تخَيّرْتُ جُهْدي لو وَجدْت خِيارَا.. وطِرْتَ بعَزْمي لو أصَبْتُ مَطارا
جَهِلْتُ فلمّا لم أرَ الجهْلَ مُغْنِياً.. حَلُمْتُ فأوْسَعْتُ الزّمانَ وَقارا إلى كم تَشكّاني إليّ رَكائبي.. وتُكْثِرُ عَتْبي خُفْيةً وجِهارا أسِيرُ بها تحتَ المَنايا وفوْقَها.. فيَسْقُطُ بي شَخْصُ الحِمامِ عِثارا أبو العلاء المعري
الشاعر أبو العتاهية
(1) نورد هنا جزء من قرار محاكمة الخليفة محمد شريف في دولة خليفة المهدي: { ...نظرا لما حصل منه من نقض العهد، وعدم استمراره على التوبة السابقة، اقتضى نظر أصحاب المهدي عليه السلام، طبق الوجه الشرعي وضعه بالسجن تأديبا له. ولولا اظهار التوبة الذي حصل منه لكان جزاؤه أعظم من السجن. وقد ثبت جميع ذلك لدى أصحاب المهدي عليه السلام. 1309 - 7 أغسطس سنة 1891 / 25 يوليو 1892} * أورد البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم في سفره ( منشورات المهدية ) الملاحظات الآتية ص 109-110: { يثير العلماء والأعيان هنا إلى نزاع الأشراف والخليفة عبدالله الأول، والذي ظهر بعد وفاة المهدي والخلاف بين الأشراف والخليفة عبدالله، خلاف واسع وهو يرجع إلى أوائل المهدية. وقد نازعه الأشراف نزاعا شديدا، عندما عُيِّن نائبا للمهدي، فأصدر المهدي منشور عن الخليفة ومنصبه. وبعد وفاة المهدي خطط الخليفة عبدالله لإبعاد الأشراف، والعناصر الموالية لهم من القيادات بينما استنفر الأشراف والعناصر الموالية لهم، بينما استنفر الأشراف قوتهم لتصفية حسابهم، الا أن عبدالله بادرهم، وصفى قوتهم ثم سوى النزاع باتفاق فيه الغلبة للخليفة عبدالله. * والمواجهة الثانية والتي وقعت في سنة 1891. وقد تحرك الإشراف لشعورهم بأن حقهم ضائع، وأن الخليفة محمد شريف قد أهمل أمره، وأعدوا مؤامرة للقضاء على الخليفة عبدالله . وقبل أن يحدث شيء علم الخليفة عبدالله بالأمر، وأوشك أن يقع صدام لولا لجوء الخليفة للحيلة والتدبير. وفي النهاية اتفق الجانبان على أن يسلم الأشراف سلاحهم، وأن يكون للخليفة شريف مقامه لدى الخليفة. لكن الخليفة عاد فقبض على بعض زعماء الأشراف وقتلهم. واحتجاجا على هذا، أبدى الخليفة محمد شريف تذمّره وتوقف عن الصلاة في المسجد العام.}
(2) إن صدور منشور لا يحسب البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم أن مصنفات رسائل المهدي لم تنقله. وما حسب البروفيسور أن كانت تسقط منشورا مهما. وقد اعتمدت على الوصية من المهدي في ساعاته الأخيرة ذكرها الخليفتان والأشراف والأنصار، في وثيقتهم عن تولية الخليفة عبدالله، ولم يشر هؤلاء إلى أمر مكتوب من المهدي بتولية عبدالله منصب خليفة المهدي بعد وفاته. ويحسب البروفيسور أن هناك خلطا بين الأمر ترتب على وفاة المهدي ،والذي وضعت أسانيده وثيقة الخليفتين والأشراف، وبين وضع منصب الخليفة عبدالله ومكانته في عهد المهدي، والتنظيم الذي وضعه في المركز الثاني بعد المهدي، وقد كتب المهدي منشورات كثيرة أمر فيها أصحابه بالطاعة المطلقة للخليفة عبدالله، وتنفيذه أوامره لكونه نائبه وقائد جيشه، ولكن ليس هناك ذكر لما ينبغي أن يكون بعد موته.
(3) ولد الحاردلو- محمد أحمد أبوسن في 1830 وتوفى في 1918 . نشأ الحاردلّو في ظروف ساعدته على الحياة، فيها كثير من الترف البدوي وأعانته تلك الظروف على حب الحياة والإقبال عليها ، فركب الفاره وتبطن الحسناء، وأكل الطيب حتى مله ، ولبس اللين حتى استخشنه . وحين أذنت شمس الشباب بالزوال، وأفلتت شموس أخرى في حياة الشاعر، وتبدل اليسر عسراً والقوة ضعفاً وجُرِد الشاعر من الرئاسة والمال، واعتُقل وسُجِنَ في أم درمان هو وعدد من إخوانه وأهله. سجنه الخليفة عبد الله لمعارضته لنظامه بعد المهدي. وقد سجل هذا كله في شعر خالدٍ خلود الزمن نفسه. *
أورد الشاعر الكبير إبراهيم العبادي في تسجيل تلفزيوني في سبعينات القرن العشرين، ما يطلقون عليه (الفسخو الحاردلوا ) على وزن المثل ( الفَسَخو بلّه )، أي ما تم قوله ثم نقضه . النص الأول: وقف محمد أحمد أبو سن ( الحاردلو) وهو شقيق ناظر الشكرية، في معرض شفاعته للخليفة محمد شريف الذي سجنه الخليفة عبدالله: فوقْ لَقَى فوق مَحَنْ في الجَّاية ما بتتمحَّنْ وفرَّاج كُربة الهمَّ القَبايلُو يزحَّنْ وَكِتْ حَسَانتك أسّيتن قِبيل ما صَحَّن صَبر أيوب بتتقلبُو الليالي إن شَحَّنْ
فغضب الخليفة عبد الله وتجنب النظر إليه، ومرّ الحاردلو أمامه مرة أخرى لينقض ما قاله سابقاً: النص الثاني: عِجل البُرْبُرْ الوقَّف قُرُونو شَرَاتي نَطَح الصومَعة ولاماتُو جَايي يِتاتي وَقتْ الطار مَرَقْ رِكبَ السَّديس العَّاتي واللهِ البِوَاردَك في مَشارعَكْ رَاتي
(4) لغة عميقة الشاعرية والوصف والبلاغة، مع استخدام مميّز لمفردات لغة البطانة، وقد يتساءل من يرى فروقاً بيّنة بين نوعي الشعر، المأخوذة مفرداته من عامة اللغة، واقرب توسطاً إلى المباشرة، في حين نجد العمق البلاغي، والأوصاف المرتّبة، يمكنك أن تتعرف على الفروق التي يمكن أن تقود إلى نكران الأبيات البسيطة المعنى في نسبتها إلى الشاعر، في أنا نرى أن الأبيات جميعها من خبرات تنوع شاعرية الحردلو، ومعظمها المرتجل في لحظته يجاري الأحداث، ومنها ما صبر عليه والوقوف على تجويد صناعة الشِعر ،كما هو مبين في الأبيات المذكورة، بنوعيها في مسألة سجن " الخليفة محمد شريف ". * لا بد أن يكون مرافقي الخليفة عبدالله قد أخبروا الخليفة، أن شاعر البطانة الحاردلو قد قدم للشفاعة عن الخليفة محمد شريف، إلا أنني أتشكك في فهم الخليفة عبدالله للغة البطانة، وقد يكون الفهم غائما لأن جدي قد أخبرني في ستينات القرن العشرين، وهو يحاكي لغة الخليفة عبدالله العامية العربية الدارفورية، إذ شهد وهو طفل الخليفة عبدالله. و تختلف لغة الخليفة عن اللغة العامية العربية عند أهل البطانة. * سبق أن ذكر الدكتور الراحل محمد الواثق، وهو المشهور بتدريس علم العَروض في الشَعر العربي في قسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم، وهو كان مدير مجمع اللغة العربية ، قد صرّح بأن اللغة العربية الفصحى ولغة البطانة هما من أصل لغوي واحد.