السودان في مهب تحولات الشرق الأوسط

 


 

 



وددت لو أن السيد وزير الخارجية الأستاذ علي كرتي وهو يستعرض بيان وزارته أمام المجلس الوطني بالأمس حول سياسة السودان الخارجية خرج على نص البيانات الوزارية التقريرية التقليدية وطرح الآفاق أو المخاطر المحتملة على البلاد في خضم تحولات إستراتيجية جذرية في العلاقات الدولية تتبدل فيها التحالفات تشهدها المنطقة لن يكون السودان بمعزل منها أو بمنأى عن آثارها وإن آثر أن يبقى متفرجاً محاولاً أن يسترضي جميع الأطراف الفاعلة.
وثمة تساؤلات كثيرة وعميقة يجب أن تُطرح في هذا الخصوص, ليس أقلها إن كان بالفعل للسودان سياسة خارجية بالمعنى والمضمون المعروف لهذا الإصطلاح, والمقصود هنا ليس التعميم ولا التقليل من شأن الجهود التي يبذلها الوزير ومعاونوه في الدبلوماسية السودانية, ولكنها مسالة تتخطى الجهد المقدر المبذول فيإدارة الأزمات المتلاحقة والقيام بدور الإطفائي للحرائق السياسية, إلى السؤال إن كان هناك تعريفاً دقيقاً بالفعل للأمن القومي والمصالح الوطنية المطلوب من الوزارة الإسهام بدورها في حمايتها والدفاع عنها, والذي تًبنى عليه السياسة الخارجية وهي مهمة تضطلع بها متضامنة أجهزة الدولة المختلفة استناداً على معادلات أوضاعها الداخلية ووضعها في موازين القوة. وقبل الخوض ببعض التفصيل في ذلك دعونا نقف على جوانب من تطورات مشهد إعادة تشكيل التحالفات والمحاور الجارية في المنطقة حالياً ثم ننظر في موقع السودان منها.
والشاهد أن ثمة تحولات مثيرة للغاية في لعبة الأمم تجري وقائعها في منطقة الشرق الأوسط تقترب من درجة الانقلاب الكامل في مسارات العلاقات الإستراتيجية الدولية التي استقرت لحقبة كاملة حتى كادت تصبح في باب المسلمات, بدا الأمر وكأنه مفاجئاً وتوازنات تلك العلاقات تهتز ويجري إعادة تشكيلها على وقع موازنات قوى جديدة صاعدة, وليس في الأمر عجب فالحكمة التقليدية الراسخة  في عالم العلاقات بين الدول ألا صداقة دائمة ولا حتى الأيديولوجية عامل ترجيح بل المصالح الدائمة هي التي تتحكم في صناعة الأجندة.
حتى وقت قريب كان عنوان المشهد في منطقة الشرق الأوسط اصطفاف التحالفات على خلفية الصراع على البرنامج النووي الإيراني, تجمع الحلفاء الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها العرب لا سيما دول الخليج العربي على صعيد واحد في مواجهة الخطر الإيراني المستند على تحالفات مصالح مستترة مع روسيا والصين, وجاءت الثورة الشعبية الثورية لتزيد من حدة الاستقطاب بين المعسكرين ليتحول جسد الشعب السوري إلى ملعب للصفقات الدولية تحت الطاولة ليتحول حلم الثورة إلى كابوس لتمر ثلاث سنوات عجاف والرئيس السوري متربع على عرشه بفضل خلط الأوراق في كواليس لعبة الأمم, ولم يُكتب للسوريين اللحاق بموسم ثورات الربيع العربي لأن توازنات التدخل الخارجي خدمت النظام وتجاهلت الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب.
وحتى الأمس القريب كانت إيران مرشحة لضربة أميركية وشيكة, ولكن سرعان ما تغيرت قواعد اللعبة حينما قررت الأطرف في المعسكرات المختلفة الاستفادة من التطور السياسي الذي شهدته طهران بوصول الرئيس حسن روحاني إلى سدة الحكم, لم يتغير شئ في المعادلات التي كانت تتحكم في تلك العلاقات المتوترة, كل ما حدث تغيرت لغة الخطاب الإيراني شيئاً ما واستخدم روحاني لغة دبلوماسية ظاهرها المرونة, ولكنها كانت كافية لفتح كوة للنفاذ منها إلى صك تفاهمات جديدة لإعادة تشكيل العلاقات الإيرانية الغربية بتسوية في الملف النووي, ولإعادة ترتيب قواعد اللعبة في سورية في التسوية التي تمت بشأن أسلحتها الكيمائية ضمنت للنظام الحاكم إعادة إحكام سيطرته على الأرض ودور فاعل في رسم خريطة المستقبل.
شهدت العاصمة الأوروبية للأمم المتحدة جنيف الأسبوع الماضي واحدة من أكثر اللحظات إثارة في مسار التحولات الاستراتيجية الجديدة في المنطقة ووزراء خارجية الدول الكبرى الست في مجموعة خمسة زائد واحد يتقدمهم وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يجتمعون مع نظيرهم الإيراني محمد جواد ظريف  للتباحث حول اتفاق مؤقت مدته ستة أشهر تجمد إيران خلاله نسبة تخصيب اليورانيوم الحالية من عشرين بالمائة, صحيح ان الاتفاق لم يتم بعد تدخل فرنسي في اللحظة الأخيرة, وأيضاً لتحفظات إيرانية تكتيكية إلا أن الطريق باتتممهدة بالفعل للتوصل إلى اتفاق يتجاوز ذلك إلى الاعتراف بإيران قوة نووية, وتخفيف العقوبات عليها وصولاً إلى تطبيع العلاقات وبدأت طلائع ذلك باستعادة لندن علاقاتها الدبلوماسية مع طهران.
غير أن التحولات المثيرة للإنتباه لم تقف عند هذا الحد فعلى الجانب الآخر أظهرت المملكة العربية السعودية موقفاً صلباً وهي تدافع عن مصالحها في مواجهة هذه التحولات الاستراتيجية التي تكاد تقلب توازنات المنطقة المستقرة لعقود رأساً على عقب, فقد تخلت الرياض عن دبلوماسيتها الناعمة والهادئة, وقادت هجوماً معاكساً يهدد فعلياً متانة علاقاتها التحالفية الوثيقة مع الولايات المتحدة,  وبدد تلك المسلمات السائدة التي كانت تصنفها في خانة التابع لواشنطن, ولم تتردد السعودية في استخدام وسائل وأوراق ضغط كثيرة لم تكن تنقصها, كان أوضحها رفضها القبول بمقعد عضوية مجلس الأمن الدولي في خطوة احتجاجية ليس فقط على ازدواجية معاييره وضعف إرادته, ولكن أيضاً كانت رسالة ضرورية إلى أنها لن تقف متفرجة على هذه التحولات الخطيرة التي تمس أمنها ومصالحها الوطنية.
وكرت مسبحة التفاعلات مع هذه التطورات لتصل إلى إسرائيل التي طالما أطمأنت إلى أبدية حماية حلفائها الغربيين لتصحو على وقائع جديدة لم تحدث اعتباطاً ولكن فرضتها توازنات المتغيرة مع بروز قوى جديدة, فالضربة العسكرية التي هدد بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإيران أكثر من مرة, وكذلك التهديد الأمريكي تراجعت حظوظه لإدراك صناع القرار في الطرفين أنها لن تكون نزهة, على نحو ما ظلت تمارسه في العديد من الدول العربية, دون ردة فعل قوية تبطل مفعول وقيمة استخدام القوة العسكرية, فحسابات الخشية من عواقب وخيمة لهذا الخيار التي تجعل ضرره أكبر من نفعه هو الفاعل الأساسي في صناعة التحولات الجديدة, وهو ما صعب على إسرائيل ابتلاعه لدرجة أن نتنياهو رفض مصافحة وزير الخارجية الأمريكية جون كيري في اجتماعهما بتل أبيب قبل توجه الأخير إلى جنيف للاجتماع الدولي بشأن الملف النووي الإيراني.
نتنياهو اعتبر محقاً أن الاتفاق الغربي مع إيران"صفقة القرن", ووصفه بأنه " اتفاق سيئ جداً واسرائيل ترفضه بقوة، ولن تكون ملزمة به، وتحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن أمنها وشعبها"، وهو ما اعتبره محللون تلميح واضح إلى عدم إسقاطه احتمال توجيه ضربات عسكرية لإيران، كما هدد نتنياهو باللجوء الى الكونغرس لإجبار إدارة أوباما على عدم المضي قدماً في إبرام هذه الصفقة.
ثم هناك التحولات التي يعكسها اضطراب العلاقات المصرية الأمريكية على خلفية التطورات السياسية التي أدت إلى قطع مسار الديمقراطي في أعقاب الثورة المصرية ومحاولة إعادة إنتاج النظام السابق بوجوه جديدة, وهو ما أدى إلى توتر بين القاهرة وواشنطن هز علاقات التحالف الوثيقة بينهما المستقرة منذ أكثر من ثلاث عقود, وحالة السيولة الراهنة فيها تدفع القاهرة إلى الدوران في فلك المحور السعودي صاحب الفضل في دعم الأوضاع الحالية في مصر. في وقت بدأت القاهرة بتشجيع وتمويل خليجي إلى البحث عن بدائل روسية لتسليحها الأمريكي, وهي علاقة قد تتطور سياسياً مع لعبة تغير التحالفات والمحاور الجارية حالياً في المنطقة.
وبالعودة إلى المشهد السوداني على خلفية بيان السيد وزير الخارجية أمام المجلس الوطني لا يكاد المرء يلمس التفاتاً إلى هذه التحولات الجارية في المنطقة, أو قراءة لمغزاها أو تحسباً لتبعات وتداعيات ديناميتها والتي بلا شك ستمتد آثارها إلى السودان, وهو ما يتطلب بالضرورة وقفة لمراجعة واعية مدروسة واستعداداً للتعاطي معها بحيث لا تجد البلاد نفسها مضطرة لدفع فاتورة توابع زلزال هذه التحولات, ولا يزال درس الغزو العراقي للكويت وحرب الخليج الثانية وموقف الحكومة فيها ماثلاً.
وإن كان ثمة عبرة من التحولات الجارية في المنطقة فهي أن إدارة العلاقات الخارجية للدول لا تتم اعتباطاً ولكن تحكمها اعتبارات دقيقة للمصالح الوطنية, تأخذ في الاعتبارات حساب توازنات القوة, والإدراك الكامل لمكامن الضعف والقدرة على اللعب على التناقضات وإحسان استخدام الكروت التي تملكها. ولا تتحرك دولة في نطاقها الخارجي بغير مصدر قوة داخلية معتبر, سياسياً كان أو اقتصادي, والمعارك الدون كيشوتية مع طواحين الهواء هي آخر ما تصلح في إدارة العلاقات الخارجية.
ومأزق العلاقات الخارجية للسودان في العهد الحالي أنه لا أحد يعرف على وجه التحديد ما هي نظرية الأمن القومي, أو إن كانت تًوجد أصلاً, ولا ماهي مصالح البلاد الوطنية, سيكون خطأ كبيراً تعريف ذلك بحساب مصالح السلطة القائمة الضيقة وتجييرها من أجل استدامة بقائها في الحكم, والبون شاسع بين الأمرين, فالوطن أبقى من أية سلطة سياسية, ومصالحه أكبر سعة من مصالح الطبقة الحاكمة, ولذلك يبقى ارتهان مصالح البلاد لحسابات فئة ضيقة هو أكبر مهدد بالفعل لمصالحها الحقيقية.
وشكوى النظام المستمرة من تدهور علاقاته الخارجية يعود لسياسة الصفقات المجانية التي يدير بها قضايا استراتيجية لا تحتمل التعامل معها بطريقة تجارة التجزئة ومن ذلك العلاقة مع جنوب السودان الذي شكل فصله وتقسيم البلاد ثم ما رافق ذلك من تخبط بين حروب وسلام أكبر دليل على عدم وجود نظرية للأمن القومي, وكل الأضرار التي جلبها لم تكن إلا نتاج صفقات سياسية قصيرة النظر لم تبصر أبداً إلى نتائجها الكارثية السياسية والاقتصادية, ومحاولة استدراك ذلك لا تزال تبدو هشة. وما كان ذلك إلا نتاجاً لعقلية الحسابات الحزبية الضيقة المتجاوزة لمنطق المصالح الوطنية.
ما من شك أن السياسة الخارجية في نهاية الأمر هي انعكاس للسياسة الداخلية للحكومة ومدى قوة أو هشاشة أوضاعها الداخلية هي التي تتحكم في قدرة الدولة على إدارة علاقاتها الخارجية, فالتدخل الخارجي الذي حدث في الشؤون الداخلية للسودان في ظل العهد الحالي لم تحدث في ظل أي نظام حكم سبقه, فالاضطراب السياسي والحروب الأهلية بسبب الصراع على السلطة والثروة, وإدمان الحكم للمفاوضات مع معارضيه من عاصمة إلى أخرى جعل النظام الذي رفع شعار السيادة الوطنية هو الأكثر استدعاءاً للتدخلات الأجنبية السياسية والعسكرية في البلاد على نحو غير مسبوق.
لقد كان لإدارة السياسة الخارجية بحسبانها "ظاهرة صوتية" مما تشهد به الشعارات الخطابية المتحدية التي تذهب أدراج الرياح لتعود بنتائج كارثية على الواقع هي المثال الأبرز لانعدام الرؤية, كما أن المواقف الانفعالية الخالية غير المستندة على حكمة "رحم الله إمرء عرف قدر نفسه" كانت مجلبة للحصول على تنازلات مجانية ظلت تطبع السياسة الخارجية طوال العقدين الماضيين. ولا أحد يدفع لك مقابلاً لما تقدمه مجاناً, ولذلك ستظل الشكوى المكرورة تدور حول مراوحة العلاقات مع الدول الكبرى في مكانها, لأن البعض لا يرى أن التغيير لكي يثمر مطلوب أن يحدث هنا, وليس أن تبقى في محلك ثم تنتظر أن يتبرع لك الآخرون بتحسين العلاقات. وقد رأينا كيف بدد النظام الحاكم بفعل القصور الشنيع في الكفاءة والقدرات الفرص التي جاءته للخروج من طوق العزلة.
ولذلك لن يتجاوز الحديث عن السياسة الخارجية للسودان أفق العلاقات العامة ومحاولة إطفاء الحرائق ومطاردة الأزمات ما لم يُنظر إليها في إطار أوسع فليس لدولة مضطربة سياسية مفلسة اقتصادياً غارقة في الحروب الأهلية والصراعات السياسية أن تتوقع أن يكون لها نصيب فاعل في إدارة علاقاتها الخارجية, بل ستظل في خانة المفعول به تُوظف لخدمة مصالح الآخرين.   


tigani60@hotmail.com

 

آراء