الخيال السياسي المفقود

 


 

عمر العمر
10 December, 2023

 

لأن المقاربة في جدة خاطئة فكل رهان عليها خاسر .فالإقتتال الدائر طوال ثمانية شهور هو صراع سياسي على السلطة.لا يبدل ذلك ما إذا بدت الحرب بين فريقين من داخل نظام الإنقاذ أو بين أحدهما أو كليهما في مواجهة قوى الثورة. لكن الخاطئ في المقاربة اسناد مهمة إخماد الصراع إلى مقاتلين أشرار .هذا يفضح أننا لا نزال أسرى عقلية نظام الإنقاذ إذ ظل يغلّب على نهجه السياسي ، الاجتماعي والثقافي الاستراتيجية الأمنية . صحيح إطفاء نار الحرب القذرة مطلب وطني لا يُعلا عليه لكن هذا لواجب الملح لن ينجزه مقاتلون مسلحون غارقون في الرذيلة . بل ينهض به سياسيون أصحاب رؤى يدركون جذر الصراع ومفاصله وآفاقه . المؤسف ارتضاء الساسة الإبعاد عن مائدة التفاوض دون محاولة المشاركة أو على الأقل المناداة بوضع القضية بين يدي سياسيين من طرفي الحرب اختزالا للوقت إن لم يكن تعميقاً للرؤى.
*****
رهن القضية باسكات المدافع ارتهان للعقلية الأمنية ،بينما المسألة ليست عسكرية إلا بقدر ما يريد طرفا الحرب النتنة الخروج الآمن أو بأدنى الخسائر. هكذا بتنا نترقب من الزوايا الخاطئة نتائج لن تأتي ولو متأخراً. فمحور المفاوضات ليس عسكريا بل شأن سياسي محض لا ينحصر ولا ينبغي له في فك اشتباك أو تأمين انسحاب أو تبادل أسرى. هكذا حول الموفدون القتلة تحت سحب الغفلة المبثوثة منذ ضحى الثورة طاولة المفاوضات إلى ميدان حرب بتراشقون فيه بشروط تعجيزية بغية تركيع الطرف الآخر حد الاستسلام أو على الأقل قبول (الخروج بكرامة) طالما ليس في الإمكان انتزاع مكاسب .لهذا تحولت المفاوضات امتدادا للاقتتال على الأرض غايتهما استسلام مهزوم .فكما قال شارل ديغول (من لايستطيع كسب الحرب لن يكسب السلام)
*****
ففي سياق العقلية الأمنية المهيمنة الموروثة من الإنقاذ يتمكن من المفاوضين الهم بحتمية هزيمة الطرف المقابل أكثر من التوجه إلى بلوغ تسوية سلمية مشتركة تنهي عذابات أجيال من بنات وأبناء الشعب.مثل هذا الهم لا يراود ضمائر المفاوضين أو يرد على عقولهم على نحو يشكل بنداً ملحاً ينبغي حسمه على نحو فوري . هذه المعادلة المختلة لن تصحهها العقلية العسكرية. تلك مهمة يضطلع بها سياسيون مهجوسون بشأن ملايين المعذبين في الملاجئ والمنافي القسرية ووبناء الدولة.مجاراة لقناعات الزعيم الفرنسي العملاق يمكن القول باطمئنان أمر الحرب والسلام أخطر من تركه بين أيدي العسكر .
*****
من آفات الاستراتيحية الأمنية المهيمنة إبان عهد الإنقاذ تجريف الأُطر السياسية .فتبديدها لم يقتصر على جبهة المعارضة بل طالت كوادر الحركة الإسلامية نفسها .فكما قال العراب الراحل حسن الترابي النظام سقط (من الدرج الصاعد نحو الرشد إلى الطغيان والظلم والإستبداد.....حيث انبرى طاغية حوله زمرة من المفتونين بالجاه والسلطان والمال العام) عقب المفاصلة. قلة قليلة من الاسلاميين اختارت وقتئذٍ الاعتزال على ربوة خارج دائرةالنظام أو جرى عزلها. البرهان لم يستأنف السقوط من الدرج بل هوى بالممارسة السياسية برمتها إلى الدرك الأسفل .ضعف القوى المدنية فتح أمامه الافق للاستبداد والاستفراد بالسلطة والإفتنان بالجاه والمال العام.فلم يعد يركن إلى ظهير سياسي ألا بقدر ما يعزز بقاءه على رأس السلطة.هذا مفصل تحالفه ثم تقاتله مع حميدتي.
*****
ذلك التجريف الممنهج على الساحة السياسية أخلى المشهد من ساسة يتمتعون بحسٍ وطني عالٍ معزز بالخيال السياسي -لا أقول تدني الوعي-المواكب لمشاعر وطموحات الثوار غداة الإنتصار المبهر على نظام الإنقاذ. هذا القصور أفضى إلى الاستسلام للجنة الإنقاذ الأمنية ،ثم الإكتفاء بالفرجة على اختطاف سلطة الثورة ثم اصطراع جناحي النظام المسلحين ،فمواصلة الفرجة من مقاعد الترقب لنتائج محادثات جدة وجهود خارحية أخرى. هذا القصور في الخيال أفرز وضعا استثنائيا إذ يعايش الوطن حالة فراغ سياسي هيولي خارج التوصيف التقليدي لمصطلح الدولة. بفعل هذا العجز تحول الحراك الجماهيري العارم إلى ما يشبه الهياج والفوضى.لكن في المقابل لم يدرك العسكر وحلفاؤهم المسلحون ان الشعوب حينما تثور لا تستسلم لسلطة القوة مهما مارست من عنف مضاد.
*****
من آفات هيمنة الاستراتيحية الأمنية للإنقاذ تجريف مؤسسة الجيش كذلك من العقيدة وعناصر التربية العسكرية المسلحة بالكفاءة .فلم يعد في قوامها رجال من أمثال عبدالرحيم شنان يثأر لكرامته العسكرية فيزحف بجنده فيطوق مجلس عبود العسكري فيجبره على تصحيح مايراه مساسا بوضعه أو اجحافا في حقه. كما خلا الجيش من ضباط من طراز هاشم العطا ينفذ انقلابا داخل الإ نقلاب من منطلق قناعة بتصحيح المسار.كما لم يعد ثمة ضباط من ذوي الرتب الصغيرة تتمكن منهم روح المغامرة التاريخية من طينة خالد الكد لقيادة مجندين تمردا على (جونتا )لم يعد يتفق مع سياساتها.فجيش الإنقاذ عجز عن الدفاع عن كرامته كما حماية مؤسسات الدولة ومقاره مثلما اخفق في تأمين البيوت ، الاطفال والنساء.
*****
الرهان على استرداد الدولة المدنية بمساهمة الدعم السريع هو رهان خاسر كذلك. فحتى إذا حقق الجنجويد انتصارا حاسما على الجيش فإن تنازله عن السلطة لن يتم إلا وفق شروط سيلجأ حتما إلى إملائها .فليس من منطق المنتصرين تقديم التنازلات فما بالك اذ المنتصر ميليشيا مسلحة . ربما يدرك قادة الدعم السريع حاجتهم إلى المدنيين من أجل تسيير دولاب الدولة إذ ليس في قدراتهم تفعيله.لكن على المراهنين على تحالف متخيل مع الميليشيا مشردة ملايين الأبرياء من بيوتهم مطالبتها بمبادرات من شأنها فتح حوار مع القوى السياسية المنهكة .إذ ربما تفتح تلك المبادرات رضا المواطنين لاسترداد بعضا من ثقة مضاعة في مستقبل آمن. كما ربما تولّد بعض المغفرة عن جرائم التشريد والنهب والاغتصاب وتعطيل الحياة. لكن من الغفلة وقصور الخيال السياسي تحريض القوى السياسية على المبادأة بفتح حوار مع الجنجويد. فهذا أشبه بلجوء الضحية إلى الجلاد!

aloomar@gmail.com

 

آراء