الجنينة، المأساة المتجددة

 


 

 

بغض النظر عن طبيعة الأنظمة الحاكمة وبغض النظر عما تكون عليها الأحوال في باقي مناطق السودان، وما إذا كانت هناك اضطرابات أو حروب، للجنينة حضور دائم في دفتر الأحداث، حضور تميّزه الفجائع التي تحدث فيها. هذه المدينة الوادعة التي تقع على ضفاف وادي (كجا)، الغني ببساتينه وسكانها الذين يربو عددهم الآن على مليون نسمة أو ما يزيد، ظلّوا وعلى مدى خمس وثلاثين سنة يعانون موجات معارك وأحداث محزنة لحرب يبدو من تكرار أحداثها أنها طويلة. معارك يموت خلالها الكبار والصغار ويتشرّد عشرات الآلاف إلى اللجوء نحو دول الجوار وخاصة تشاد، وآخرين يفرّوا هائمين لا يدرون أين يلتقيهم الموت بينما هم على يقين من أنه يتربّص بهم وهم في طريق الفرار. تسألني عن الدولة وأين هي مما يجري من جرائم، تجيب التجربة أنها ليست ببعيد من صناعتها ورعايتها، بينما الضحايا من المواطنين الأبرياء هناك على يقين بذلك. والحقيقة أن النظام الحاكم في خضم النزاع المسلّح الذي اندلع في مطلع الألفين في دارفور بينها وبين الحركات المسلّحة الثائرة بحثاً عن دولة العدالة، سارع النظام إلى استقطاب وتمليش وتسليح وتدريب الآلاف للقتال نيابة عنه، وهي المليشيات التي عُرِفت باسم (الجنجويد)، وقد التزم النظام نفسه في اتفاقية أبوجا للسلام 2006م، بتفكيكها لكنه عوضاً عن ذلك، قنّنها وأسماها قوات (الدعم السريع) وأصبحت تتبع مباشرة إلى رأس النظام.

عقب اندلاع الحرب الحالية في الخرطوم في الخامس عشر من أبريل 2023م، بين الجيش والدعم السريع، كانت الأسماع حتماً تتجه غرباً وبالتحديد تتوقع اندلاع المعارك في الجنينة، لم يكذّبهم الحدس وكأن قدر أهلها أن يكونوا قاسماً مشتركاً لآلام هذا الوطن الذي اسمه السودان أينما ومتى تألم. فقد اندلعت المعارك في الجنينة ولكن لكل ذي عقل أن يميّز، فبينما كانت المعارك في الخرطوم معلومة الأطراف (الجيش المؤدلج ضد قوات الدعم السريع الذي هو الآخر صناعته)، وهي معارك أجندتها معلومة ومحددة تتمثل في الصراع على السلطة، إلا أن الحال في الجنينة غير ذلك.

تقول الأخبار المتداولة، أن الشرارة فعلاً بدأت بين الجيش والدعم السريع، ولكن سرعان ما أنكمش الجيش وتخندق في حاميته، ويقول الدعم السريع أنه ليس طرفاً فيما يجري، وأصبح المواطن يواجه مليشيات مدججة بالسلاح، لا حول له بها ولا قوة، فكانت المأساة التي تجلّت في القتل والتشريد والنهب والتخريب، وخروج المؤسسات الخدمية عن الخدمة وفي مقدّمتها المستشفيات ومحطات المياه وغيرها، فضلاً عن نهب الأسواق والبيوت. كل هذا تم على مرأى مما يُفترض فيه أنها دولة ممثلة في جهازها الدستوري وجيشها ودعمها السريع وشرطتها التي اختفت في الجنينة من أول طلقة وقبلها في الخرطوم. جميعهم يرمون باللوم على ما يحدث فيما يسمّونها (مليشيات فالتة) وهي مليشيات ليست ببعيدة عن الطرفين، وإلا وإن أخذنا بروايتهم، كيف يُعقل أن الجيش والدعم السريع لا يقويان على وقف هذه المليشيات عند حدودها؟

في ظل التعتيم الذي فرضه خروج شبكات الاتصال الهاتفي عن العمل، أشارت بعض التقارير والأخبار المتناقلة، أن قطاعات معتبرة من المواطنين قد وضعوا أيديهم على مستودعات أسلحة قيل أنها تابعة للشرطة، ليس هناك تأكيدات تحدد ما إذا كان ذلك قد تم عشوائياً أو بشكل متعمّد ومخطط من جهات اعتبارية، لتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم. وبقدر ما لذلك دور في تمكين البعض من حماية أنفسهم، إلا أنه من جانب آخر، قد ساهم في تأزيم الأوضاع المأساوية، كونها عملية خارج الأطر المعيارية وفي مقدّمتها التوجيه والتنظيم والضبط. دائماً ما يُقال عن الحرب الدائرة في الجنينة، أو في مناطق أخرى من دارفور أنها حرب قبلية؛ هذا ليس صحيحاً البتة، إن ما يجري في الجنينة تجسيد للأزمة السودانية النابتة في المركز والتي تمددت جذورها إلى كل أواسط وأطراف السودان؛ وما الذي يحدث في الجنينة إلا أحد عروقها.

في ظل مقتل الآلاف ومن ضمنهم الوالي خميس عبد الله أبكر، رحم الله الجميع؛ وفي ظل جرح الآلاف ولجوء أكثر من مئتي ألف إلى تشاد في مناظر تتفطّر منها القلوب، لنساء بالكاد يجرجرن أرجلهن الدامية وهنّ يهربن من الموت حافيات ويحملن أطفالهن المذعورين؛ يستطيع أي إنسان أن يتصور حجم المأساة. لقد نام الضمير الإنساني عن مأساة الجنينة إلا من أصوات خجولة من هنا وهناك؛ ونذر يسير من المساعدات التي تعمل على تقديمها المنظمات للفارين من جحيم المعارك. أما الدولة السودانية، فقد ظلّت نائمة عنها سنين عددا، وللأسف، إذا فاقت في لحظة، تفيق فقط لتشعل الفتيل مرة أخرى، ويكفي أن حاميتها العسكرية، والتي عمرها أكثر من ثمانية عقود؛ تقف عاجزة عن حماية نفسها، ناهيك عن حماية المدينة ومواطنيها. ذلك تراكم بئيس للدولة التي تحتاج إلى تغيير شامل لبنيتها المتهالكة.

هذا الواقع المرير لمدينة دائمة النزف، هو نموذج مشتعل لدارفور بأكملها، ومن ثم لا بد أن يبرز السؤال البديهي، ما العمل لوقف المأساة ومسلسل القتل وافرازات المعارك في الجنينة بحسبانها أولوية قصوى؛ بل ما العمل لوقف الحرب نهائياً في السودان. هنا تنقسم الأدوار، هناك دور محلي بأبعاده، وهناك دور إقليمي وآخر دولي. تراني أقفز على الدور المحلّي لأن أطرافه من جيش ودعم سريع، قد انخرطا في الحرب التي أشعلاها، وصَمّا المسامع عن أقوال الحكمة والرشد، ناهيك عن مقتضيات الشهامة والشجاعة التي ليس منها شيء في الإصرار على استمرار الحرب. أما الحكومة ممثلة في باقي أعضاء مجلسها السيادي ووزرائها، وبدلاً من أن ينقلوا من أول يوم بدأت فيه المعارك، ينقلوا مقر الحكومة إلى أي مدينة أخرى مستقرّة (مدني، عطبرة، بورتسودان...الخ...) ويظلّوا في حالة انعقاد دائم (حالة حرب)، ليديروا من هناك مهامهم، بإدارة شؤون الدولة والمواطنين والتواصل والعمل مع المجتمعين الاقليمي والدولي، وهو الحال الذي يجب أن ينسحب على حكام الأقاليم (دارفور والمنطقتين في النيل الأزرق وجنوب كردفان)، وأيضاً ولاة الولايات في ولاياتهم، بدلاً من أن يأخذوا هذا الوضع، الوضع الطبيعي لأي مسؤولين في أي دولة في حالة حرب، آثر كلٌ منهم السفر وكأن الأمر لا يعنيهم، أو كأن المسؤولية التي يتولونها، هي فقط عند الأحوال الهادئة.

هل تهدد الحرب الدائرة في السودان السلم والأمن الدوليين؟ الإجابة البديهية نعم، هل يمكن أن تتحول إلى إبادة لا مثيل لها سواء في الخرطوم أو دارفور؟ مؤشّرات الأحداث تقول نعم، هل يمكن أن يتحوّل نصف سكان السودان إلى لاجئين ونازحين يعيشون في معسكرات نزوح ولجوء؟ الإجابة ببساطة نعم. هل يمكن أن يتحول هذا الوطن الذي يمتلك أكثر مصادر المياه العذبة الظاهرة والجوفية والتي هي أكسير الحياة، يتحول إلى وطن ميت؟ الإجابة نعم إذا استمرت الحرب. هل كل ذلك يجب أن يُقْلِق المجتمع الدولي ويفرض عليه التحرك لوقفه؟ الإجابة نعم لأنه يهدد الأمن والسلم الدوليين. كيف إذاً يجب أن يتحرك المجتمع الدولي ليوقف ما يجري في الجنينة أولاً؟ للعالم سوابق عديدة في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو وفي تيمور الشرقية وغيرها، حيث عندما لا يُسمَع نداء الرشد والحِكمة، يُسمَع هدير القوة.

فالدولة السودانية عاجزة عن أن تبسط الأمان للمواطنين في الجنينة كما هو الحال في أماكن أخرى، صرخات المواطنين للاستغاثة يسمعها الجيش المتخندق في حاميته ويسمعها الدعم السريع المتواجد في معسكراته ويقول أنه ليس ضالعاً وإنما مليشيات فالتة، ليس من طرف منهما من يقول، مسؤولية منّ التصدّي لهذه المليشيات الفالتة إذا افترضنا بوجودها أصلاً، أليست مسؤوليتهما؟ سواء بتنسيق أو حتى فرادى بعد أن تقاتلا وافترقا. إذن، هذا الوضع المأساوي، يقتضي ومن أجل البحث عن الاستقرار والأمان، يبرر ما يجبر الناس على اجتراع المر لدرء الأمرّ منه.

لقد مؤّل المجتمع الدولي القوات الأفريقية التي تقودها يوغندا في الصومال، وقد ساهم وجودها في توفير قدر كبير من الاستقرار هناك؛ لوضع هو أكثر تعقيداً بكثير من وضع الجنينة. لقد عمل المجتمع الدولي وعبر فرنسا مع الحكومة التشادية لإرسال قوات للتعامل مع (القاعدة) في مالي وشمالي أفريقيا، نجحت في مهمّتها. ما يجري في الجنينة، تتأثر منه دول الجوار بشتى النواحي وخاصة تشاد، حيث الاختلال الأمني على حدودها وتدفّق للاجئين على ما ظلّت تتحملها من موجات اللجوء السابقة، وضغط اقتصادي على مواردها واقتصادها. لا أدري، هل يمكن أن ينظر المجتمع الإقليمي والدولي (الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، الرباعية، الثلاثية، المبادرة السعودية الأمريكية)، أياً من هذا الكل، ينظر في الاتفاق على تشكيل قوة إقليمية على نظير النماذج السابقة التي ذكرتها وتوفير الدعم لها، وليكن الدعم نفسه ديناً على السودان يسدده لاحقاً؛ فيتم نشر هذه القوات تحت راية حفظ السلم والأمن الدوليين في الجنينة وما حولها بمهمّة ومدة محددتين إلى حين ترتيب وحل أزمة الدولة في السودان؟ بالطبع يجب على السودان أن يوافق على مشروع من هذا القبيل، ولتكن هي بداية التعاطي الجاد مع الأزمة. نجاح مهمة بهذا المفهوم يرفع عن كاهل المواطن حجم المعاناة، ويرفع عن دول الجوار وخاصة تشاد، أعباء استقبال آلاف اللاجئين، كما يقلل خطر الانفلات الأمني عند حدودها. نجاح مهمة بهذا الشكل سيشجّع بقاء الناس حيث يتواجدون ليواصلوا دورة حياتهم الطبيعية، وقد يشجّع اللاجئين السابقين إلى العودة. لا مجال هنا أن يقول البعض عن كيف للسودانيين أن يبحثوا عن أمان توفره لهم قوة دولة أخرى في بلادهم؟ حريٌ لمن يقول ذلك، أن يسأل، ما بال الفرار بحثاً عن أمان ومعاش في بلاد الآخرين؟ هذا الحل هو على أي حال أمان انتقالي، ريثما يتمكن السودانيون بمعاونة الآخرين من معالجة أزمتهم الكبرى بشكل نهائي.

عبد الجبار محمود دوسة

jabdosa@yahoo.com

 

آراء