الحزب الشيوعي الإسلامى … بقلم : محمود عثمان رزق

 


 

 

morizig@hotmail.com

 

 

نجد فى السيرة روايات تفيدنا بأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد اعتنى بالأسماء ليس من باب التفاؤل فقط ، بل لعلمه التام بأن المعنى اللغوى للإسم يؤثّر على صاحبه ايجابا أو سلبا إنسانا كان أو حيوانا أو جمادا أو مدينة أو غيرها ً .. ولذلك نجده قد غيّر إسم المدينة المنورة من "يثرب" - والتى تعنى الملامة أو الفساد فى بعض الأقوال - إلى "طابة" أو "طيبة". وكان يتفائل بالأسماء الحسنة فقد أمر فى مرة من المرات رجلا  بحلب شاة ، فقام الرجل يحلبها ..

 

فقال له رسول الله (ص) : ما اسمك ؟

 قال الرجل : ُمرة

 فقال رسول الله (ص) : إجلس

 فقام آخر ،

فقال رسول الله (ص) : ما اسمك ؟

قال الرجل : حرب .

قال رسول الله (ص) : إجلس

فقام ثالث،

فقال رسول الله (ص) : ما اسمك ؟

قال الرجل : يعيش .

 فقال  رسول الله (ص) : احلبها.

 

وفى صلح الحديبية عندما أرسل المشركون  سهيل بن عمرو مندوبا عنهم ليفاوض بنود الصلح، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى سهيلا  مقبلا نحوه : " قد سهل لكم من أمركم " .

 

وغيّر النبي صلى الله عليه وسلم الأسماء ذات المعاني اللغوية السيئة  إلى أسماء حسنة لطيفة منها:

 

تغيير إسم  "حرب" إلى  "سلم".

 

وسمى" المضطجع" بالمنبعث.  لأنّ الإنبعاث علامة النشاط والإضطجاع علامة الكسل.

 

وسمى واديا يعرف باسم " عفرة " بوادى خضرة .

 

وسمى " شِعب الضلالة "  بشعب الهدى ..

 

وسمى " بني مغوية " ببني رشدة ..

 

وسمى صحابيا كان إسمه "عبد الكعبة " بعبد الرحمن هادم الأوثان

 

ولكن لم يستطع رسول الله (ص) تغيير كل الأسماء التى إستقبحها، وذلك لتعنت أصحابها وتمسكهم وتعلقهم بها!!

 

فقد روى أنّه سأل صحابيا عن إسمه؟

 

فرد الصحابى قائلا: إسمى حزن بن أبى وهب (و حزن هذا هو جد الرجل الصالح  سعيد بن المسيّب الذى قتله الحجاج)

 

فقال رسول الله (ص) : بل أنت سهل

 

فرد الصاحبى قائلا : لا يا رسول الله ، إنّ السهل يوطأ ويمتهن، بالإضافة إلى أنّ هذا الإسم هو إسمى الذى سمانى به أبى وعرفت به بين الناس!!

 

قال  سعيد بن المسيب تعليقا على فعل جده : فظننت (أى تيقنت) أنّه سيصيبنا بعده حزونة - يعني شدة وغلظة في التعامل - ، وبالفعل لقي سعيد وأهله غلظة فى التعامل من الحجاج بن يوسف أزهقت روحه الطاهرة عدوانا وظلما .

 

 

فمن الواضح جدا من قصة حزن تلك أنّ الرسول (ص) كان يعتنى بالجوهر والمظهر على السواء فهو يريد أن يوفّق بين المظهر والجوهر ما أمكن، فإن لم يستطع التوفيق بينهما ركّز جهده على الجوهر دون المظهر ما لم يكن المظهر شاذا كمن يحمل إسما يدل على عبادة غير الله  فيسمى نفسه أو يسمه أهله "عبد الشيطان" .  فهو فى قصة حزن هذه لم يصر على تغيير الإسم لأنّ صاحبه قد تمسك به وأصرّ عليه ، بالإضافة إلى أنّ إسم "حزن" فى حد ذاته لا يتعارض مع جوهر الدين فى شئ بالرغم من تعارضه البيّن والواضح مع الذوق العام الذى يرجى فيه إشاعة روح التفاؤل.

 

وقد تفائل الناس عندما عقد الحزب الشيوعى السودانى مؤتمره الخامس بعد أن بلغ من الكبر عتيا، وبالأخص تفائل كثير من المراقبين فى الداخل والخارج وإنتظروا المولود الجديد بلهف شديد، وكانوا يتطلعون أن يسمعوا من الحزب وهو شيخ بعد أن كلمهم فى المهد وهو صبيا! إنتظروه ليكلمهم بالجديد ويحسم لهم عدة نقاط تهمهم كمواطنين سودانيين ومراقبين سياسيين يتطلعون لتطبيع علاقة الحزب معهم ومع معتقداتهم، ومن هذه النقاط :

 

1-     موقف الحزب من الدين

2-     موقف الحزب من الماركسية

3-     إسم الحزب

 

 

ولكن خاب ظن الناس عندما أصر الحزب على إسمه الذى سماه به أبوه وعرفه به الناس!!   نعم ، إن كلمة " شيوعى" من الناحية اللغوية البحتة لا غبار عليها ، ومن الناحية الفقهية أيضا لا غبار عليها ، ولكن هذه الكلمة من الناحية السياسية والتاريخية تلقى بظلال عقائدية كثيفة وأحداث داخلية وخارجية مؤسفة وعنيفة تهيج النفوس الساكنة ليس فى السودان فحسب بل فى كل بلاد المسلمين، و لذلك نجد كلمة " شيوعية " تقف لمسلمى السودان وغيرهم فى حلوقهم لا يستطيعون بلعها!!  وقد يستطيعون  بلعها إذا جردت تماما من آثار الفكر الماركسى وألبست لباسا إسلاميا أو وطنيا.

 

ومن التعنت العجيب الذى يقف عنده المراقب أنّ يرى الحزب مقتناعا تماما بموت الشيوعية فى العالم - وقد أقرّ بذلك كبار مفكريه وقادته من أمثال الخاتم عدلان وغيره -  وفى الوقت نفسه لا يرى موقفا واضحا ولا بيانا  ولا قرارا من الحزب يلفظ فيه الماركسية.!!  بل فعل الحزب عكس ذلك تماما عندما أصر على التوجه الماركسى وتمسك به فى مؤتمره الأخير الذى عقد فى قاعة الصداقة!! . وبما أنّه لم يستطع حسم موقفه من الماركسية التى ماتت لم يستطع كذلك تحديد موقف واضح من الدين يريح به الناس بالرغم من إحترافات قادته ومفكريه العلنى والضمنى بأهميته وفاعليته فى حياة المجتمع السودانى.   ووفقا للإستاذ تاج السر بابو (وهو أستاذى فى الثانوى)  أنّ  تقرير المؤتمر الرابع للحزب الشيوعى المنعقد فى عام  1967 أوصى خيرا بالدين وبجعله عاملا يخدم مصالح الشعب،  وذلك بيّن فى النص الذى أورده الأستاذ والذى يقول : (اصبح لزاما علي حزبنا أن ينمى خطه الدعائي حول الدين الاسلامي وعلاقته بحركة التقدم الاجتماعي. لقد جرت محاولات متقطعة من قبل اعضاء حزبنا في هذا المضمار وتنقصها التوفر علي الدراسة العميقة والالمام بعلم الفلسفة من جوانبه المختلفة ولاتشكل خطا دعائيا ثابتا لحزبنا) (ص، 169، طبعة دار عزة، 2008م)، ووفقا للأستاذ بابو أنّ الهدف الاساسي من تلك التوصية الحزبية فى ذلك المؤتمر هو (جعل الدين الاسلامي عاملا يخدم المصالح الأساسية لجماهير الشعب ، لا اداة في يد المستغلين والقوى الرجعية التي لا ترتبط بثرى هذا الوطن في مصالحها وتطلعاتها)(ص، 169).

 

ولكن كما ذكرنا فشل الحزب بالرغم من هذه التوصية حسم موقفه تجاه الدين فأصبح الشيوعيون بهذا الموقف مذبذبين لا ينتمون لهؤلاء ولا إلى هؤلاء!!  ومن باب التردد هذا  دخل عليهم أعداؤهم يرجمونهم بالحجارة ويطالبون بحله مرة ثانية وحجتهم فى ذلك عدم وضوح الرؤية الفكرية للحزب.  كما ييتهمون الحزب بالحنين إلى الماضى الذى يرفضونه تماما ويصرون على كفر من دعى إليه . وفى هذا الإطار كتب الصحفى ضياء الدين البلال قائلا : "رغم أن دعوة تكفير الحزب الشيوعي لم تستطع إعادة سيناريو شوقي والمعهد العلمي بأم درمان، لكنها جدّدت سؤال الدين بالنسبة للحزب العتيق، الذي ظل باعتراف سكرتيره العام محمد إبرهيم نقد، طوال تاريخه يهرب من مهمة الوصول الى إجابات نهائية في موضوع الدين، إجابات تقنع العضو وتلقم العدو..!

رُب ضارة نافعة.. بعيداً عن الضغط والابتزاز التكفيري.. قد يدفع ما حدث الحزب الشيوعي بأن يقدم رؤية واضحة ومتماسكة تحدد موقفه من الدين، وألا يكتفي برد الاتهامات الإلحادية بأدوات النفي فقط.. فهي في كثير من الأحيان تعجز عن إسعاف المواقف..!"

 

ولكى يسعف الحزب الموقف أمامه أربعة خيارات لا خامس لها له أن يختار واحدة منها وهى:

 

1-     إمّا أن يصرّ على أفكاره وإسمه ومواقفه التى نشأ عليها

2-     وإمّا أن يحل الحزب نفسه ويوقف نشاطه السياسى والفكرى

3-     وإمّا أن يلفظ الماركسية ويبقى على الإسم

4-     وإمّا أن يلفظ الماركسية والإسم معا

 

 

وفى نظرى أنّ كل هذه الحلول ستجد ترحيبا حارا إلا الحل الأول، وذلك لأنّ الشعوب المسلمة الآن ليس فيها موطء قدم للشيوعية بعد أن تراجعت وماتت.  وأسهل هذه الحلول فى نظرى أن يبقى الحزب على إسمه ويغيّر من أفكاره كما أوصى المؤتمر الرابع وكما أوصى عدد كبير من الشيوعيين فى مؤتمره الأخير، وبما أن الشيوعيين السودانيين أبناء مسلمين ويصلون ويصمون ويزكون ويحجون فمن باب أولى أن يجعلوا الدين مرتكزا لنشاطهم السياسى والفكرى وأن يستفيدوا من تجاربهم الغنية وإطلاعهم الواسع على المذاهب الأخرى فى تمحيص و تطوير المقولات الدينية ويجعلوا من الدين منشّطا للشعوب للوصول للمقولات العدلية والتحررية التى ينادون بها إرتكازا على الفكر الماركسى.  فالفكر الإسلامى يحتاج لتطوير لأنّ عملية الفكر هنا تعنى إعمال العقل المسلم فى فهم ومقاصد النصوص، ولذا يختلف الفهم من عصر إلى عصر ومن مصر إلى مصر ومن شخص إلى شخص ولا أحد يدعى قداسة للفكر الإسلامى وإنما القداسة لمصادر التشريع الإسلامى التى تنحصر فى الكتاب والسنة بلا خلاف.  وقد تساعد طبيعة الشيوعيين الناقدة والمتحررة من العصبية لمذهب من مذاهب الفقه الإسلامى أو مدرسة من مدارسه أو شيخا من شيوخه  فى تطوير كثير من المسائل السياسية والإقتصادية فيسدوا بها الفجوة بين الدين وعالم السياسة والإقتصاد، ويهتموا بالمحتوى الاجتماعي للدين الذي يتمثل في تحرير الانسان من الجوع والخوف والفقر والامية والتنمية وتوفير احتياجات الناس الأساسية،.  وأخيرا كما يقول  الأستاذ تاج السر بابو: " .. يبقي واجب الدراسة العميقة المستندة الي تلك التجارب حول ضرورة أن يكون الدين الاسلامي كما نشأ عاملا لخدمة التقدم الاجتماعي والاستنارة ويقف الي جانب المستضعفين في الارض ، ويخدم الاستنارة والديمقراطية والعقلانية واحترام حقوق الانسان ، لا أن يكون اداة في يد القوى الظلامية ..."

وإذا كان الشيوعيون ينتقدون حركات الاسلام السياسي في العالم العربي والاسلامي لأنّها " لم تركز علي المضمون الاجتماعي للاسلام ، بل اختزلت الاسلام في العقوبات والحدود " كما يقول الأستاذ بابو،  فها هى الفرصة متاحة أمام الشيوعيين لتقديم أطروحات فكرية تساعد فى إستخدام الدين فى حل المشاكل الإجتماعية والإقتصادية وتقديم بديل فكرى وحزبى مبنى على الدين أيضا ينافس حركات الإسلام السياسى السلفى ويسحب البساط من تحت أرجلها!!  وطالما أنّ الشيوعيين يؤمنون كما يؤمن بقية المسلمين بأنّ القرآن الكريم  ليس حكرا على حزب ولا جماعة ولا شيخ ولا مذهب ولا جنس،  فليس للشيوعين عذر من أن يجعلوا القرآن منطلقا ينطلقون منه نحو الإصلاح الإجتماعى ، والفكرى، والسياسيى، والإقتصادى فى بلادهم الإسلامية، ويجب ألا تمنعهم الخصومات السياسية مع الحركات الإسلامية  من النظر فى القرآن والسنة وتصحيح مسار الحزب وفقا لهذين المصدرين المشاعين!!

       

أما إذا أصر الحزب على أن يمشى فى خطاه القديمة، فسوف يكون جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل، وسوف تعصف به رياح التيار السلفى وتلقى به فى مكان سحيق، وهى رياح عاتية لن يقدر الحزب علي مقاومتها أكثر من خمسة عشر عاما من الآن ، و بعدها سيصاب الحزب بشلل تام بسبب وفاة قياداته أو مرضهم أو كبر سنهم ونفاد طاقاتهم.  فإذن، ليس من الحكمة أن يستخف أو يتجاهل الحزب قوة هذه الرياح ، وليس من الحكمة أن يظل يبكى على الأطلال والأمجاد القديمة كما يبكى العرب على ماضيهم ، وليس من الحكمة أن يعادى الحزب الحركات الإسلامية ويلاسنها بصورة توغر عليه النفوس وتسد عليه باب إصلاح ذات البين وتستعدى عليه هذه الحركات ، و ليس من الحكمة فى شئ أن يظل الحزب جامدا فكريا والجمود ضد التقدمية!! ، وليس من الحكمة فى شئ أن يهاجم الحزب سياسات لا يملك بديلا لها ولا يملك برنامجا سياسيا واضحا يقدمه للجمهور ولا قيادات جديدة يقود بها، وأخيرا ليس من الحكمة فى شئ أن يتخفى الحزب وراء الأستاذ محمود محمد طه لأنّ الرجل كان رجل دين أيضا وله مواقف معلنة ومكتوبة ضد الشيوعية!!  والجدير بالذكر أنّ كل أطروحات محمود محمد طه مبنية على أسس دينية وليست على أسس ماركسية!!  فليس هناك ما يجمع بين محمود محمد طه والحزب الشيوعى إلا العداء السافر للحركات الإسلامية كلها ، وفى الحقيقة ما يجمع بين محمود والحركات الإسلامية أكبر وأكثر من الذى يجمع بين محمود والشيوعيين!!  فإذن التخفى وراء محمود محمد طه هو نوع من الإستغلال وليس الإستقلال وهذا عيب أيها السادة !!

 

آراء