عندما كان فرز الأصوات جاريا في عدد من الولايات الأميركية ويشير لتقدم المرشح الديمقراطي، جو بايدن، على الرئيس دونالد ترامب الذي بدأ في التشكيك في نتائج الانتخابات، كتب بايدن تغريدة عبر تويتر قال فيها إن (الديمقراطية تكون في بعض الأحيان فوضوية، لذا فهي تتطلب أحيانا القليل من الصبر، لكن هذا الصبر يكافأ الآن لأكثر من 240 عاما بنظام حكم كان موضع حسد من العالم) مؤكدا أن "الديمقراطية تعمل".
تعكس كلمات بايدن أعلاه المأزق الذي وقعت فيه العديد من دول العالم الثالث (أفريقيا على وجه الخصوص)، في أعقاب نيلها الاستقلال الوطني وخروج الاستعمار الأوروبي في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي.
يمثل السودان واحدا من تلك الدول التي عجزت عن توطين الديمقراطية كنظام للحكم، وقد لعبت العديد من العوامل الاجتماعية والسياسية دورا في هذا الأمر ويأتي في مقدمتها وجود تنظيمات وأحزاب تتبنى أيدولوجيات لا تؤمن بالدور الحاسم للشعب في اختيار نظام الحكم أو الوسيلة التي يتم بها اختيار الحاكم.
وبما أن السودان عانى من كثير من مشاكل التخلف الاجتماعي متمثلة في تفشي القبلية والجهوية والطائفية، فضلا عن انتشار الأمية والفقر والمرض، فقد عمدت تلك الأحزاب لحرق المراحل التاريخية عبر "الانقلاب العسكري" الذي رأت فيه طريقا مختصرا لحل جميع المشاكل التي يعاني منها المجتمع.
قد قامت أحزاب الأيدلوجيا ممثلة في اليسار العربي والماركسي واليمين الديني (الإخوان المسلمون) إضافة للطائفية الدينية بمباركة الانقلابات العسكرية التي أفضت لحكومات شمولية سيطرت على مقاليد السلطة في السودان لمدة 52 عاما من عمر الاستقلال الوطني البالغ 64 سنة منذ خروج الاستعمار البريطاني.
في ذات الوقت كانت هناك بعض القوى السياسية والاجتماعية تنادي بضرورة العمل على تجذير النظام الديمقراطي في بنية المجتمع السوداني بشتى الوسائل (التعليم، التنوير.. إلخ) والصبر على أخطاء التجربة التي أفرزها الحكم النيابي ومعالجتها بالمزيد من الممارسة الديمقراطية.
اليوم، ونتيجة أكثر من نصف قرن من الحكم العسكري الشمولي يجد السودان نفسه أمام تحديات هائلة تشمل الحروب الأهلية والفقر والأمية والمشاكل الأثنية بجانب العديد من المعضلات الأخرى، مما يوضح بجلاء أن ادعاءات اختصار الطريق وحرق المراحل عبر الانقلاب العسكري من أجل إحداث التنمية الاجتماعية والاقتصادية قد فشلت فشلا ذريعا!
عقب الثورة الشعبية العارمة التي أطاحت نظام الجنرال عمر البشير العام الماضي، تشكلت حكومة انتقالية يسندها تحالف سياسي عريض، وقد شرعت تلك الحكومة في مخاطبة التحديات الماثلة من أجل ترسيخ شعار الثورة الأول: "حرية – سلام – عدالة" وتواجه الحكومة عقبات كثيرة تقف في وجه تحقيق الأهداف المنشودة، وهو أمر طبيعي خصوصا وأنها ورثت دولة فاشلة موسومة بالحروب الأهلية والتدهور الاقتصادي والفساد والعزلة الدولية.
ومع أن تلك العقبات مفهومة لكل صاحب بصر وبصيرة، إلا أن هناك قوى سياسية واجتماعية ما تزال مشدودة للحكم الشمولي وتعمل بجد واجتهاد لقطع الطريق أمام مسيرة الحكم المدني الديمقراطي، كي تستمر الدائرة الجهنمية بعودة الجيش لدست الحكم مرة أخرى عبر الانقلاب العسكري.
تسعى تلك القوى للعب على وتر إثارة مخاوف السودانيين من الأوضاع الحالية والتشكيك في الحكومة القائمة عبر السعي لتشويه سياساتها وتضخيم ما وقعت فيه من أخطاء، والقصد من توظيف هذه الوسيلة هو إفهام الجماهير أن أوضاعها كانت أفضل في ظل الحكم الشمولي وأن استمرار الحكومة الانتقالية ينطوي على مخاطر كبيرة.
إن الحريات العامة التي يتيحها النظام الديمقراطي، وفي مقدمتها حرية التعبير، تسمح بأن تطفو جميع المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية على السطح وفي وسائل الاعلام المختلفة وهو الأمر الذي يراه أنصار الشمولية ضربا من الفوضى ذلك أنهم اعتادوا على تغطية تلك المشاكل عبر الدعاية والقمع والابتزاز، ومن البديهي أن طرح المشاكل بشفافية يمثل الأساس السليم لحلها.
قد أثبت النظام الديمقراطي أنه أفضل نظم الحكم التي توصلت إليها البشرية قاطبة، فهو الوحيد الذي يستمد شرعيته من الإرادة الشعبية، ويتيح للجميع فرصة التداول على السلطة بطريقة سلمية وتكون صناديق الاقتراع هي الفيصل حيث يستطيع الشعب خلع أي رئيس أو حزب بشكل سلمي لا يضر بالدولة ومؤسساتها.
إن معالجة الأوضاع المعقدة في السودان لن تتم إلا بالأناة والصبر على ممارسة الحرية، وكما قال بايدن فإن "الديمقراطية تعمل" وهي قادرة على تصحيح أخطائها، وقد أدى ترسيخ النظام الديمقراطي وثباته إلى استقرار الحكم لمئات السنين في بلدان الغرب، وهو الدرس الأول الذي يجب أن نعيه ونرفض عبره جميع الحجج البائرة حول عدم صلاحية الديمقراطية لمجتمعاتنا وأنها تقود للفوضى.