الساخرون
عز الدين صغيرون
23 October, 2021
23 October, 2021
هؤلاء الديسمبريون يمارسون الفعل الثوري الخطر وكأنهم يلعبون.
يواجهون عنف آلة الدولة الوحشي كتسلية يتلذذون بها، ولا يسأمون. وكأن الثورة "هواية" يمارسونها للإشباع النفسي. ولهذا فـ"نفَسَهم" طويل. فهم يلعبون هذه اللعبة لأكثر من عامين. عام كامل لم تهدأ فيه حركتهم ليل نهار. لم يسكت فيها الرصاص ولم تهدأ البنادق، ولا جفت حلوقهم من الهتاف، ولم ترتاح أرجلهم من الهرولة كراً وفراً وهم ينازلون عدة جيوش تكالبت على احتجاجاتهم السلمية من: جيش، ودعم سريع، وأمن، وشرطة، وكتائب ظل، وجيش شعبي، وأمن طلابي.
(2)
ظن عباقرة الجنرالات في لجنة البشير الأمنية أن مذبحة عنيفة كمذبحة اعتصام رابعة في مصر يمكن أن تكسر شوكة الشباب وتكسر إرادتهم، فنقذوا سيناريو مذبحة اعتصام رابعة بصورة أكثر دموية ووحشية، وتجاوزوها بإضافة فصلين لم يجرؤ حتى الغزاة في تاريخ السودان على ارتكابهما في حملاتهم، اغتصاب الثائرات الحرائر، وإلقاء الثوار من شباب أبنائنا مكتوفي الأيدي والأرجل في النيل. وبدلاً من كسر الإرادة الذي كانوا يتنظرون، خرج الشباب كمارد غاضب من قمقمه في مليونيات 30 يونيو التي زلزلت الأرض تحت أقدام المجرمين المرتجفة، وأجبرت قوى البغي على التراجع.
(3)
ثمة شيء محير في هؤلاء الثوار اليافعين، الذين يخوضون معاركهم الطاحنة عزلاً، في مواجهة عنف الدولة بحنكة وحكمة، وكأنهم يختزنون في جيناتهم كل تجارب أمتهم في المقاومة. وقد قارنها البروفسور عبد الله علي إبراهيم بوقفة الأنصار في معركة كرري التي وصفها ونستون تشرشل بأنها كانت عرضاً للكبرياء.
إلا أن عرض الديسمبريون كان عرضاً للكبرياء تشوبه السخرية وكأنهم يهزؤون بالموت.
يرفعون شعارات على لافتاتهم ساخرة ويستخدمون وسائل تعبيرية غير معهودة. فقد علقوا على سبيل المثال كيلو موز وتحته كتبوا مطلع أغنية الفنان خضر بشير "خدعوك وجرحوا سمعتك" تعليقاً على موز اعتصام القصر.
ويهزجون بمقاطع في هتافاتهم – التي تولد في لحظتها بعفوية تلقائية – تطفح بالسخرية اللاذعة، مثل: "عسكرية؟ هي وين. مدنية؟ وي وي وي". أو مثل "أكلنا الموز، دايرين حمدوك". أو يطلقون على الجنرال شمس الدين، بسبب أقواله المتضاربة والمتناقضة حول مسؤولية فض الاعتصام لقب "كطباشي". ولهم في ذلك رصيد غني من ما يمكنك أن تسميه أدب الثورة الساخر.
يجيدون الفر بانسحاب تكتيكي بحساب دقيق، ليكروا بمهارة، وعلى نسق إبداعي غير متوقع، يباغت العدو ويربكه.
يفعلون ذلك وهم يضحكون، وكأنهم يتسلون بإرباك الرجال العابسون المرهقون تحت ثقل خوذاتهم وأسلحتهم.
(4)
تلك لعبة لا يملها هؤلاء العابثون بصرامة الجندي وجديته المفتعلة. ولأن الشباب يخترقون حجب هذه الصرامة فإنهم يهزؤون منها بطريقتهم.
حين عنى لي السؤال: من أين يستمد الشباب كل هذه القدرة على هذه السخرية، رغم مبدئيتهم الصارمة التي يعكسها شعارهم الملح بإصرار عنيد على الأخذ بثأر إخوانهم الشهداء:" يا نجيب حقهم، يا نموت نلحقهم". وما يعكسه من روح قتالية واستعداد للتضحية بلا حدود. فإن الإجابة التي لا أجد غيرها هي، أن بذاءة الإنقاذ وفجورها وتعري قيادتها من القيم الأخلاقية، بسبب فسادهم ولصوصيتهم الوقحة وابتذالهم، نزعت كل قدسية محتملة للسلطة، وأعفتهم من احترامها بكل أشكالها، وفي مختلف تجلياتها وتمظهراتها. وطال ذلك حتى احترام الكبار والماضي الذي يمثلونه ويتغنون به,
لقد خذلهم الكبار في أحزابهم التي غابت عن المشهد السياسي والاجتماعي طيلة سنوات الإنقاذ، وحتى عندما انتفضوا ضد الإنقاذ وُجِد بين الزعماء من شبَّه انتفاضهم بـ"مرقة البوخة، أو بوخة المرقه" (لا علم لي أيها الأصح)!. ولم تكتف الأحزاب والنخب السياسية والاجتماعية والثقافية بخذلهم، بل ذهبت أبعد بخيانتها لهم ولحلمهم.
(5)
وما لم ينتبه إليه من تولوا أمر تنفيذ حلم الشباب بوطن جديد، أن الشباب، وطيلة عقود تسلط الإنقاذ، وانهماكها في إعادة تشكيل وهيكلة الاجتماع السوداني، هدماً لثوابته وتقاليده، وترسيخاً لقيم بديلة ساهمت في تصحيره، ومحو معالمه، مع غياب "الكبار"، كان الشباب، الذين نشأوا تحت ظل سلطة الإسلامويون الخانقة، يشيدون عالمهم الخاص وحلمهم الخاص ويضعون لبنات ثقافتهم بمعزل عن القطبين: السلطة و"الكبار".
لقد حدث انقلاب لم ينتبه إليه السلف.
صار لهؤلاء الشباب ثقافتهم الخاصة ولغتهم الخاصة ومفرداتهم التي يعرفون وحدهم معانيها ودلالاتها الخاصة.
وما هو أخطر من ذلك كان لهم حلمهم الخاص ورؤيتهم الخاصة للوطن الذي يريدون. وهو يختلف اختلافاً جذرياً عن الصورة الراسخة في رؤية الكبار، الذين لم تتجاوز رؤيتهم ترميم نفس البناء القديم بـ"شوية" ديكورات" هنا وهناك، ويعتبرونه سكناً جديداً.
لقد اتسعت الفجوة وصارت هوة بين الرؤيتين.
لذا احتفظ الشباب بالجدية الصارمة تجاه ما يريدون ويحلمون به لأنفسهم. إذ لا توجد لغة مشتركة بينهم وبين الكبار الذين يمثلون "السلطة" السياسية والثقافية والاجتماعية.
فالكبار أصغر من حلمهم.
ولذا، مقابل جديتهم الصارمة تجاه حلمهم وتشبثهم به، لم يكن أمامهم من بُدّ سوى التعامل باستهانة وسخرية مع الماضي، ومع الكبار أيضاً في السلطة والمؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية.
وكثيراً ما صرحوا باستخفافهم بالمؤسسات الحزبية، وقد ارتفعت أصوات بعضهم بضرورة إسقاطها، بل يعتبرون الأحزاب جزء من المشكلة، وجزء أصيل أيضاً.
ولذا ركبوا رؤوسهم بنيَّة أن يحققوا حلمهم بدولة جديدة بديلة، ونظام سياسي جديد واجتماع جديد يحقق رؤيتهم الكلية، مع أو بدون هذه المؤسسات والأحزاب، التي آن لقادتها وقواعدها أن يلتفتوا إلى واقعها.
وآن لهم أن يسألوا أنفسهم السؤال الذي ظلوا، وبإنكار غريب، يتحاشون طرحه: ماذا عن المستقبل، في ظل وجود هؤلاء الشباب، وهم يمثلون الآن النسبة الأكبر في تعداد السكان، ما يعني أنهم هم من يملكون المستقبل ومسؤوليته ؟.
ما مصيرها هذه الأحزاب ؟؟.
izzeddin9@gmail.com