الديمقراطية البرهانية والدولة الحميدتية

 


 

 

في هذه الثورة العظيمة شهدتُ أوّل طلائع لمؤشرات الأمل بواقع سودانٍ جديدٍ معافى وآمالاً ساطعة في الطريق إلى شورى في السودان، وأخصّها بأنها ديمقراطية، وسودانية بالضرورة. كان أبرزها التلاحم العرقي والقبلي والفكري السوداني وسط طلائع الشباب الواعد الذي أمَ الثورة.
للحديث عن ديمقراطية سودانية تتحتّم مقارنة التفاصيل المختلفة لقيام مثل تلك الديمقراطية من حصيلة التجربة العالمية نحو إحقاق الحق ومكارم الأخلاق من علوم الفلسفة والأديان للتعايش السلمي وحفظ الحقوق وحسم الواجبات، مقارنة تلك التفاصيل وتجانسها أو انعكاسها مع إحداثيات تركيبة السودان الحالية والمتبقّي من الآثار الإيجابية لتأريخ نشأته.
الشعب السوداني في هذه الثورة الفريدة انتفض مالم ينتفض قبله شعبٌ قط، بمؤهلاتٍ اكتسبها من انعزاله من المجتمع السوداني الذي فسد وهزل تحت أصناف الوصائية، فوقف طولاً بعزمٍ صلبٍ لتأسيس ديمقراطية وعدالة اجتماعية فاعلة، ضد ضغط كل أساليب مقاومة مواثيق الأمم المتحدة التي طورتها الجمرات الخبيثة المتبقية من النظام العالمي البائد واستوردتها الأنظمة السودانية المتسلطة.
ثورة سخية بعزم ودماء شبابها، فاضت بأخبارها الصحافة والأسافير، وجادت لها قنوات التلفاز بحواراتٍ ثرية حولها، وآراءٍ قيّمة لخبراء سياسيين من عقودٍ متعاقبة من تأريخ السودان الحديث. في هذه الثورة العظيمة شهدنا أولى طلائع ومؤشرات الأمل بتحقيق واقعَ سودانٍ جديدٍ معافى وآمالاً ساطعة في الطريق إلى شورى حقيقية في السودان، بخاصّية أنها ديمقراطية سودانية بالضرورة، بالرغم من هجرة وتشريد وتقاعد رصيد الخبرة السوية للدولة السودانية المستقلة، في عهد النظام السابق.
كانت بارقة الأمل في معافاة السودان بعد توقيع الوثيقة الدستورية، رغم الأخطاء التي أتت بتلك الوثيقة، إلا أن الجميع كانوا متحدين في الهدف الأساسي فقط، وهو المدنية الانتقالية، تليها الديمقراطية التشريعية، وليس سوى الهدف الأساسي لأن الميراث: أولاً كان ميراث تشظّي واطّراب هوية وتدخل أجنبي في غياب دستورٍ دائم.
وثانياً كان ميراث تدهور اقتصادي وثالثاً كان ميراث محاسبة على جرائم الإبادة والفساد.
وذلل المجتمع الدولي ودول الجوار صعوبة حواجز التدهور الاقتصادي وتأمين المحاسبة على جرائم الإبادة والفساد، وتساهل الثوار في منح الثقة رغم عدم اكتسابها بالمجلس العسكري، لتغطية عيب عدم وجود دستورٍ دائم يحكم الحدود التي يجب عدم تعدّيها.
ولكن انقلاب البرهان على تلك الوثيقة – حيث إن الثقة مُنحت ولم تُكسب – أفقد الوثيقة إمكانية تغطيتها مهمة الدستور الدائم تلك.
وانسدّ مع خرق الوثيقة الدستورية اول باب ولجته مسيرة الثورة نحو إماطة الأذى عن مسيرتها في إعفاء الديون ورفع السودان من قائمة الإرهاب والتعهد بمساعدته لبناء الدولة واقتصادها المنهار.
ذلك الباب لا يمكن فتحه إلا بمفتاح ثقةٍ جديد، ولا أرى وجوده إلا بثقةٍ جديدة يتم تأمينها باعتراف البرهان بالخطأ والاعتذار عنه لتمكين العفو فيه، ليسمح بعمل ضمان يقدمه أصدقاء السودان.
وبدلاً عن ذلك شجّع البرهان انقسام المكوّن المدني ليمحو بها ذاك الخطأ، ما فضح فهمه الناقص عن ضرورة تمييز الهوية السودانية وتأمين صلابتها لوحدوية الدولة السودانية، وأهمها رسم الخطوط الحمراء التي بتعديها تضيع الهوية، وهي تحريم الوصائية العرقية والدينية والاجتماعية، والذي به يتم تحريم التنظيمات الطبقية مثل الشيوعي، والعرقية مثل النازية، اوالبعث العربي، أووحدة الزرقة، أوالشعبوية والقبلية، أو الأحزاب الدينية (حيث التسييس الديني يتعدى على الحريات مثل التسييس السني والشيعي والصهيوني، والصليبي) ولا يمنع ذلك من الحوار أو الاعتناق الفردي لأيٍ من تلك العقائد أو مساندتها خارج الدولة.
وبما أن بالسودان أحزاب عريقة وكبيرة، فأوّل مهمة تسبق تلك الخطوة هي حث وتشجيع الأحزاب للتشرّب بتلك المتطلبات لإعادة صياغة برامجها وقوانينها وعقد مؤتمراتٍ لجماهيرها لمناقشتها والتصويت عليها استعداداً لتسجيلها. ولكن البرهان لا يرى ذلك لأنه اساساً لا يفهم دور الأحزاب خارج الصورة القاتمة التي يرى بها الأحزاب، وكم هي قريبة أو بعيدة من الواقع فلا يبدو أنه يهمه.
ومن أهم أدوار الجيش هو إدارة الدولة بحكم الطوارئ في حالة الأمور الطارئة كحالة كارثة حربية أو وبائية، ولكن ليس في تعاطي السياسة، فمقدرات الجيش تعتمد على البندقية وعلى الضبط والربط في الطوارئ، وتؤذي السياسة لأن بالمثل السياسة لا يجب أن تتعاطى مع البندقية، وإلا صارت إرهاباً.
حتى الجيش، رغم أنه لا يجب أن يكون مسيّساً، إلا أنه من ناحية الهويّة الوطنية يتطلّب تأمين قوميته بما لا يقل عن هوية لجنة الدستور والمجلس التشريعي، والجيش السوداني ضارب في العراقة، ولم يستشرِ فيه سرطان تمزّقه ومحورته، فلا يجب التفريط في أساسه من أجل التنوّع، سواءاً بدمج الدعم السريع أو الحركات المسلحة فيه بتخطّي صرامة نظامه، بل بإضافة نسب مئوية متعادلة من مواطني كل ولاية باختيار يتناسق مع مستوى الجيش العريق.
تلك الوحدة التي أمّنت عليها قوة وتماسك الثورة، تكفي كهوية وحدة للمرحلة الانتقالية والتي يتعيّن خلالها، من ضمن واجباتها، لتأسيس الحكم الديمقراطي، أن تنتهج أسلوباً إدارياً علمياً لتأسيس منابع سيولة الديمقراطية من أساس المجتمع السوداني بالمجالس المحلية أو لجان الأحياء إلخ، ومعاونة الإدارة الأهلية والطرق الصوفية، ولكن ليس تحت إشرافها أو سلطتها، لتغذي الهيكل الهرمي الذي ينتهي بالمؤتمر الدستوري، لوضع الدستور الدائم وأسس مفوضيات الديمقراطية من إحصاء ونظام الدوائر والمراقبة ومفوضية القضاء. وبالواضح ذلك لا يمكن قيامه في الانقسام الحاصل الذي استضافه البرهان وأجج ناره، وزاد عليه شيطنة الحركات المسلحة بفتنة مع قوميّاتها بالتلاعب باتفاقية سلام جوبا لزرع عدم الثقة بينها وبين قومها تماماً كما فعل مع لجنة فك التمكين في عملها الكبير بالتربّص بها بتافه التهم التي تسقط أولوية وقف العمل للتحري فيها أمام ضرورة مساندتها في تلك المهمة الخطيرة والهامة للدولة وأمانها.
أما وصية زعيم الدعم السريع حميدتي بأن السودان به ثروات ويجب الحفاظ عليها، فهذا ليس خبراً يستحق تفجيره للسودانيين، فالعالم كله وخاصة المتربصين بالسودان يعلمون ذلك ويتهافتون لينهلوا منه، وما يتحدث عنه حميدتي فيما يقوم من خلفه الجنجويد في تشريد قبائل وتوطين أجانب مكانها، وتجارة الارتزاق وشراء الذمم بالثروة التي وهبها البشير لذلك النشاط الطفيلي من ثروة الشعب الذي يخاطبه حميدتي، لا يمثل حديثه ذلك إلا استفزازاً للشعب السوداني الذي سقى بدماء شبابه نفس تراب ذلك البلد الحبيب الغالي قبل الغني.
وهي نفس الثروة من الأرض ومن الدماء التي استباحها للطامعين من الدول الأجنبية، والتي جاد فيها مع رفيق مجازره البرهان بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، والذي يختلف عن الاعتراف بإسرائيل، فإسرائيل من حقها أن تكون، ولكن التطبيع مع التسييس الصهيوني هو سابقٌ لأوانه لأنه مهمة المجلس التشريعي وتحده أخلاقيات الهوية السودانية التي يطيقها الدستور الدائم.

izcorpizcorp@yahoo.co.uk
/////////////////////////

 

آراء