الدرس الفيتنامي لأمريكا 1954-1975 … بقلم: بابكر عباس الأمين

 


 

 

 

abass_a2002@yahoo.com

 

كانت فيتنام مستعمرة فرنسية منذ القرن التاسع عشر, ثُم إحتلها اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد الإنسحاب الياباني, قرر الزعيم الشيوعي هوشي منَّه إعلان الإستقلال ولكن فرنسا رفضت الإعتراف به. كما عارضت بريطانيا لأن ذلك كان سيشجع مستعمراتها علي المطالبة بالإستقلال. وسعي هوشي منَّه لإعتراف أمريكا, حين بعث برسائل للإدارة الأمريكية إلا أن ترومان لم يرد علي رسائله. لذا قرّر العودة للكفاح المسلح ضد الفرنسيين, مما إضطرهم للإنسحاب بعد أن كان عدد جنودهم الذين قُتلوا 45 ألف.

 

وقبيل الإنسحاب, دارت محادثات سلام في جنيف إلتقي فيها الفرنسيون والفيتناميون في أوائل 1954 بحضور ممثل لكلٍ من الصين والإتحاد السوفيتي وأمريكا وبريطانيا. توصل المؤتمر إلي إتفاقية تنص علي فصل مؤقت لفيتنام علي طول خط العرض 17, علي أن تقوم حكومة برئاسة هوشي منَّه في الجزء الشمالي وعاصمته هانوي, وأخري من حلفاء فرنسا السابقين في الجنوب وعاصمته سايقون. كما نصت الإتفاقية علي إجراء إنتخابات عامة بعد سنتين في شطري فيتنام لتوحيدهما. ونصت الإتفاقية علي عدم إرسال الدول المشاركة في مؤتمر جنيف أي جنود أو عتاد عسكري لشطري فيتنام خلال هاتين السنتين. إنسحب الفرنسيون في أكتوبر 1954 ووجد هوشي منَّه شعبية طاغية لقيادته للكفاح من أجل الإستقلال.

 

اّل الحكم في فيتنام الجنوبية لتقو ديم, الكاثوليكي المعادي للشيوعية. وكان ديم قد تلقي تعليمه في أمريكا عام 1950, وأسَّس علاقات سياسية مع وزارة الخارجية وبعض أعضاء الكونغرس وإلتقي بالسناتور جون كيندي.عاد ديم إلي فيتنام الجنوبية قبل شهور من إنسحاب الفرنسيين وتم تعيينه رئيساً للوزراء عام 1954. وفي العام التالي, عدل الدستور ومنح نفسه سلطات مُطلقة وأقال الإمبراطور وعيَّن نفسه رأساً للدولة. كما عيَّن مجلساً للوزرء طغي عليه أقاربه, وسيطر مجلس الوزراء علي المؤسسات السياسية والإقتصادية في الدولة.

 

وبما أن هوشي منَّه قد وجد شعبية كبيرة, فقد أدرك الأمريكان أنه سيكتح الإنتخابات المقررة بعد سنتين في شطري فيتنام, وبالتالي يصبح رئيس لفيتنام الموحدة. لذا عمل وزير الخارجية الأمريكية دالاس لجعل أمر التقسيم دائما. وبعد مجيء كيندي للبيت الأبيض عام 1961, زاد الوجود الأمريكي وإرتفع عدد الجنود الأمريكان في فيتنام الجنوبية من 800 إلي 16 ألف. كما تم إرسال أسلحة ثقيلة شملت طائرات حديثة. وقد أوفد كيندي نائبه لندن جونسون إلي سايقون عام 1961. وكان جونسون قد وصف ديم ب "تشرشل جنوب شرق آسيا" لأن أمريكا كانت ترغب - كما في العديد من الدول - في  حكومة واجِهة يقودها رأس قومي يجذب الجماهير وينفِّذ سياساتها. ثم أوعزت الإدارة الأمريكية لديم أن يرفض الإنتخابات المقترحة وتوحيد شطري الدولة. إضطر ذلك هوشي منه لخوض الكفاح المسلح للمرة الثالثة ضد الهيمنة الخارجية (فرنسا, اليابان, أمريكا).

 

في تلك الفترة تم تكوين جبهة التحرير الوطنية (فيتكونق), وهي تحالف عريض شمل أحزاب يسارية ومثقفي المدن ومهنيي الطبقة الوسطي في فيتنام الجنوبية. عملت الفيتكونق في تحالف مع الشمال   وقادت الكفاح المسلح ضد نظام ديم. ومن ضمن أسباب شعبية الفيتكونق في الأرياف سيادة النظام الإقطاعي, وتحالف الإقطاعيين مع النظام. وكانت الطائرات الأمريكية قد قصفت مواقعه الفيتكونق مئات المرات. 

 

كانت القشة التي قصمت ظهر النظام في عام 1963 عندما تجمع البوذيون (ديانة الغالبية) للإحتفال بعيد ميلاد بوذا. عمل النظام علي إلغائه بحجة قرار قديم يمنع التجمعات الدينية, رغم أن الكاثوليك كانوا قد إحتفلوا قبل أيام منه بمناسبة دينية. أدي ذلك لسلسلة من الإضرابات والإعتصامات والإحتجاجات التي تحولت إلي مد شعبي جارف, شارك فيه حتي الذين لا ينتمون لديانة كتعبير عن الظلم الإقتصادي والسياسي. ولما رفض النظام الإستجابة للمتظاهرين, أحرق بعض رجال الدين البوذيين أنفسهم إحتجاجاً, وكان أحدهم قد عمل راهباً لمدة نصف قرن. وعلي صعيد آخر, كانت الفيتكونق قد بسطت سيطرتها علي 20 في المئة من فيتنام الجنوبية.

 

أشار السفير الأمريكي علي الرئيس ديم فرض الأحكام العُرفية, مما أدي لإعتقال المئات من رجال الدين البوذيين, مما قاد إلي مزيد من السخط الشعبي للنظام. وبعد أن تفاقمت الأمور وأدرك السفير الأمريكي فقدان السند الشعبي للنظام, وأنه غير مؤهلاً لإحراز نصر في الحرب ضد الشمال, إتصل بالإدارة الأمريكية للموافقة علي تدبير إنقلاب عسكري. وافق الرئيس كيندي علي أن تُحفظ سلامة الرئيس ديم. إختارت المخابرات الأمريكية جنرالاً في الجيش لقيادة الإنقلاب وتمّ دفع التمويل اللازم له. نجح الإنقلاب وتمت تصفية الرئيس وشقيقه في نوفمبر 1963. ورغم ضلوع المخابرات الأمريكية قبل ذلك في عدة إنقلابات في دول أخري كإيران وأمريكا اللاتينية, إلا أنها كانت المرة الأولي التي تدبِّر إنقلاباً ضد رئيس موال لأمريكا. وبعد نهاية نظام ديم, بدلاً من أن يحث الأمريكان علي إجراء إصلاحات سياسية وإقتصادية, أو تشكيل حكومة مدينة تضم قاعدة عريضة, واصلوا دعم عدة حُكام متسلطين وصلوا للحكم عن طريق إنقلابات.

 

تكثَّفت العمليات العسكرية والوجود الأمريكي في عهد جونسون إذ فاق عدد الجنود نصف المليون. وكانت كمية القنابل التي ألقاها الطيران الأمريكي علي فيتنام الشمالية تعادل ثلاثة أضعاف القنابل التي أُلقيت خلال الحرب العالمية الثانية. إضافة للتفوق الجوي, فإن الجيش الأمريكي قد إستخدم قبائل النابالم وأسحلة كيمائية, مازال بعض الفيتناميين يعانون من آثارها. ورغم ذلك فشل جونسون في إحراز نصر عسكري, كما تضاعف عدد قتلي الجيش الأمريكي. أدي ذلك إلي سخط شعبي في أمريكا ونمو حركة قوية مناوئة للحرب. وقد تضاعف السخط الشعبي عندما قمعت الحكومة مظاهرات الإحتجاج المناهضة للحرب, وقتل فيها الحرس الوطني أربعة طلاب جامعيين. تسبب ذلك في إنحسار شعبية جونسون, لذا قرر عدم خوض الإنتخابات لفترة ثانية.

 

ورغم أن نيكسون قد دعا إلي تهدئة الحرب لتتزامن مع سياسة الإنفراج التي إتبعها مع الصين والإتحاد السوفيتي, إلا أن الطيران الأمريكي قد قصف قواعد الثوار الفيتناميين حتي في كمبوديا المجاورة. ثُم عمل علي تقليص جذري في عدد القوات. وإتبع نيكسون سياسة تحديث جيش فيتنام الجنوبي ليتحمل مسؤولية قتال الفيتكونق وجيش الشمال, ولكن هذا لم يحدث لفساد الحُكام. ثُم أيقن أن حرب فيتنام لا يمكن كسبها لذا قرر إجراء محادثات مع الشمال. توصلَّ الطرفان لإتفاقية باريس في يناير 1973 التي نصَّت علي إنسحاب القوات الأمريكية وإجراء إنتخابات. المفارقة أن هذين البندان هما لُب إتفاقية 1954 التي قوضها الأمريكان.

 

وقبيل توقيع  تلك الإتفاقية, عمل كيسنجر علي تحديث جيش فيتنام الجنوبية بحيث أصبح الرابع في العالم من حيث العتاد بما فيه الطيران.

وبعد إكمال القوات الأمريكية إنسحابها في أغسطس 1973, زحف جيش الشمال صوب الجنوب. وفي أوائل عام 1975, قام مئة ألف جندي من الشمال والفيتكونق بفرض حصار مُحكم علي سايقون. تهاوي النظام علي أثره وهرب الرئيس إلي تايوان وسقطت سايقون في أبريل 1975. ولأن هوشي منَّه قد توفي قبل النصر فقد سُميت سايقون باسمه. 

 

كانت حرب فيتنام أسوأ أزمة تمر بها أمريكا منذ الحرب الأهلية. وقد بلغ عدد قتلي الجيش الأمريكي 58 ألف, بينما فاق عدد قتلي شطري فيتنام, بمن فيهم المدنيين, المليونين. وكانت حرب مكلفة علي أمريكا, إذ بلغ الإنفاق عليها ألفين بليون دولار في الشهر. أدي ذلك لآثار إقتصادية سيئة تسببت في تضخم أعقبه كساد, إستمرت آثاره طيلة عقدي السبعينيات والثمانينيات. أما إجتماعياً, فقد أدت لنمو حركة اليسار الجديد التي إستمدت قوة دفع من الحركة الشعبية المناوئة للحرب, وحركة الحقوق المدنية.

 

وعلي صعيد السياسة الخارجية لأمريكا, تسببت تلك الحرب فيما عُرِف بعُقدة فيتنام, وهي تردُد الولايات المتحدة في التدخل العسكري المباشر في بقية الدول. ورغم أن سبب النزاع كان خشية أمريكا من قيام نظام شيوعي إلا أنه بعد كل هذه الحرب الطويلة المُكلفة إقتصادياً وبشرياً وبيئياً, لم يقم نظام شيوعي في فيتنام فقط بل إكتسح الشيوعيون كل من كمبوديا ولاوس. 

 

 

 

آراء