الديمغرافيا والهندسة الاجتماعية في السودان: دعوة للنقاش

 


 

 

 اصبح العامل الديمغرافي في تحليل البنية الاجتماعية في السودان مدخلا و وسيلة للنظر العميق في الاشكالات 

التاريخية وبناء الدولة الوطنية من المسكوت عنه احترازا، للحساسيات الحقيقية و المتوهمة بعد صعود الرافعة القبلية لواجهة الفعل السياسي والاجتماعي في البلاد ، و صوّر لنا الخطاب السياسي من مختلف المنازع والمصادر ان إشكالات السودان ليست في تكوينات بنيته الاجتماعية ولكن في معالجة قضية ادارة الموارد والعدالة في توزيع الثروة والسلطة.
ان اكبر الاختلالات التاريخية في بنية المجتمع هي قيام الدولة والسلطة بدور الهندسة الاجتماعية بعد ان كان القادة الدينيون ومشايخ الطرق الصوفية والمصلحون الاجتماعيون
والقادة السياسيون والنخب الواعية في المنظومة المدنية صاحبة القدح المعلي في بناء الوعي وتشليكات الهندسة الاجتماعية استثمارا في الولاء القبلي او الديني او الحداثوي. وقد نازعت البندقية والحرب سلطة الدولة في تأثيرها علي الهندسة الاجتماعية بدافع احداث الفوضي وخلخلة البني التقليدية القديمة.
يوصف الدكتور مهاتير محمد الذي يشرف البلاد هذه الايام في اطار فعاليات منبر كوالالمبور بأنه باني نهضة ماليزيا الحديثة ، ليس بصفته تنفيذيا ناجحا وإداريا فذا، ولكن بوصفه قائدا امتلك رؤية للنهضة بدأها منذ تحرير كتابه ( مشكلة الملايو) الذي سبب له كثير من المتاعب السياسية أدت الي تعليق عضويته في الحزب. وهذا الكتاب الذي اشتمل علي نقد عميق لسلوك الملايو ابناء الارض وقدرتهم التنافسية مع القوميات الوافدة من الصينين والهنود أدي الي احسان صيغة قسمة المشاركة في الثروة والسلطة في ظل وجود أغلبية سكانية مستضعفة في اطار الشراكة التاريخية لحزب امنو الذي أقر التمييز الايجابي للاغلبية من قومية الملايو في الاقتصاد والتعليم ومؤسسات الدولة .
ارتبط مفهوم الهندسة الاجتماعية خارج حيّز العلوم السياسية في ظل ثورة انفجار المعلومات بأنه القدرة للسيطرة والتأثير علي سلوك وعقول الأفراد للإدلاء بمعلومات سرية للحصول علي بيانات او اختراق نظم المعلومات مما يجعلها اكبر مهددات الأمن المعلوماتي. اما في مجال العلوم السياسية فهي القدرة علي تغيير آراء او سلوك الجمهرة الشعبية العريضة تجاه قضية وموضوع معين اما بالحملات او ابتداع القوانين والنظم الحكومية الرسمية. وعادة ما تقوم الحكومات بدراسة الظواهر الاجتماعية عن طريق الإحصاءات والبيانات وجمع العينات وتحليل السلوكيات حتي تهتدي الي أنجع السبل للتأثير الجماعي علي سلوك وقناعات الشعب. وقد اشار لذلك بتوسع مفيد فرديناند توريس في كتابه ( مشكلة البنية الاجتماعية).
في التقرير الذي اصدره البنك الدولي عن مشروع الجزيرة في العام ٢٠٠٥ اشار الي اختلال علاقات الانتاج بتأثير العامل الديمغرافي للعمالة الوافدة، ولعل اصدق الاوصاف للوضع الراهن ان السودان يعاني من فوضي ديمغرافية بما يعني غياب رؤية شاملة للهندسة السكانية لتكوين هوية قومية جامعة للنسيج السكاني المتنوع في السودان ، لكن يكمن التحدي الأساسي ان الكتلة السكانية متغيرة وليست ثابتة نسبة لعامل الهجرات والتدفقات المستمرة من دول الجوار والمحيط الإقليمي . وكانت مركزية الثقافة السودانية من قبل تجعل من السهولة استيعاب هذه التدفقات السكانية في مصهر قومي يعطيها المزاج والملامح السودانية وشخصيته القومية، اي بلغة اخري ان عوامل الاندماج والاستيعاب الثقافي للتدفقات الوافدة كانت أقوي من الحاضر الراهن، وزاد من قدرة المجتمع السوداني علي استيعاب هذه التدفقات هو وجود دولة مركزية قوية لها القدرة علي ادارة التنوع عبر النظم والمؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني. وقد مسّ من قبل الدكتور جعفر محمد علي بخيت عَصّب هذه القضية في ورقته ذائعة الصيت عن تنازع الولاءات الفئوية والقبلية واهمية وجود دولة مركزية قوية لصهر تلك الولاءات.
وقد اصابتنا لوثة شوفينية عندما وصف الراحل محمد حسنين هيكل السودان انه محض جغرافيا فقط،.
ان اخطر ما يواجهه السودان في مشروع بناء دولته الوطنية هو اختلالات البنية الديمغرافية وهي ليس ما يسميه المثقفون قضية الهوية ، و ما اعنيه بذلك ان السودان ظل عرضة لتدفقات هجرية كثيفة من دول الجوار والمحيط الإقليمي وأصبح هؤلاء بحكم نشاطهم الاقتصادي خاصة في القطاع الزراعي جزءا أصيلا من تكوينات المجتمع السوداني بعد تراكم عدة اجيال ، لكن مع استمرار هذه التدفقات وغياب رؤية نافذة لأستيعابها ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا ستكون قنبلة موقوتة خاصة اذا علمنا ان سياسات الدول الأوروبية لمحاربة الهجرة غير الشرعية تقوم علي التوطين ، مما يعني تقديم الدعم لهؤلاء الوافدين دون النظر لاحتياجات المجتمعات المستضيفة.
لا توجد في السودان في الوقت الراهن استراتيجية كلية تحدد أهداف الدولة والمجتمع في القضية الديمغرافية ، ورغم توفر المؤسسات الوطنية للاحصاء والسكان علي بيانات وافية الا انها تفتقر الي استراتيجية جامعة لإدارة السكان في اطار من التنوع والتنمية البشرية والعدالة في توزيع الموارد.
ولا يقف العامل الديمغرافي علي التدفقات الوافدة من المحيط الإقليمي بل ان قضيته الحقيقية هي حركة النزوح الداخلي بسبب الحرب وتفكك بنية الاقتصاد الريفي. ولعل اخطر المؤشرات هو ان الحرب اصبحت هي المؤثر الاول في الهندسة الاجتماعية في السودان بسبب النزوح الداخلي الذي انتزع كتل سكانية معتبرة من جذورها الاجتماعية ووطنها في بيئة جديدة لا تتوفر فيها الظروف الملائمة للإنتاج. ونجم عن ذلك وجود مجتمعات من الهامش حول المراكز الحضرية خاصة ولاية الخرطوم ، واكد مسح لغوي تم اجراؤه في حي الإنقاذ بالخرطوم ان اهل الحي يتحدثون ٢٦ لغة مختلفة مما يعكس التنوع الثقافي واللغوي والاجتماعي. لكن هل توجد استراتيجية لإدارة هذا التنوع.
ويتبادر الي الذهن السؤال التالي: ما هي اهم المؤثرات والعوامل في الهندسة الاجتماعية والديمغرافية في السودان؟
يكشف السياق التاريخي لبنية الدولة والمجتمع في السودان ان القادة الدينيون والمصلحون الاجتماعيون خاصة مشايخ الطرق الصوفية كان لهم القدح المعلي في ذلك. فمنذ عهد الدولة السنارية وقدوم الشيخ تاج الدين البهاري وقيام الطرق الصوفية شهد السودان تحولات عميقة في بنيته الاجتماعية.
يضاف الي ذلك عامل الدولة الرسمية فالسودان الحديث جغرافية وتاريخا هو نتاج غزو محمد علي باشا للسودان وتكوين نواة الدولة الأولي، لكن جاء مشروع الدولة المهدية ليشكل اكبر عوامل الهندسة الاجتماعية للسودان المشهود اذ نجح في صهر الولاءات القبيلية والجهوية من اجل التحرر الوطني و النهضة والإصلاح الديني حسب رؤية مؤسسه .
وحسب المقاربة التي ابتدرتها الدكتور النور حمد حول اثر العقل الرعوي في مناهضة المدنية والحداثة ومشروعات النهوض الوطني فإن العقل الرعوي الجمعي هو العامل الأكثر تاثيرا علي تكوينات الثقافة السودانية بأثر انقطاعه عن مصادر الالهام الحضاري في الدولة الكوشية القديمة.
ان كان ثمة نقد لخطاب المشروع الحضاري الاسلامي في السودان فهو حصره لتاريخ الوعي السوداني في قيام الدولة السنارية عام ١٥٠٥ وهو قليل الاحتفاء بمصادر الحضارة الكوشية و السودانية المسيحية القديمة ربما لعوامل ايدلوجية محضة، اما حضارات ما قبل التوحيد الديني القائم علي تعدد الآلهة فهي خارج التاريخ.
بالنسبة للنخب الاسلامية الراهنة.
ان السكوت علي مناقشة العامل الديمغرافي اطار ادارة التنوع وتسريع ادماج التدفقات الهجرية الوافدة من دول الجوار واحتواء الاثار السالبة لحركة النزوح الداخلي خوفا من تراكم حزام من الهامش حول المراكز الحضرية دون تمكينها من امتيازات الحياة الحضرية في التعليم والاقتصاد وحركة المجتمع ستكون له اثارا وخيمة علي المدي الطويل، خاصة وان مصاهر الولاءات القومية بوجود دولة مركزية راسخة وثابتة كانت هي اهم عوامل الاستقرار .
، وبدلا عن عوامل الهندسة الاجتماعية المتدرجة والطوعية التي كانت قوم علي التصاهر والولاءات والتساكن وحراك المجتمع المدني صارت الدولة بحزمة القوانيين والنظم وتنظيمات الاقتصاد هي العامل الأوحد في ذلك، نافسها في ذلك عامل آخر هو الحرب والبندقية . اذ تقوم حركات التمرد بفرض اجندة الهامش في قلب المؤسسة الاجتماعية والسياسية في السودان.
في حديث ثقافي عميق مع باحثة أنثربولوجية من أوروبا الغربية قالت لي ان احد اهم ادوار المرأة في السودان التي تعكس قوتها الحقيقية هي انها تلعب دور المهندس الاجتماعي الخفي لأنها هي التي تقوم باختيار الزيجات وعلاقات التصاهر .
وهي من اهم أركان المؤسسة المدنية والاجتماعية في السودان. رغم أنف الرجال


khaliddafalla@gmail.com

 

آراء