السودان التركي – المصري: جِدَال تأريخي حَدِيث (1 /2)

 


 

 

السودان التركي – المصري: جِدَال تأريخي حَدِيث (1 /2)
The Turco- Egyptian Sudan: A Recent Historiographical Controversy
Gabriel R. Warburg جبرائيل آر. واربورج
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال للمؤرخ جبرائيل آر. واربورج نُشِرَ عام 1991م بالعدد الثاني من المجلد 31 من مجلة "عالم الإسلام Die Welt des Islam" في صفحات 193 – 215. وُلِدَ الكاتب في برلين بألمانيا عام 1927م، وهاجر مع عائلته لفلسطين وهو طفل صغير وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 - 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها على سبيل المثال كتاب بعنوان "الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية" و"الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان"، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين، وأنصار المهدي، والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن ترجمنا شذرات من بعض كتب ومقالات هذا المؤرخ.
المترجم.
************* **************
نشر المؤرخ والكاتب المصري المعروف عبد العظيم رمضان (1) دراسة تأريخية عن غزو مصر للسودان، وحكمها له بين عامي 1821 – 1881م عنوانها "أكذوبة الاستعمار المصري للسودان". وكتابه هذا هو واحد من عدد من الكتب التي ظهرت في مصر والسودان إبان سنوات العقد الحالي (أي تسعينيات القرن العشرين. المترجم)، وتناولت مثل ذلك الموضوع البالغ الحساسية. ولكتاب رمضان ميزة يتفرد بها عن تلك الكتب في أنه يتيح لنا، ليس فقط دراسة آراء المؤلف الخاصة، بل أيضاً آراء عدد من المؤرخين السودانيين الذين تصدوا له. لِمَ تُعَدُّ دراسة العلاقات المصرية – السودانية أمراً مهما، ولماذا تثير مثل تلك التفاعلات المثيرة للجدل؟ وإلى أي مدى تسلط الأبحاث المعاصرة حول هذه الفترة ضوءًا جديداً على هاتين المنطقتين في وادي النيل، وهل ترتبط (هذه الأبحاث) بالواقع الجيوسياسي الحالي لمصر والسودان؟ هذه هي الأسئلة الرئيسية التي سأحاول تناولها في الصفحات التالية.
ليس من أغراضي هنا دراسة الكتابات الأوروبية حول سودان القرن التاسع عشر، فقد سبق أن تناول ذلك الجانب مؤرخون عديدون مثل ريتشارد هيل وبتير هولت وجورج نيفل ساندرسون ومارتن دالي وعباس إبراهيم محمد علي. إن ما هو متوفر لنا الآن من معلومات عن الحكم التركي – المصري للسودان مستقاة لدرجة كبيرة من كتابات الرحالة، ولاحقا مما كتبه في القرن التاسع عشر الموظفون الأوربيون في مذكراتهم عن فترة عملهم في السودان التركي – المصري. وكانت تلك المذكرات، وما هو محفوظ في الأراشيف التركية في إسطنبول أو القاهرة، قد قدمت لنا نظرة شاملة عن السودان في ذلك العهد. وفيما يلي ألخص بعض ما ورد في تلك المصادر.
تحصلنا مما كتبه الرحالة من أمثال جيمس بروس وويليام براون وجي. بيركهاردت وم. بونسيه على معلومات كثيرة عن سلطنة الفونج، وعن الغزو التركي في عامي 1820 – 1821م. وترك لنا في النصف الأول من القرن التاسع عشر بعض الموظفين الأوربيين العاملين في خدمة محمد علي باشا (في أثناء الغزو على سنار وبعده) بعض انطباعاتهم عن تلك الفترة. ومن المصادر المهمة عن تلك الفترة كتاب قائد المدفعية في جيش محمد علي جي. بي. انجلش المعنون "A Narrative of the Expedition to Dongla and Sennar" الذي صدر في لندن عام 1822م، وكتاب ف. كيلوارد "Voyage a Meroe" الصادر في باريس عام 1823م. وقدم هذان الكاتبان روايتي شاهدي عيان عن الانتصار العسكري لجيش محمد علي. ووصف رحالة آخر هو شيرون Chiron الإدارة التركية للسودان في كتابه المعنون "الرحلة من دنقلا إلى كردفان، 1824 – 1825م voyage de dongla a cordofan fait dans l'annee 1824 to 1825". وتولى ريتشارد هيل ترجمة العديد من النصوص المهمة إلى اللغة الإنجليزية في غضون السنوات القليلة الماضية، ونحن ندين بالعرفان له أكثر من أي مؤرخ أوروبي آخر، لما قدمه من أبحاث رائدة عن السودان في العهد التركي – المصري. وكُتِبَتْ في النصف الثاني من القرن العشرين العديد مذكرات الرحالة، منهم على سبيل المثال جي. هاملتون وب. تايلور، عن العقود الأولى عن عهد أمين باشا، وصمويل بيكر وشارلز غوردون عن سبعينيات القرن التاسع عشر. غير أن أهم ما كتب في تلك الجوانب هي مذكرات يوهان ألبرت فيرنر مونزينقر وكارل كريستيان جيجلر، اللذان كانا قد عملا في السودان في تلك السنوات.
وكانت التقارير السرية الرسمية التي سطرها الضباط الأوربيون لحكام مديرياتهم قد تضاعفت في سنوات عهد الحكم التركي – المصري الأخيرة، وقُبَيْل بداية عهد المهدية. وكان من أكثر تلك التقارير شمولاً هو ما كتبه العقيد دي. أتش. سيتورات تحت عنوان "تقرير عن السودان، C 3670 – عام 1883م". وأورد ذلك العقيد في تقريره الكثير عن العهد التركي مثل السياسة الزراعية والضرائب والرق الخ، ليقدم للحكومة البريطانية مقترحاته بخصوص طرق التعامل الممكن مع الثورة المهدية، التي كانت في تلك الأيام قد تقدمت سريعاً، خاصة بغرب السودان في أوساط "أولاد البلد" أو "أولاد الشتات dispersion" في كردفان ودارفور. وكان لتقرير العقيد ستيوارت أثر كبير ومستمر على صناع القرار في بريطانيا، وعلى موقفهم من حكام العهد التركي – المصري في السودان. وكانوا يرون أن ذلك التقرير يقدم تبريرا جزئياً لشعبية المهدية في أوساط السودانيين. وكان كتشنر ووينجت قد قاما لاحقا بالاقتباس (أو الاقتباس الخاطئ) من ذلك التقرير وهما يسوغان لحملتهما (بين عامي 1896 و1898م) ضد السياسة المصرية في السودان بعد إعادة احتلاله.
وكما نعلم من رسائل المهدي نفسه إلى قادة العالم الإسلامي، ومن منشوراته لأنصاره في السودان، فقد كانت حركته هي حركة دينية في الأساس؛ وذكر المهدي تحديدا في أحد منشوراته بأن ثورته هي ثورة ضد الترك الذين بدلوا الحق إلى الباطل، واختاروا الكفر على الإيمان. ونجد في رسائل المهدي والخليفة لوالي مصر إدانة صريحة للخديوي ونظامه الفاسد، ودعوة له للانضمام للحركة المهدية، التي هي من صحيح الإسلام. وإن عصا الوالي تنفيذ ما طُلِبَ منه، فلن يجد من المهدويين سوى الجهاد بالسيف. ويبدو أنه كانت هناك جبهة متحدة ضد الأتراك والمصريين تضم المراقبين المعاصرين من السودانيين والأوربيين. فقد كان هؤلاء يجمعون على أن خراب السودان سببه هو فساد الأتراك وسوء إدارتهم للبلاد، الأمر الذي أفضى لقيام الحركة المهدية، بحسبانها وسيلة الإنقاذ الوحيدة.
كيف يرى المؤرخون الأوربيون المعاصرون تلك المسألة؟ يذكر ريتشارد هيل في أحد مقالاته عن كتاباته التاريخية عن السودان أن الفترة التركية المصرية عانت من فقر في البحث التاريخي المكتوب باللغات الأوروبية، وكذلك في اللغة التركية أو العربية. ويعود ذلك جزئياً إلى الصعوبات اللغوية، وإلى حقيقة أن المصادر الأولية القليلة المتبقية كانت متناثرة في مختلف الأرشيفات المصرية وغيرها، ولا يمكن الوصول إليها بسهولة. وإضافةً إلى ذلك، ينبغي للمرء أن يأخذ في الحسبان أن جزءاً كبيراً من الوثائق التركية المصرية التي تعود إلى القرن التاسع عشر في السودان قد دُمِّرَتْ خلال فترة المهدية. وكتب هيل أن "... العائق الأخير أمام المؤرخين هو جفاف الموضوع وقتامته المطلقة وافتقاره للأهمية النسبية كما يبدو لهم". وكان السودان مجرد "تابع dependency" لإقليم من أقاليم الخلافة العثمانية في مصر، وعلى الرغم من أن من كانوا يتولون إدارة السودان من الخرطوم باسم مصر – كانوا يكتبون تقارير استخباراتية عن حالة البلاد، إلا أن المسؤولين في مكاتبهم النائية بالإسكندرية لا يكادون يعلمون شيئاً عن وجود السودان أصلاً. أما بالنسبة للمؤرخين المصريين الذين كتبوا خلال القرن التاسع عشر عن السودان، كان للمشكلة بالطبع أبعاداً إضافية مهمة. أولاً، وصفوا ما قام به محمد علي (باشا) بأنه "فتح" وليس "غزوة"، وذلك لتسويغه من الناحية الإسلامية. ولزيادة تعضيد ذلك التبرير الديني لذلك الغزو، ذهب بعضهم (2) للقول بأن محمد علي لم يقم بتلك "المهمة" إلا بعد تلقيه لمناشدات صريحة من بعض الحكام في السودان الذين طلبوا منه المساعدة. والأهم من ذلك، بما أن والي مصر كان قد تلقى أمراً بغزو السودان من السلطان العثماني (الذي كان أيضاً أميراً للمؤمنين) فإن الشرعية الدينية لهذا الفتح لا يمكن الشك فيها. وثانياً، دخل المسلمون المصريون إلى السودان منذ العصور الوسطى وتزاوجوا مع السكان المحليين. ولذلك، فإن اتهام مصر بالغزو أو الفتح هو اتهام سخيف، حيث لم تكن هناك حدود فاصلة بين المنطقتين. وثالثاً، كان السودان بلداً غنياً تعرض لنهب مستمر من قبل حكامه المتخلفين. وتزعم بعض المصادر أنه نتيجة للإفراط في الضرائب والفوضى، هلك ثلاثة أرباع سكان السودان. ومِنْ ثَمَّ، رحب من نجا من السكان بالقوات المصرية بحسبانهم منقذين لهم، وسلم آخر حكام سنار (وكان من الهمج) سيفه إلى إسماعيل بن محمد علي. ورابعاً، هناك من عَزَا غزو محمد علي للسودان إلى رغبته في اكتشاف منابع النيل وحمايتها من الغزاة الأوروبيين. وأخيراً، وعلى الجانب الإيجابي، تم توصيف الحملة المصرية (في الفترة من 1820 إلى 1821م) بأنها حملة تمدين (civilizing mission)، لأنها أنقذت السودان من "جهادية متجددة". وكما هو معروف زار محمد علي السودان في عامي 1838 – 1839م، وهو في السبعين من العمر، بقصد البحث عن الذهب. وأحضر الوالي معه في رحلة العودة لمصر مجموعة من أبناء زعماء القبائل وكبار الأعيان بقصد تعليمهم أساسيات العلوم وتدريبهم في المجالات الزراعية المتقدمة بالمدارس الحديثة التي كان قد أقامها بمصر (3).
لقد كانت للحملة المصرية على السودان أسباباً إضافية أخرى. وعلى الرغم من أنها كانت أسباباً أقل إيجابية، إلا أنها كانت ما تزال قابلة للتسويغ في نظر المؤرخين المصريين. وكانت أولى تلك الأسباب هي تصميم محمد علي على القضاء المبرم على من بقي حياً من المماليك الذين فروا إلى دنقلا عقب مجزرة قلعة القاهرة عام 1811م. وذكر محمد فريد أن الوالي محمد علي كان قد عرض العفو على المماليك الفارين، شريطة أن يعودوا لمصر، وأن يلقوا بسيوفهم (4). ولما لم يستجب أولئك المماليك لذلك العرض، لم يكن أمام الوالي إلا أن يتعقبهم في السودان. وكان السبب الإضافي الثاني لغزو محمد علي للسودان، عند محمد فريد، هو تصميم الوالي محمد علي على بناء جيش حديث. ولتحقيق ذلك الهدف كان عليها التخلص أولاً من العناصر المقاومة للتحديث الموجودة في جيشه. وكان محمد علي يرى أن أفضل طريقة للتخلص من هؤلاء العناصر هو إرسالهم للسودان، حيث سيلقون حتفهم هناك، أو سيظفرون بالكثير من الغنائم، وعندها سيتوقفون عن معارضة خططه. أما السبب الإضافي الثالث لغزو محمد علي للسودان فهو أنه كان قد سمع عن صفات المسترقين السود القتالية وعن شجاعتهم. لذا كانت أحد (أهم) أغراض غزوه للسودان هو الحصول على المسترقين لتجنيدهم في جيشه، وللعمل في احتكاراته (monopolies) بالأراضي التي احتلها. غير أنه ثبت لاحقاً أن معظم أولئك المسترقين كانوا قد هلكوا وهم في الطريق إلى أسوان، أو ماتوا بسبب أمراض مختلفة لاحقا (5). وأخيراً وليس آخراً، كانت رغبة الوالي محمد علي في السيطرة على السودان من أجل الحصول على ذهبه هي من الأمور التي أجمع عليها كل المؤرخين تقريباً. وأصيب الوالي بخيبة أمل كبيرة وبشك عظيم في قادته بالسودان الذين زعموا له بأنهم لم يجدوا بالسودان كميات ضخمة من الذهب كما كانوا يأملون. وهذا ما دعاه ليسافر بنفسه إلى السودان في عامي 1838 و1839م للتأكد من حقيقة ذهب السودان. غير أن الوالي آب لبلاده بعد أن خاب أمله في ذهب السودان.
وكما ذكرنا آنفاً فقد وصفت الكثير من المصادر الأوروبية المعاصرة تجاربها في سودان القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن تلك المصادر لم تكن مؤيدة تماماً للحكم التركي – المصري للسودان، غير أن الفوارق بينها وبين المصادر المصرية المعاصرة لم يكن كبيراً، بل كانا على اتفاق حول نتائج ذلك الحكم في السودان. وكان الخلاف الرئيس بينهما يدور حول ما دفع محمد علي لغزو السودان. ويجمع الكل على أنه غزا السودان بحثا عن الذهب والمسترقين، غير أن الكتاب الغربيين لا يصدقون الزعم القائل بأن الدافع لغزو السودان هو "تمدينه". وأخيراً، تنبغي الإشارة لما كتبه عن سودان القرن التاسع عشر اللبناني نعوم شقير الذي كان يعمل في قسم المخابرات بالجيش المصري. وقد نُشر كتاب شقير المعنون "تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته" في ثلاثة أجزاء لأول مرة في القاهرة عام 1903م (ونشرت "دار الثقافة" ببيروت الكتاب لاحقاً تحت عنوان "جغرافية وتاريخ السودان" عام 1967م).
وكانت للأحزاب السياسية المصرية آراءً ومواقف مختلفة في كل الأمور تقريبا عدا مسألة واحدة فقط، وهي وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري. وكان السبب الرئيس في ذلك الإجماع حول اتحاد مصر والسودان هو احتلال بريطانيا لوادي النيل منذ عام 1882 إلى 1955م. وكانت بريطانيا قد احتلت مصر في 1882م وأجبرتها على الجلاء عن السودان في 1885م، ثم أغرت مصر بتوقيع اتفاق حكم ثنائي معها في يناير من عام 1898م، وغدت بريطانيا بعد ذلك هي من تحكم السودان فعلياً. وزاد الطين بَلَّةً، ما حدث بعد حركة 1924م، حين طردت بريطانيا الجيش المصري من السودان، بل وهددت مصر باستغلال مياه النيل في السودان حتى تخضعها لرغباتها. لذا كان الساسة المصريون يرون أي قرار يتخذه صناع السياسة البريطانيون في السودان هو قرار لم يُتَّخَذْ إلا ضد مصر، ويدينون (في مصر) الساسة السودانيين الذين يدعون لاستقلال بلادهم، ويصفونهم بأنهم "خونة" ومتعاونين" مع الاستعمار البريطاني. وفي مثل تلك الظروف ليس بالمستغرب أن يُجْمِع حتى المؤرخين المصريين – بصورة عامة – على نشر فكرة "وحدة وادي النيل"، بحسبانها مهمة نبيلة مضادة للإمبريالية، ويمكن تسويغها بناءً على أسباب دينية وتاريخية واقتصادية. وكان الاعتراف عندهم بأن مصر قد أخطأت بغزوها للسودان، أو أنها أذنبت بسيطرتها عليه يساوي بالنسبة لهم خيانة. وبالإضافة لذلك، وبما أن بريطانيا كانت تدعوا لإعطاء السودانيين الحق في تقرير مصيرهم (الذي قد يقود لفصل السودان عن مصر!)، كان من الطبيعي أن يُنْظَرُ في القاهرة إلى ذلك الأمر على أنه "مؤامرة إمبريالية"، وأن هدف وسياسة بريطانيا في وادي النيل (كما في غيره من بلدان الإمبراطورية) هي "فَرّقْ تَسُدْ Divide and rule".
وألخص هنا ما كتبه ثلاثة من المؤرخين البارزين في تلك الفترة لتوضيح الميل التأريخي العام عندهم حيال هذه المسألة:
1/ عبد الرحمن الرافعي :
ذكر الرافعي (1889 – 1966م) في ختام وصفه للأسباب التي دعت محمد علي لفتح السودان ما يفيد بأن: " ... ولذلك فقد اتصف فتح السودان بقومية خالصة، وكانت أهدافه من أسمى وأنبل المساعي، إذ كان هدفه هو إقامة وادي النيل الموحد... ومع فتح السودان اتسعت مساحة مصر وبلغت ثلاث مرات عما كانت عليه من قبل، ووصلت حدوده إلى معظم الحدود الطبيعية. فلا عجب أن نعتبر فتح السودان هو أفضل حروب مصر إبان عهد محمد علي..." (6). وهكذا يرى الرافعي أن فتح السودان لم يكن عدواناً على السودانيين، بل يجب أن يُرَى بحسبانه حرباً مساندة للوحدة الوطنية، مثلها مثل الحرب بين إنجلترا ضد اسكتلندا التي كانت لديها نوايا انفصالية، أو الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية التي سعت لهزيمة مخططات الجنوب الانفصالية. وزعم الرافعي أنه لا يوجد اليوم من يعيد عقارب الساعة للوراء وأن يدعوا للانفصال، وهذا ينطبق أيضاً على "وادي النيل"؛ إذ أنه "لا أمن ولا استقلال لسكان شمال وجنوب الوادي إلا في ظل وحدة هذا الوادي العظيم".
2/ محمد فؤاد شكري:
كان محمد فؤاد شكري (؟-1963م) يعتبر في غضون سنوات النصف الأول من القرن العشرين أهم مؤرخ مصري متخصص في تاريخ السودان؛ ومن أشهر مؤلفاته كتاب" الحكم المصري في السودان" الذي صدر عام 1945م. وأختاره رئيس الوزارة البريطانية محمود فهمي النقراشي باشا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لكتابة خطاب مصر أمام اجتماع مجلس الأمن عام 1947م، الذي تناول – ضمن أمور أخرى - وضع السودان (7). واستشهد النقراشي في خطابه بذلك الاجتماع بفقرات مطولة من كتاب "حرب النهر" ونستن شيرشل وهو شاب صغير، وبتشبيهه للنيل بنخلة، جذورها في السودان واوراقها في دلتا مصر. وأضاف النقراشي أن "السودان جُزْءٌ لاَ يَتَجَزَّأُ من مصر من ناحية طبيعية وجغرافية". وداوم الكثير من المؤرخين المصريين (منهم عبد العظيم رمضان في كتابه الذي أشرنا له آنفاً) على إيراد تلك الجملة في كل دراساتهم عن السودان.
وكان محمد فؤاد شكري في كتابه "مصر والسودان: تاريخ وَحدة وادي النيل السياسية ١٨٢٠–١٨٩٩م" يعد أن تلك الوحدة هي أمر معترف به دولياً، وكان يقول بأن الحركة المهدية لم تكن أكثر من تمرد على دولة شرعية لملك له السيادة على السودان (ويقصد بذلك خديوي مصر)، وأن مصر في غزوها للسودان بين عامي 1896 – 1898م إنما كانت تعيد تأكيد حقوقها الشرعية. وأضاف شكري بأن الوحدة الأبدية بين مصر والسودان ظلت هي الهم الأكبر لمحمد علي منذ تسوية الأزمة السورية في عامي 1840 و1841م. وبعبارة أخرى، لم يكن محمد علي يسوغ تلك الوحدة فقط بحكم " حق الاحتلال right of conquest" (8)، بل تلبية لحاجات شعبي مصر والسودان الأمنية والثقافية والمادية. ونشر محمد علي في أبريل من عام 1839م مكتوباً فصل فيه في مهمة مصر لنشر التمدن والتحضر عقب أوبته لمصر من زيارة للسودان. وأكد محمد علي في مكتوبه أن مياه النيل بالغة الأهمية بالنسبة للشعبين. وبما أن تلك المياه كانت معرضة دوماً لتهديد من الإثيوبيين والنوبة (؟)، الذين كانوا يسعون لتحويل مجرى تلك المياه من أجل الإضرار بمصر والسودان، لذا ينبغي أن يبقيا متحدين من أجل حماية مصالحهما المشتركة. وبهذا خلص شكري أن اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899م لم تغير من وضع السودان باعتباره يقع تحت السيادة المصرية (العثمانية). أما دور بريطانيا – كشريك في الحكم الثنائي - فهو دور إداري ثانوي تماماً، ولا ينتقص من حقوق مصر السيادية في السودان.
3/ شاطر بصيلي عبد الجليل
نشر المؤرخ شاطر بصيلي عبد الجليل الكثير عن تاريخ السودان، خاصة في عهد سلطنة الفونج بسنار، وفي سنوات عهد التركية. وفي كتابه الموسوم "معالم تاريخ سودان وادي النيل من القرن العاشر إلى القرن العاشر حتى القرن التاسع عشر الميلادي" بحث عبد الجليل في تاريخ نهاية عهد سلطنة الفونج، وركز على سودان القرن التاسع عشر. وخلافاً للمؤرخين المصريين الآخرين، كان عبد الجليل قد صرم نحو 33 عاماً من عمره في العمل بالخدمة المدنية بالسودان، وهذا ما جعله على دراية عملية بواقع السودان في القرن التاسع عشر، إضافةً لمعرفته بتاريخ السودان من قبل ذلك. وعلى الرغم من هذا، لم تكن له آراء في تاريخ السودان تخالف آراء المؤرخين المصريين الآخرين، بل كتب يقول ما يفيد بأن: "الفتح المصري للسودان في عام 1821م لم يكن بأي حال من الأحوال بغرض التوسع في الاستغلال، كما أكد ذلك عدد من الكُتَّاب، بل كان الغرض منه تنظيم الأحوال المحلية عن طريق إنهاء الحروب القبلية، وايقاف الفوضى، ومنع التدخلات الأجنبية من أن تتمكن من البلاد ... وبهذا، فإن مصر ليست لديها أدنى مطامع أو رغبات في أراضي أخت بلادها (كما ورد في مقدمة كتابه باللغة الإنجليزية). ويعتقد عبد الجليل بأن تخوف محمد علي من المماليك كان قد أدى دوراً في اتخاذه قرار فتح السودان، ذلك لأن المماليك الذين فروا إلى دنقلا بعد عام 1811م كانوا قد أحدثوا الكثير من الاضطراب والفتنة في أوساط المجتمع القبلي في تلك المنطقة. وأهم من ذلك، كانت مصر تخشى من أن يتآمر المماليك ويتحالفوا مع الإثيوبيين من أجل إقامة دولة لهم في القرن الإفريقي، بمساندة جهات أوروبية. وكان عبد الجليل لا يرى غزوة عامي 1820 – 1821م إلا على أنها "بعثة شُرَطِيّة" مهمتها إعادة السلم والاستقرار لجنوب وادي النيل. وكان عبد الجليل يفسر اصطحاب حملة محمد علي لعلماء مصريين في ذات السياق "التمديني / الحضاري"، ولإفهام السودانيين أهداف ونوايا محمد علي السلمية التي تسترشد بالقواعد الإسلامية. لقد ارتكب الإداريون المصريون بعض الأخطاء، خاصة فيما يتعلق بمعاملة المجتمع القبلي، ولكن كان سبب تلك الأخطاء هو الجهل وليس سوء النية أو القصد ولا العَدَاوَة المُضْمَرَة. وفي منتصف القرن التاسع عشر عملت الإدارة المصرية الحاكمة – بقيادة محمد سعيد - على إدخال الكثير من الإجراءات الإصلاحية. وذكر عبد الجليل أن السلطات الحاكمة أصدرت مراسيم منحت بموجبها زعماء القبائل والسكان فرصاً لإدارة شؤونهم بأنفسهم. غير أن تلك المراسيم أتت متأخرة جداً، ولم يكن بوسعها إصلاح الأوضاع بالبلاد كما كان مخططاً له. ونسب عبد الجليل في كتابه ذلك الإخفاق لـ "الوزن الفعال للمعتقدات والرغبات الإمبريالية التي أدخلت وادي النيل في مدارها ...". وبناءً على ذلك – وبحسب ما ذكره هذا المؤرخ، فإن أمعنا النظر في سجل الإدارة المصرية خلال الخمسين سنة الأولى للإدارة المصرية، سوف نرى أن السودان كان ينعم بالسلم والاستقرار. ولم ينته ذلك التعايش السلمي إلا في سبعينيات القرن التاسع عشر، نتيجةً لتدخل البريطانيين في شؤون وادي النيل. وفي الواقع كان عبد الجليل يؤمن بأن بعثة المستكشف البريطاني صمويل بيكر إلى المناطق الاستوائية في عام 1869م كانت هي نقطة التحول التي قادت في نهاية المطاف إلى "الثورة المهدية". وكان ذلك بسبب ازدياد أعداد المسيحيين الأوربيين الذين عينوا في وظائف إدارية عليا إبان عهد الخديوي إسماعيل. وبالإضافة لذلك، كان حكمدار السودان غوردون قد تبنى سياسات تجاهلت تماما عادات السودانيين وتقاليدهم المحلية وما لديهم من حساسيات. ويصدق هذا بصورة خاصة على سياسة منع تجارة الرقيق، التي لم تأخذ في الاعتبار الدور البارز الذي كان يؤديه المسترقون في المجتمع السوداني. وبهذا، يرى عبد الجليل في كتابه المذكور آنفاً أن انتفاضة المهدي لم تكن أكثر من ثورة إسلامية على سوء الإدارة البريطانية. وأستغل المهدي وأنصاره غضبة شعب السودان ضد أولئك الأوربيين، خاصةً بعد أن تضررت أوضاع غالب السودانيين في جانبي الاقتصاد والرفاه الاجتماعي بسبب الخطوات التي قام بها غوردون لمنع الرق بالبلاد. وبهذا فإن من الخطأ تفسير ثورة المهدي على أنها موجهة ضد مصر. فقد كان المهدي يدعو لتحرير "دار الإسلام" وتخليصها من براثن السيطرة الأوروبية.
***** ****** *******
نشرت حكومة مصر الثورية في عام 1953م تقريراً شاملاً عن العلاقات المصرية – السودانية لتقدم ما اعتبرته حقيقة تاريخية. وكان ذلك "الكتاب الأخضر" كما أسموه قد تناول وحدة الدين واللغة والثقافة بحسبانها نتيجة طبيعية وحتمية للنيل الذي مكن من عبور الإسلام بحرية إلى قلب أفريقيا. لذا فإن وحدة مصر والسودان هي نتاج للفرمانات الصادرة في عامي 1841و 1866م، وهي أيضاً نتاج للثقافة المشتركة التي تربط بين المنطقتين (9). ورغم ذلك وافق مجلس قيادة الثورة في مصر على منح السودانيين حق تقرير مصيرهم. وعلى الرغم من أن بعض حكومات مصر قبل الثورة (خاصة حكومة الوفد عام 1951م) كانت قد وافقت – ببعض التأبي- على منح السودانيين ذلك الحق، إلا أن تلك الحكومات كانت تؤكد بأن حق تقرير المصير مكفول فقط في إطار وحدة وادي النيل وتحت تاج ملك مصر والسودان. وعقب الإطاحة بالملك فاروق في عام 1952م، لم يعد ذلك العائق موجوداً. إضافة لذلك، كان الرئيس محمد نجيب ورفاقه في مجلس قيادة الثورة يؤمنون بأن السودانيين سيختارون الاتحاد مع مصر.
******* *********** *************
إحالات مرجعية
1/ ذكر الأستاذ الدكتور أحمد أبو شوك أن من بين المؤرخين السودانيين الذين تصدوا إلى "وصاية" الأستاذ الدكتور عبد العظيم رمضان وافتراضاته الأستاذ الدكتور حسن أحمد إبراهيم، الذي كتب مقالاً بعنوان: "لا وصاية في التاريخ يا دكتور"، مفنداً فيه المسوغات التي طرحها رمضان في مقاله ... عن "أكذوبة الاستعمار المصري للسودان". اُنْظُرْ https://shorturl.at/xZuHt و https://shorturl.at/MThtt

2/ ضرب الكاتب هنا أمثلة ببعض كتابات المصريين مثل رفاعة رافع الطهطاوي (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية)، ومحمد فريد (البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية)، ومحمود فهمي (البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر)، وإبراهيم فوزي (السودان بين يدي غردون وكتشنر).
3/ استشهد الكاتب هنا بكتاب لحسن أحمد إبراهيم عنوانه: "رحلة محمد علي باشا للسودان" الذي صدر بالخرطوم عام 1980م.
4/ يمكن النظر في هذا الرابط https://shorturl.at/Cx9Vt لمقال مترجم عن "المماليك في السودان".
5/ تجد في هذا الرابط مقال عن "الرق العسكري إبان عهد التركية بالسودان" في هذا الرابط https://shorturl.at/TOGTP
6/ ورد ما كتبه عبد الرحمن الرافعي في الطبعة الثالثة من كتابه الموسوم "عصر محمد علي" الذي صدر عن مكتبة النهضة المصرية عام 1951م (ص 170). وعدد الرافعي دوافع فتح مصر للسودان في كتابه المعنون "مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال"، الصادر عن مكتبة النهضة المصرية عام 1948م (صفحات 167 – 170).
7/ ُنْظُرْ مدونة "قصة مصر في مجلس الأمن عام 1947م" في الرابط https://shorturl.at/OJyqB
8/ حق الاحتلال - بحسب ما جاء في موسوعة الويكيبيديا – هو حق المحتل في الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بقوة السلاح. وكان هذا الحق تقليدياً من مبادئ القانون الدولي الذي تضاءل في العصور الحديثة تدريجياً حتى تم حظره بعد الحرب العالمية الثانية عندما صُنفت الحرب العدوانية لأول مرة تحت مبادئ نورمبيرغ وبعد ذلك وأخيراً، في عام 1974، كقرار الأمم المتحدة رقم 3314.
9/ استشهد الكاتب هنا بوثيقة عنوانها "السودان من 13 فبراير 1841م إلى 12 فبراير 1953م"، صدرت بالقاهرة عن "رئاسة مجلس الوزراء، 1953م، في صفحات 193 - 194. ويوم 12فبراير 1953م هو اليَوْم الذي وُقِّع فيه اتفاق السودان، بين الحكومة المصرية وبريطانيا، في شأن الحكم الذاتي، وتقرير المصير للسودان.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء