغط المجتمع الإقليمي والدولي من جانب آخر، وشح النفوس من جانب ثالث". (المصدر: كتاب ورشة تقييم الفترة الإنتقالية: أوراق ومداولات، ٢٠٢٢). يتذكر المؤيدون للثورة والتحول الديمقراطي والمهتمون بالشأن العام في ذلك الوقت ما رشح من أخبار أو إشاعات عن إجتماعات غير معلومة لهم مثل الإجتماع الذي ورد أنه جرى بمنزل أنيس حجار ولم تصدر الحرية والتغيير بيانا بشأن ما دار فيه، وكان هؤلاء المؤيدون للتحول الديمقراطي يلجأون إلى علاقاتهم الإجتماعية للحصول على المعلومات حول ما يدور بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري.
٢. كذلك عقبت زهرة إدريس في نفس الورشة على ورقة محمد الفكي قائلة: "ثالثا: المعيار الثالث معيار الشفافية، إذ لم تكن قوى الحرية والتغيير شفافة في مسألة الوثيقة الدستورية ونشرت نسخ عديدة منها وسط تساؤل الناس عن النسخة الحقيقية! وهذا سبب شرخا في الثقة، وهو أمر يجب معالجته لاحقا". (المصدر: نفس المصدر السابق).
٣. خلال مداولات ورقة "تجربة الحكومة الإنتقالية الإنجازات، الإخفاقات، والدروس المستفادة" التي قدمها خالد عمر يوسف، وزير شؤون مجلس الوزراء في الحكومة الإنتقالية، وقدمت الورقة في نفس الورشة، عقب عبد الرحمن العاجب بالقول أنه كان هناك ما يشبه الحماية للفساد من الحكومة ومجلس السيادة وضرب مثل بمخالفة مدير الشركة السودانية للمعادن، مبارك أردول، للوائح الشراء والتعاقد. رد عليه مقدم الورقة وزير شؤون مجلس الوزراء أنه هو من أثار هذه القضية مع مدير الشركة السودانية للمعادن في وجود وزير المالية ووزير المعادن ورئيس الوزراء (المصدر: نفس المصدر السابق). في وقت إثارة هذه القضية لم يخرج تصريح رسمي من وزارة شؤون مجلس الوزراء أو غيرها، وكانت هناك شبهة تعتيم وغموض في هذه المسألة وقت وقوعها، ولم تخرج تفاصيلها للعلن بالتصريحات المباشرة والتصريحات المضادة إلا بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر.
٤. في ١٣ فبراير ٢٠٢٣ أصدرت نقابة الصحفيين السودانيين بيانا إنتقدت فيه قرارا للحرية والتغيير المجلس المركزي بالإمتناع عن الإدلاء بأي معلومات للرأي العام بينما يحاور القوى غير الموقعة على الإتفاق الإطاري السياسي. نددت النقابة بهذا التعتيم و ذكرت بأن الحصول على معلومات تهم الرأي العام حق أصيل من حقوق الإنسان، وحذرت من خلق بيئة لنشر المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة، وذكرت أن إمتناع السياسيين عن الإدلاء بالمعلومات يتناقض مع فضاء الديمقراطية المنشودة والمؤسسية المحروسة بروح الشفافية والمحاسبة (المصدر: صحيفة سودانايل الإلكترونية). هذا الكتمان لا يمكن تبريره بأمن قومي للبلد أو غيره مما يستدعي حجب معلومات، كما أن قوى إعلان الحرية والتغيير قد جربته سابقا في مراحل مختلفة مثل مفاوضات الوثيقة الدستورية ولم يكن في صالحها، بل أدى الأمر إلى تضعضع ثقة الشارع الثوري فيها تدريجيا مع تكراره، وأدى إلى إنعدام الثقة بين قوى الحرية والتغيير والشارع الثوري لاحقا، وهو ما يؤدي إلى خفض سقف تحقيق المطلوبات في المراحل التفاوضية وذلك بفقدان جزء من الكتلة المؤيدة للتحول الديمقراطي أو تعرضها للإنقسامات نتيجة عدم الشفافية.
٥. المثال الأخير هو خلال الفترة التي سبقت الحرب حيث بدأ الحشد والتلاسن بين قادة الجيش والدعم السريع بأشهر قبل الحرب، وخلال هذه الفترة أيضا اعتمدت قوى الحرية والتغيير نفس أسلوب التعتيم ولم توضح للشعب نتائج الكثير من المداولات و الإجتماعات مع الجيش والدعم السريع، ويبدو أنها لم تستفد من النقد الذاتي الذي قدمته سابقا في ورشة تقييم الفترة الإنتقالية، وحتى بعد بداية الحرب التزمت الصمت لفترة، ثم بعد ذلك خرجت تصريحات لعمر الدقير وطه عثمان وغيرهم على قنوات تليفزيونية بخصوص الإجتماعات مع قيادة الجيش والدعم السريع وما توصلوا له معهم في أيام ما قبل الحرب. استغل النظام السابق عدم الشفافية هذا مع إندلاع الحرب وتم تنميط قوى الحرية والتغيير إعلاميا بأنها تدعم الدعم السريع وبأنها دفعته للإنقلاب والحرب. جانب الصواب قوى الحرية والتغيير في عدم الإلتزام الصارم بالشفافية وهي مبدأ ديمقراطي وأداة سياسية في ظل محدودية الأدوات السياسية ووسائل الضغط لدى قوى الحرية والتغيير على الجيش والدعم السريع، خصوصا فترة ما قبل الحرب، وربما لو كانت قوى الحرية والتغيير شفافة مع الشعب منذ بداية الأزمة بين قيادتب الجيش والدعم السريع ربما كان بالإمكان تجنب حرب ١٥ أبريل. قد يجادل شخص بأن كتمان المعلومات ضرورة للتوسط بين قيادتي الجيش والدعم السريع وهذا قول مردود حيث أن رفض أي من الجيش والدعم السريع للتفاوض والنقاش بدعوى وجوب سرية التفاوض كان سيظهر الطرف الذي يسعى نحو الحرب ويعريه أمام الرأي العام الداخلي والدولي، وبالتالي قد يمنع التنصل من الإتفاق الإطاري، وربما قد يمنع الحرب، بالإضافة إلى أن موقف الحرية والتغيير من الشفافية يجب أن يكون موقف مبدئي حال طلب منها الجيش أو الدعم السريع أو الاثنين سرية الاجتماعات. لا توجد سابقة أن الشفافية وحدها منعت إندلاع حرب وشيكة، لكن الشفافية تساعد الأطراف المتنازعة على إعادة بناء الثقة ومنع الصراعات من خلال تبادل المعلومات وتقليل التوتر، وتمنع الفهم الخاطئ لتصرفات الطرف الآخر وبالتالي إتخاذ إجراءات تصعيدية. قد لا تمنع الشفافية الحرب، ولكن ربما إذا كانت الحرية والتغيير شفافة بالقدر الكافي خلال الفترة المباشرة قبل الحرب، لكانت على الأقل تجنبت الإدعاءات بأنها تسببت في الحرب ولم تجد هذه الإدعاءات آذانا صاغية بالعدد الذي وجدته، وبالتالي كانت الشفافية ساعدت على تعزيز موقف (لا للحرب) وجذبت مزيدا من المؤيدين لهذا الجانب وخصوصا السودانيين غير المتابعين للشأن السياسي بصورة لصيقة.
عدم التزام قوى إعلان الحرية والتغيير بالشفافية غير معروف الأسباب، ولكن يمكن التكهن بعدة أسباب منها مثلا: أن عدم الشفافية نتيجة لقرار إتخذته قوى الحرية والتغيير أن الشفافية مضرة بالنسبة لتحقيق هدف التحول الديمقراطي، وهو بالتأكيد خطأ استراتيجي فادح من قوى الحرية والتغيير إذا كانت إتخذت مثل هذا القرار، ومن الممكن أيضا أن غياب الشفافية هو نتيجة للقمع السياسي خلال ثلاثينية الإنقاذ و إعتياد السياسيين على العمل السري، ويمكن التكهن بأسباب أخرى كثيرة لعدم الشفافية. مهما كانت الأسباب التي دفعت الحرية والتغيير لعدم الإلتزام بالشفافية فهو خطأ فادح، لأن الشفافية لازمة ديمقراطية ليس بالإمكان تجاوزها وتحقيق إنتقال ديمقراطي ومن ثم ديمقراطية مستدامة، كذلك إتضح من خلال التجربة أن عدم الإلتزام بالشفافية لم يكن في وقت من الأوقات في صالح قوى الحرية والتغيير والتحول الديمقراطي، كذلك بعدم الشفافية فقدت قوى الحرية والتغيير أداة سياسية من الأدوات القليلة لديها لتحقيق هدف التحول الديمقراطي. رغم النقد الذاتي الصادر من قوى الحرية والتغيير بالتقصير في مبدأ الشفافية، إلا أنها لم تتخذ خطوات ملموسة ولم يحدث تحسن في أدائها من ناحية الشفافية. عدم الإلتزام بالشفافية ظاهرة عامة في العمل السياسي والمدني في السودان وهو أمر مضر، ولكن هناك اتجاه لمقاومة هذه الظاهرة فمثلا انتقد جعفر خضر في مقال على موقع سودانايل بتاريخ ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٣م ذهاب الأعضاء في منتدى شروق الثقافي إلى إجتماع الجمعية العمومية وليس بحوزتهم خطابا الدورة والميزانية لأول مرة و ذكر بأنه تراجع مريع في تعزيز مبدأ الشفافية، كما قال جعفر "أعتقد دوما، ولا أزال، أن منتدى شروق بإمكانه أن يقدم النموذج الأمثل في تحقيق قيم المؤسسية والشفافية والمساءلة والديمقراطية. وهذه أعظم مساهمة يمكن أن يقدمها منتدى شروق لثورة ديسمبر ." (المصدر: صحيفة سودانايل). مهما تطاولت الحرب فإنها ستنتهي إلى تفاوض سياسي، فهل تصحح الجبهة المدنية الديمقراطية ما وقعت فيه الحرية والتغيير في تجاهل مبدأ الشفافية سهوا أو عمدا؟.
mkaawadalla@yahoo.com
والشفافية من سمات المجتمعات الديمقراطية، وبالطبع أنظمة الحكم الديمقراطية أكثر شفافية من الأنظمة الاستبدادية، ولا يستطيع القادة في الأنظمة الديمقراطية أن يتحرروا بالكامل من الإلتزام بالشفافية وقول الحقيقة. الشفافية تعزز الديمقراطية والمحاسبة والمشاركة السياسة، وشفافية المؤسسات والقادة السياسيين تعزز ثقة المواطنين فيهم وتجلب مزيدا من المؤيدين، كما أن الشفافية تقلل من الفساد بشكل عام والفساد السياسي كذلك. والشفافية في الأنظمة الديمقراطية ليست مطلقة فهناك معلومات محجوبة عن العامة، بل وأحيانا عن أعضاء المجالس النيابية، وعادة إتاحة هكذا معلومات تمس أسرارا عسكرية أو الأمن القومي للبلد قد تسبب أضرارا جسيمة، وبالرغم من ذلك تكون مثل تلك المعلومات متاحة للجان محددة في المجالس النيابية مثل لجنة الأمن والدفاع أو لجنة الشوؤن الخارجية، ومن ثم تكون متاحة للعامة بعد مضي عدد من السنين حسب قوانين حرية المعلومات والوثائق للبلد وقد تحذف منها أجزاء وأسماء للضرورة الأمنية.
مثلت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي لاحقا) الأطراف الثورية المدنية الساعية نحو التحول الديمقراطي منذ مفاوضات الوثيقة الدستورية، مرورا بالسلطة الإنتقالية ومفاوضات الإتفاق الإطاري وصولا للحرب التي تفتك بالشعب السوداني الآن. وخلال هذه المراحل لم تكن قوى الحرية والتغيير شفافة بالقدر المطلوب من قوى سياسية تسعى للتحول الديمقراطي ويفترض فيها تعزيز القيم الديمقراطية وبالتأكيد الشفافية إحدى هذه القيم.
المتابع للشأن العام في السودان وخصوصا الوضع السياسي، يمكنه أن يدرك وبسهولة أن قوى الحرية والتغيير لم تكن شفافة بالكامل أو بالقدر الكافي مع قوى الثورة والتحول الديمقراطي، على الأقل مع تنظيمات الثورة المستقلة والافراد المستقلين المؤيدين للتحول المدني الديمقراطي، وهذا بإفتراض أن قوى الحرية والتغيير تتواصل بشفافية مع قواعدها الحزبية والمهنية وغيرها. لا يبدو هذا الغياب الكامل أو الجزئي للشفافية أنه نتاج تقدير موقف ظرفي في حالات معينة، بل هو أقرب إلى أن يكون نمط متكرر راتب. هناك الكثير من حالات القصور في الشفافية خلال المراحل منذ مفاوضات الوثيقة وحتى ما بعد حرب ١٥ أبريل، وأورد هنا نماذج على القصور في الشفافية أوردت من فاعلين سياسيين ومهتمين بالشأن السياسي، وهناك الكثير من الأمثلة على هذا القصور، فمثلا:
١. كتب البراق النذير، وهو السكرتير الصحفي لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في مداخلة مكتوبة أرسلت لورشة تقييم الفترة الإنتقالية التي نظمتها صحيفة الديمقراطي خلال الفترة من ٢٠ إلى ٢٤ يوليو ٢٠٢٢م، تعقيبا على ورقة تجربة الحرية والتغيير التي قدمها محمد الفكي عضو مجلس السيادة خلال الفترة الإنتقالية، كتب البراق عن التفاوض على الوثيقة الدستورية "لم تواجه الحرية والتغيير الشعب السوداني بوضوح بما يجري خلف الأبواب، وكانت بعض الأطراف تتحدث بلسانين من أجل الوصول لصيغة إتفاق، وذلك مرده لوقوعها تحت الضغط ما بين محاولات الإيفاء بمطلوبات الشارع من جانب، وضغط المجتمع الإقليمي والدولي من جانب آخر، وشح النفوس من جانب ثالث". (المصدر: كتاب ورشة تقييم الفترة الإنتقالية: أوراق ومداولات، ٢٠٢٢). يتذكر المؤيدون للثورة والتحول الديمقراطي والمهتمون بالشأن العام في ذلك الوقت ما رشح من أخبار أو إشاعات عن إجتماعات غير معلومة لهم مثل الإجتماع الذي ورد أنه جرى بمنزل أنيس حجار ولم تصدر الحرية والتغيير بيانا بشأن ما دار فيه، وكان هؤلاء المؤيدون للتحول الديمقراطي يلجأون إلى علاقاتهم الإجتماعية للحصول على المعلومات حول ما يدور بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري.
٢. كذلك عقبت زهرة إدريس في نفس الورشة على ورقة محمد الفكي قائلة: "ثالثا: المعيار الثالث معيار الشفافية، إذ لم تكن قوى الحرية والتغيير شفافة في مسألة الوثيقة الدستورية ونشرت نسخ عديدة منها وسط تساؤل الناس عن النسخة الحقيقية! وهذا سبب شرخا في الثقة، وهو أمر يجب معالجته لاحقا". (المصدر: نفس المصدر السابق).
٣. خلال مداولات ورقة "تجربة الحكومة الإنتقالية الإنجازات، الإخفاقات، والدروس المستفادة" التي قدمها خالد عمر يوسف، وزير شؤون مجلس الوزراء في الحكومة الإنتقالية، وقدمت الورقة في نفس الورشة، عقب عبد الرحمن العاجب بالقول أنه كان هناك ما يشبه الحماية للفساد من الحكومة ومجلس السيادة وضرب مثل بمخالفة مدير الشركة السودانية للمعادن، مبارك أردول، للوائح الشراء والتعاقد. رد عليه مقدم الورقة وزير شؤون مجلس الوزراء أنه هو من أثار هذه القضية مع مدير الشركة السودانية للمعادن في وجود وزير المالية ووزير المعادن ورئيس الوزراء (المصدر: نفس المصدر السابق). في وقت إثارة هذه القضية لم يخرج تصريح رسمي من وزارة شؤون مجلس الوزراء أو غيرها، وكانت هناك شبهة تعتيم وغموض في هذه المسألة وقت وقوعها، ولم تخرج تفاصيلها للعلن بالتصريحات المباشرة والتصريحات المضادة إلا بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر.
٤. في ١٣ فبراير ٢٠٢٣ أصدرت نقابة الصحفيين السودانيين بيانا إنتقدت فيه قرارا للحرية والتغيير المجلس المركزي بالإمتناع عن الإدلاء بأي معلومات للرأي العام بينما يحاور القوى غير الموقعة على الإتفاق الإطاري السياسي. نددت النقابة بهذا التعتيم و ذكرت بأن الحصول على معلومات تهم الرأي العام حق أصيل من حقوق الإنسان، وحذرت من خلق بيئة لنشر المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة، وذكرت أن إمتناع السياسيين عن الإدلاء بالمعلومات يتناقض مع فضاء الديمقراطية المنشودة والمؤسسية المحروسة بروح الشفافية والمحاسبة (المصدر: صحيفة سودانايل الإلكترونية). هذا الكتمان لا يمكن تبريره بأمن قومي للبلد أو غيره مما يستدعي حجب معلومات، كما أن قوى إعلان الحرية والتغيير قد جربته سابقا في مراحل مختلفة مثل مفاوضات الوثيقة الدستورية ولم يكن في صالحها، بل أدى الأمر إلى تضعضع ثقة الشارع الثوري فيها تدريجيا مع تكراره، وأدى إلى إنعدام الثقة بين قوى الحرية والتغيير والشارع الثوري لاحقا، وهو ما يؤدي إلى خفض سقف تحقيق المطلوبات في المراحل التفاوضية وذلك بفقدان جزء من الكتلة المؤيدة للتحول الديمقراطي أو تعرضها للإنقسامات نتيجة عدم الشفافية.
٥. المثال الأخير هو خلال الفترة التي سبقت الحرب حيث بدأ الحشد والتلاسن بين قادة الجيش والدعم السريع بأشهر قبل الحرب، وخلال هذه الفترة أيضا اعتمدت قوى الحرية والتغيير نفس أسلوب التعتيم ولم توضح للشعب نتائج الكثير من المداولات و الإجتماعات مع الجيش والدعم السريع، ويبدو أنها لم تستفد من النقد الذاتي الذي قدمته سابقا في ورشة تقييم الفترة الإنتقالية، وحتى بعد بداية الحرب التزمت الصمت لفترة، ثم بعد ذلك خرجت تصريحات لعمر الدقير وطه عثمان وغيرهم على قنوات تليفزيونية بخصوص الإجتماعات مع قيادة الجيش والدعم السريع وما توصلوا له معهم في أيام ما قبل الحرب. استغل النظام السابق عدم الشفافية هذا مع إندلاع الحرب وتم تنميط قوى الحرية والتغيير إعلاميا بأنها تدعم الدعم السريع وبأنها دفعته للإنقلاب والحرب. جانب الصواب قوى الحرية والتغيير في عدم الإلتزام الصارم بالشفافية وهي مبدأ ديمقراطي وأداة سياسية في ظل محدودية الأدوات السياسية ووسائل الضغط لدى قوى الحرية والتغيير على الجيش والدعم السريع، خصوصا فترة ما قبل الحرب، وربما لو كانت قوى الحرية والتغيير شفافة مع الشعب منذ بداية الأزمة بين قيادتب الجيش والدعم السريع ربما كان بالإمكان تجنب حرب ١٥ أبريل. قد يجادل شخص بأن كتمان المعلومات ضرورة للتوسط بين قيادتي الجيش والدعم السريع وهذا قول مردود حيث أن رفض أي من الجيش والدعم السريع للتفاوض والنقاش بدعوى وجوب سرية التفاوض كان سيظهر الطرف الذي يسعى نحو الحرب ويعريه أمام الرأي العام الداخلي والدولي، وبالتالي قد يمنع التنصل من الإتفاق الإطاري، وربما قد يمنع الحرب، بالإضافة إلى أن موقف الحرية والتغيير من الشفافية يجب أن يكون موقف مبدئي حال طلب منها الجيش أو الدعم السريع أو الاثنين سرية الاجتماعات. لا توجد سابقة أن الشفافية وحدها منعت إندلاع حرب وشيكة، لكن الشفافية تساعد الأطراف المتنازعة على إعادة بناء الثقة ومنع الصراعات من خلال تبادل المعلومات وتقليل التوتر، وتمنع الفهم الخاطئ لتصرفات الطرف الآخر وبالتالي إتخاذ إجراءات تصعيدية. قد لا تمنع الشفافية الحرب، ولكن ربما إذا كانت الحرية والتغيير شفافة بالقدر الكافي خلال الفترة المباشرة قبل الحرب، لكانت على الأقل تجنبت الإدعاءات بأنها تسببت في الحرب ولم تجد هذه الإدعاءات آذانا صاغية بالعدد الذي وجدته، وبالتالي كانت الشفافية ساعدت على تعزيز موقف (لا للحرب) وجذبت مزيدا من المؤيدين لهذا الجانب وخصوصا السودانيين غير المتابعين للشأن السياسي بصورة لصيقة.
عدم التزام قوى إعلان الحرية والتغيير بالشفافية غير معروف الأسباب، ولكن يمكن التكهن بعدة أسباب منها مثلا: أن عدم الشفافية نتيجة لقرار إتخذته قوى الحرية والتغيير أن الشفافية مضرة بالنسبة لتحقيق هدف التحول الديمقراطي، وهو بالتأكيد خطأ استراتيجي فادح من قوى الحرية والتغيير إذا كانت إتخذت مثل هذا القرار، ومن الممكن أيضا أن غياب الشفافية هو نتيجة للقمع السياسي خلال ثلاثينية الإنقاذ و إعتياد السياسيين على العمل السري، ويمكن التكهن بأسباب أخرى كثيرة لعدم الشفافية. مهما كانت الأسباب التي دفعت الحرية والتغيير لعدم الإلتزام بالشفافية فهو خطأ فادح، لأن الشفافية لازمة ديمقراطية ليس بالإمكان تجاوزها وتحقيق إنتقال ديمقراطي ومن ثم ديمقراطية مستدامة، كذلك إتضح من خلال التجربة أن عدم الإلتزام بالشفافية لم يكن في وقت من الأوقات في صالح قوى الحرية والتغيير والتحول الديمقراطي، كذلك بعدم الشفافية فقدت قوى الحرية والتغيير أداة سياسية من الأدوات القليلة لديها لتحقيق هدف التحول الديمقراطي. رغم النقد الذاتي الصادر من قوى الحرية والتغيير بالتقصير في مبدأ الشفافية، إلا أنها لم تتخذ خطوات ملموسة ولم يحدث تحسن في أدائها من ناحية الشفافية. عدم الإلتزام بالشفافية ظاهرة عامة في العمل السياسي والمدني في السودان وهو أمر مضر، ولكن هناك اتجاه لمقاومة هذه الظاهرة فمثلا انتقد جعفر خضر في مقال على موقع سودانايل بتاريخ ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٣م ذهاب الأعضاء في منتدى شروق الثقافي إلى إجتماع الجمعية العمومية وليس بحوزتهم خطابا الدورة والميزانية لأول مرة و ذكر بأنه تراجع مريع في تعزيز مبدأ الشفافية، كما قال جعفر "أعتقد دوما، ولا أزال، أن منتدى شروق بإمكانه أن يقدم النموذج الأمثل في تحقيق قيم المؤسسية والشفافية والمساءلة والديمقراطية. وهذه أعظم مساهمة يمكن أن يقدمها منتدى شروق لثورة ديسمبر ." (المصدر: صحيفة سودانايل). مهما تطاولت الحرب فإنها ستنتهي إلى تفاوض سياسي، فهل تصحح الجبهة المدنية الديمقراطية ما وقعت فيه الحرية والتغيير في تجاهل مبدأ الشفافية سهوا أو عمدا؟.
mkaawadalla@yahoo.com