السبيلُ إلى إقرار الوحدة مصيراً للسودان … بقلم: عمر الترابي
1 November, 2009
alnahlan.new@hotmail.com
حكت الأيام كثيراً من العظات وساقتها في سياقٍ يُلهم الشعوب و يُعينها على تقرير القرارت الهامة والمفصلية وترسيم المعاني الآبدة وتقعيدها على هدىً من بصيرةٍ حية ثابتة وتجربة سلف مديدة بَنَت القدرة على التنبؤ بمآل المستقبل، و سوق العبر و إبراز الدلات - في هذا الزمان - يجعلنا في مقام مسؤوليةٍ تاريخية جليلة لا تحتمل غير الوعي والإدراك لما نحن بصدده وما نحن عليه من أمرٍ عظيم ينبغي أن نشحذ له القوى، و بإستصحاب المؤشرات التاريخية و عقلها ينبعث فينا باعثٌ يجعلنا أكثر حِرصاً على هذه الأمة وأشد إيماناً بضرورة التوحد لحفظ مُكتساباتها، ويجعلنا في مقام مهيب و موقف عصيب يتطلب التفاني التام في تقديم مصلحة الوطن و الأمة.
فحينما نتحدثُ عن قرارٍ لشعب أو أمة فإننا بذلك لا نحكر القول على معالجة آنيةٍ لمشكلة أو موضوع له أبعاده المعلومة الحاضرة بل نتحدث عن أمر تتجاوز أبعاده معالم الزمان والمكان فتتخذ نمطية القيمة وتستمد من الغيب مضابطاً وهيبة ومداً يُغير معاني الحاضر للأريب؛ و تمتد لتلامس شغاف معاني أخلاقية لا يحكمها قانون ولا يضبطها غرض سياسي -حتى وإن اشتبه ذلك-، فنحن حيئذ لا نتحدث عن أمرٍ يتكرر ويحين بعد فترات حتى يكون الخطأ فيه قابلاً لأن يُعدَّل أو يُعاَلج أو يُصحح إذا ما سنحت بعوده الأيام فاستُديل الرأي فيه وغلَب الحق بمنطق (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) فأستُكثِرَ من الصواب وحُمِّل الحكمة وألزِّم بالإعتدال والإستقامة والتغير نحوها، ولكننا نتحدث عن مصير سيصير إليه الشعب صيرورةً آبدة و تسير عليه الأمة سيراً طويلاً، وقرار واحد لا يتكرر ثابتٌ لن يبدل و الخطأ فيه لا يُقوَّم بهينةٍ أبداً بل يظل مأساةً بئيسة تتوارثها الأجيال وهي حانقة آسفة على خطيئتنا إذا ما ضَيعنا ما ورِثنَاه واحداً متحداً فورّثناه متشرذماً متضعضعاً يتهاوى! هذا مقام لا يجوز فيه الخطأ وسؤ التدبير، إذاً فالوقوف على ما نحن أمامه مليَّاً و التأمل فيه كثيراً ما هو إلا أقل ما يمكن أن يُقدمه الرجال في هذا الصدد وذا المقام وبالله الإعانة بدئاً وختماً هو الموفق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
حق تقرير المصير توالت عليه الأيام فازداد تشَّعُباً و دقةً مما يجعله أحد أعقد المصطلحات السياسية و القانونية في القرن الماضي لما حَمِلَهُ من اختلافات جوهرية قانونية في معانيه وتفسيراته وحتى منطوقاته، و اشتطاط الخلاف في فهمه لا في أصله في منطوقه ومعناه ومضمونه وممارسته ، فالرَّاسخُ أنه لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها ولها بمقتضى هذا الحق أن تحُدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية الى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وبالقطع فقد مضى هذا الحق في تطور مع الأيام آخذاً في اعتباره الحالة الخاصة للشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية أو غير ذلك من أشكال السيطرة الأجنبية أو الاحتلال الأجنبي، فسُلِّم بحق الشعوب في اتخاذ أي إجراء مشروع، وفقا لميثاق الأمم المتحدة، كما صاغت مقررات القوانين والمواثيق والمنتديات الدولية في هذا الشأن، فغدى بذلك حق أصيل من حقوق الإنسان لا خلاف على أصله وإنما على تنزيله في تطبيق واقع خاصةً بعد انقضاء الحقبة الإستعمارية، خاصةً وأن الحق و وفقا لإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون فيما بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة، يجب عدم تفسيره بأنه يُرَّخِص أو يُشَجّع أي عمل من شأنه أن يمزق أو أن يمس، كليا أو جزئيا، السلامة الإقليمية أو الوحدة السياسية للدول ذات السيادة المستقلة التي تتصرف علي نحو بتمشي مع مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب، وبالتالي لديها حكومة تمثل جميع السكان المنتمين إلي الإقليم دون تمييز من أي نوع.
وبالرغم من ذلك إلا أن التعامل مع هذه القضية حُف بالكثير من الصعوبات فالخيار أمام الحكومة والدول كان صعباً في كثيرٍ من الأحيان حيال هذه القضية ابتداءً فكما كان احد طرفي هذه النزاعات هو حركات الشعوب أو بعض الشعوب و الأقليات المضطهدة المطالبة بالحقوق الثقافية والادارية والحكم الذاتي والفدرالية وحتى الاستقلال وتكوين دولها المستقلة و جُعل الطرف الاخر هو حكومات الدول المعنية التي يُفترض عليها خدمة تلك الشعوب ومعالجة المتراكمات التاريخية المُسببة لتلك الأزمة إلا أنها تواجه بمطالب منافية للسيادة والسلامة الاقليمية فلا تجد بُداً –وهي آسفة- من أن ترد عليها بكل ما لديها من القوة وهي تعلم أنها تضرب ذاتها بذاتها! فالنتيجة إما القمع الأثيم لهذه الحركات المطالبة وحسمها كما الحال في بيافرا (1967-1970) أو استمرار العنف البغيض واستنزاف طاقات طرفي النزاع كما بدا الحال في مناطق أخرى.
لذلك كان الوصول لهكذا اتفاق في بلادنا يمنَحُ فئةً من الشعب حق تقرير المصير أمرٌ ذا منحى صعب يحتاج إلى الكثير من التراتيب القانونية للإقتناع به، وهنا نُسجِّل المحمدة التاريخية للإتفاق العظيم الذي وقعه رجُليّ السلام مولانا السيد محمد عثمان الميرغني - رئيس الحزب الإتحادي الديمقراطي مرشد الطريقة الختمية - و الزعيم الراحل الدكتور جون قرنق - رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان - في أديس أبابا عام 1988م في ما عُرف بإتفاق الميرغني قرنق ومحمدته أنه استطاع أن يَخرُج بعد المفاوضات الصادقة بتأشير السلام دون أن يُدخِل البلاد في هذا المحك الضيِّق وتجاوز بمُعجزة لعله أزاح بها المُسببات الداعية لهذا الحق، وقدّر الله أن نندم على تفويت تلك الفرصة في دفع حركة السلام ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولعل لها من بعد الركون حراكاً!، ولكن قبل سنين دعت الدواعي إلى أن يكون حق تقرير المصير مطلباً مُباحاً لأسباب عُدت موضوعية فخرجت نتاجاً لذلك في ثوب سياسي و قانوني في اتفاق نيفاشا الذي بُذِّل فيه جُهداً مقدراً و قد ضُمَّن الإيحاء بالسعي المشترك لجعل الوحدةِ جاذبة، وما تلى ذلك من اتفاقات إلى أنا جاء اتفاق القاهرة الذي وقعته الحكومة السودانية مُمثلة في شخص سعادة الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية، و بين التجمُع الوطني الديمقراطي مُمَثلاً في رئيسه صاحب السيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الإتحادي الديمقراطي و مرشد الختمية، و وقع الراحل الدكتور جون قرنق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، فنَّص الإتفاق بوضوح على أن ( يلتزم الطرفان مع بقية القوى السياسية بصياغة برنامج وطني للحكم في الفترة الانتقالية يُعين على تنفيذ بنود هذه الاتفاقية ومرجعياتها بما يحقق الاستقرار السياسي ويؤمن وحدة البلاد، كما يلتزم الطرفان (الحكومة و التجمع) بأن تُخطط الحكومة الانتقالية وتضع موضع التنفيذ التدابير اللازمة بحيث تقود ممارسة حق تقرير المصير إلى دعم خيار الوحدة) أ.هـ.
لذلك ينبغي دعم هذا المسلك وهذا السبيل واستشارة كل العقليات القانونية و بذل كل المساعي لترسيخ وحدة السودان بالتراضي و التعافي، فإشكال السودان لم يكن في جهةٍ واحدةٍ ولا صوب ولكن كان لأسباب إدارية علاجها يبدأ بالإجماع الوطني و لا مركزية فيدرالية في الحكم تنحو بالبلاد نحو تنمية متوازنة وخطوات تلحق نُفردها في غير هذا المقام، فمرض الجهات الأربعة واحدٌ وعلاجها واحدٌ ولو سلكنا سبيل البتر وسهلنا طريق الإنفصال الذي يهتم فيه كل عِرق أو جهةٍ بشأن عرقه و جهته فقط بلا مُعين من إخوانه في الوطن نكون بذلك اجحفنا في حق وطن واحد وأمة متوحدة هي أولى الأمم بأن تكون حقيقة بالوحدة و التداعي بالسهر والحمى لشكية عضو أو جهة حتى يُصبح السودان معافىً من كل سؤ!
وعلى احترامنا العميق لرؤية البعض بأن يُرَّسى الحكم بالإنفصال بالأغلبية البسيطة في الإستفتاء القادم، إلا أننا نظن أن هذا الرأي يحتاج إلى كثير أناة ونُقدر أن الحكم بغيره ربما يكون أولى وأرشد، فيجب أن يُراجع بعميق دراسة مستصحبين بعض تجارب الجيران متمثلين في الجارة اثيوبيا التي قضت بأن تُعتبر الأغلبية العظمى بالثلثين هي الفيصل، ولعل ذلك فيه عبرة ففي عام 1992 م، قامت الامم المتحدة بالإشراف على الإستفتاء الذي جرى وأدى إلى استقلال أو إنفصال اريتريا عن اثيوبيا وقد صوتت 99.5% من الاصوات الصحيحة للناخبين لصالح الاستقلال، إذاً فالرغبة الإنفصالية إذا كانت حتمية فستكون عالية وضخمة وتكون حينها مقنعة بأن التعايش البيني صعب ويكون الإنفصال حلاً، بل و حتى في غيرها من التجارب التي نوردها و نُشير إليها و ننبه إلى بعض أصولها كما في حالة سانت كيتز ونفيز مثلاً كما يُشير الباحثين فإن الدستور ينص أن جزيرة نفيز تستطيع متى ارادت أن تنفصل عن الاتحاد اذا طالبت أغلبية (الثلثين) من أصوات الجمعية التشريعية للجزيرة و (الثلثين) من الأصوات الصحيحة للناخبين في نفيز في عملية إستفتاء تنظم لهذا الغرض، هذا وقد كان أن طالبت الجزيرة بذلك في 1997 و صوتت الجمعية التشريعية لنفيز (بالإجماع) لصالح الانفصال ومن ثم نظم استفتاء لهذا الغرض في 1998 و صوت 61.7% من الناخبين للإنفصال، وكانت النسبة أقل من الثلثين لذا لا تزال نفيز باقية في الإتحاد.
تُركت براحات واسعة ويحتاج بلدنا لمزيد من المساهمة الواعية لملئها بالحكمة والرُشد، فينبغي على الجميع العمل على جعل الوحدة الوطنية واقعاً لنكون أقدر على مجابهة التحديات الحقيقية التي تتهددنا كأمة سودانية بإمتداداتها، بل أظن أنه ينبغي على الساسة و قبلهم القانونيين أن يصبحوا أكثر فعالية في طرح هذا الأمر ويشرحوا أبعاده للجمهور ويضعوا مداً من الحلول والمعطيات التي تُرجح كفة مصلحة الشعب في كل أنحاء السودان، إننا بقدر خوفنا على هذا الوطن وحرصنا على هذه الأمة إلا أننا واثقين في أن السعي الجاد نحو حدٍ أدنى الإجماع الوطني يُمكن أن يسهل الحل ويجعله أقرب إلى النوال، فاليتنادى أبناء هذا الوطن إلى الوحدة التي تلد القوة وتجعل هذا الأسد مُهاباً فتقونا شر التدخلات الخارجية العادية فإنه إنما:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له و يُتقى مربض المستأسد الحامي،،
فلتصنعوا لأجيالنا القادمة مستقبلاً يشكرونا عليه، وامضوا بعون الله نحو و طن يسع الجميع، يُبنى على المواطنة والديمقراطية يعيش بنيه في رفاه وأمن وأمان وتتحقق فيه التنمية يعمه السلام! ليست أحلام ولكنها أهداف ولا سبيل لنا إليها إلا بالوحدة والعمل الصادق، فما أتعس الأمم بتلك الفرقة!، فليكن للوحدة نداء ولنسأل الله العون على ما نحن بصدده فبك اللهم العون بدئاً وختماً.
نواصل،،
نُشر في صحيفة الصحافة يومالسبت 24 أكتوبر 2009م، 6 ذو القعدة