السودان الجديد من الفكرة إلي الواقع (2– 7)

 


 

 

* استمرار حكم الإنقاذ ثلاث عقود و دوره في تفكيك العرى القديمة من خلال مشروع التخطيط الاجتماعي

واحدة من العوامل الجوهرية التي أثرت في العملية السياسية المرتبطة بعملية الانتقال، الآثار التي خلفها نظام الإنقاذ، و هي تراكمات ثقافية و قوانين و سلوك فشلت القوى السياسية أن تقيمها التقييم الصحيح، و تضع على ضوء حصرها و فهمها مشروعا سياسيا تلتزم به أي حكومة يتم أختيارها لتنجز مهام الفترة الانتقالية. رفعت القوى السياسية شعار تفكيك دولة الحزب لمصلحة الدولة التعددية، و محاسبة كل الذين ساهموا في الفساد و الإجرام الذي رتكب خل الثلاث عقود، لكن لغياب (العقل المفكر) داخل القوى السياسية التي جعلت نفسها حاضنة سياسية تشرف على انجاز مطلوبات الثورة، جعل الشعار معلق دون تنزيله للارض بالطريقة التي ترسي من خلالها أهم ركن في عملية التحول الديمقراطي ( العدالة) أعتمدت على الإثارة و تهيج المشاعر العاطفية بعيدا عن ترسيخ مباديء و قيم الديمقراطية، خاصة أن بعض القوى السياسية ذات الشعارات الثورية هي نفسها فاقدة للثقافة الديمقراطية، لذلك تستخدم الشعارات الديمقراطية كمناوره، الأمر الذي يؤثر سلبا على العملية السياسية ذات التوجه الديمقراطي، و القوى السياسية ذات المرجعية الديمقراطية تنازلت عن مبادئها ركدا وراء السلطة.
في المبحث لآ أريد اتطرق بالتفصيل لبرنامج الإنقاذ السياسي و مخلفاته، بل أتطرق إلي بعض المخلفات التي تخلق تحديا مستمرا لعملية التحول الديمقراطي. لأن نظام الإنقاذ لم يكن انقلابا عسكريا، أنما كان مشروعا سياسيا لقوى إسلامية أيديولوجية، كانت تحمل رؤية قد خطتت لها بداية مشوارها السياسي، تركزت في بدايتها على استغلال المؤسسات الأيديولوجية ( الإعلام – التعليم – دور العبادة و غيرها) إلي جانب تكوين مؤسسات قمعية مهمتها الأساسية حماية النظام، و هي مؤسسات ستظل حامية للثقافة السياسية التي خلفها النظام، ليس بسبب ولاء العناصر الذين يعملون في هذه المؤسسة للنظام السابق، و لكن لأنهم لا يملكون الثقافة الديمقراطية التي كان يجب أن تنتجها القوى الديمقراطية. و من أهم مخلفات النظام السابق التي تشكل تحديا لعملية التحول الديمقراطي.
أ – السياسة التعليمية: حيث فشلت الفترة الانتقالية أن تتوافق في عملية تغيير السياسة التعليمية التي تمثل ركن أساسي للنظام السابق، إلي جانب أن تعليم يعتبر أهم أداة منتجة للثقافة الديمقراطية، و التعليم يستطيع أن يغير الثقافة السياسية المعتمدة على منهج التبرير إلي إنتاج ثقافة ديمقراطية من خلال حرية البحث و الدراسات.
ب – السياسة الإعلامية: و هي ليست سياسة جاءت بها الإنقاذ، أنما هي من مخلفات الإنقلاب الأول 1956م ( عبود) و هي السياسة التي كان وضعها الأميرلاي محمد عثمان نصر وزير الإرشاد أن يكون الإعلام تابعا للسلطة التنفيذية تضيق فيه الحرية و تتوسع برضى القيادة السياسية للدولة، جاءت الإنقاذ لم تكتف بالإجهزة الإعلامية للدولة بل أسست العديد من المؤسسات الإعلامية الأخرى 75% كانت تابعة لجهاز الأمن و المخابرات، الأمر الذي جعل الإعلام يقع تحت الإشراف الكامل لرئيس البلاد، و هذه السياسة لا تتغيير بطرد العديد من العاملين من وظائفهم بل من خلال تغيير القوانين السائدة التي تجعل الإجهزة الإعلامية في قبضة وزير الإعلام. أن العاملين في هذه الأجهزة يتعاملون وفقا للقانون و الثقافة السائدة، فالذي يريد أن يغير السياسة الإعلامية عليه أن ينظر بمنهج نقدي للقوانين و الثقافة السائدة فيها و تغييرها، و بدلا من الاستمرار في سياسة الخوف القائمة على الطرد من الوظائف لإحلال أهل الولاء زرع الثقة في هؤلاء العاملين و منحهم مساحة واسعة من الحرية لكي يتحرروا من الرقيب الذاتي المزروع داخلهم و ينطلقوا إلي فضاء الإبداع.
ج – تغيير قانون العمل النقابي: الهدف من ذلك السيطرة الكاملة على النقابات و عدم سماح لأي قوى مناهضة للنظام الوصول إلي قيادة النقابات و الاتحادات المهنية. السلطة بالسيطرة على العمل النقابي استطاعت أن تجرد المعارضة من أهم أدواتها التي استخدمتها في ثورة أكتوبر 1969م و انتفاضة إبريل 1985م، أدى ( قانون الصالح العام) طرد العديد من القيادات النقابية من وظائفهم . فشلت الفترة الانتقالية في تغيير القانون و إجراء انتخابات لكي تكتسب النقابات و الاتحادات المهنية الشرعية، فشل تعديل القانون و إجراء الانتخابات يؤكد أن الأحزاب السياسية التي شكلت الحاضنة السياسية ليس لها رؤية سياسية لعملية التحول الديمقراطي.
د – الحزب ( المؤتمر الوطني) لم يكن هو حزبا سياسيا بالمعني المتعارف عليه لدور الحزب السياسي. بل كان مؤسسة ألغت العديد من عمل مؤسسات الدولة حيث كان يتلقى تمويله من ميزانية مفتوحة من وزارة المالية، و كل هذه الأموال تستخدم في مجال الاستقطاب السياسي و الموالاة. فكانت قيادة الحزب في أي منطقة هي التي يلجأ لها المواطنون من أجل قضاء مطلوباتهم و مصالحهم الخاصة و الجهوية و المناطقية، و الحزب هو الذي استطاع أن يؤجج النعرات الجهوية و القبلية في جميع ولايات السودان، و كان يعتمد على الأقليات في المناطق ذات التعددية الأثنية لكي يضمن الولاء القوي للنظام.
ه – المؤسسات القمعية: أعطاء صلاحيات واسعة لجهاز الأمن و المخابرات في عمليات الاعتقال، و تقليص الحرية و توسيعها خاصة للصحافة و غيرها من مؤسسات الرأي. ثم انشأ قوات الدعم السريع خوفا من الانقلاب العسكري من قبل الجيش لكي يخلق حالة من التوجس عند الكل، ثم بدأ في إرضاء جنرالات القوات المسلحة و منحهم الحق في التجارة و الصناعة و المشاريع الزراعية، كما منح قوات الدعم السريع الحق في العمل التجاري و التنقيب عن الذهب، كل هذه الإجراءات كان الهدف منها هو إغلاق أي باب للانقلابات العسكرية. هذه السياسة خلقت ثقافة جديدة أن تدافع هذه المؤسسات القمعية على المصالح التي أكتسبتها، و بالتالي تكون أكثر حرصا على استمرار النظام و الثقافة و السياسة التي أنتجها.
و – سياسة إدارة الأزمة مع الحركات المسلحة و قيادات الأحزاب الأخرى: كانت الإنقاذ تتعامل مع القوى السياسية الأخرى من خلال سياسة الترغيب و الترهيب، الترغيب منح الوظائف الدستورية و الوظائف العليا في الدولة، أو منح تسهيلات اقتصادية عبر البنوك و غيرها، و الترهيب من خلال الاعتقال و الطرد من الخدمة و غيرها، لذلك أضعفت الأحزاب السياسة بسحب العديد من قياداتها، الأمر الذي أدى للتشظي المستمرة في الأحزاب. و أيضا استطاعت أجراء حوارات مع الحركات المسلحة و الوصول معها لاتفاقيات تمنح لها وظائف دستورية في البرلمان و السلطة التنفيذية، بهذه السياسة تفتت الحركات المسلحة، و أصبح الرغبة للوصول للسلطة من خلال حمل البندقية. لذلك أصبح تكوين بعض الحركات ليس لمباديء تحملها أو مطلوبات شعبية و جماهيرية، أو إنهاء مظالم تاريخية، بل من أجل الحصول على وظائف قيادية تمنحها الدولة بعد أي اتفاق يجرى معها، مما جعل عشرات الحركات تتكون ثم تختفي. الغريب في الأمر إذا كانت قيادات الحراكات أو حتى قيادات الأحزاب السياسية المنشقة يكونوا جميعا على هامش السلطة، لا يشاركون في القرارات المصيرية.
كان على القوى السياسية بعد سقوط النظام؛ أن تخضع كل مخلفات النظام السابق للدراسة؛ و تفتح حوارات مع الخبراء في عملية التغيير من نظام شمولي إلي نظام ديمقراطي و تبحث عن الطرق الأمثل في عملية التفكيك التي من خلال عملية التفكيك أن ترسي قيم الديمقراطية و مؤسساتها، لكن للأسف أن القوى السياسية كانت فكرة السلطة و الاستحواذ عليها قد هزمت شعارات الديمقراطية المرفوعة، لإاصبح الكل يبحث له عن موطيء قدم في السلطة، و محاولة تبرير أن الفترة الانتقالية تحتاج لفترات طويلة لكي يهيأ الدولة للانتخابات، فالسلوك كان في اتجاه و شعارات الديمقراطية في اتجاه أخر. نسأل الله التوفيق. نواصل

zainsalih@hotmail.com

 

آراء