السودان والمحكمة الدولية: ثم ماذا بعد صدور القرار؟

 


 

 


Ussama.osman@yahoo.com
الآن وبعد أن صدر القرار المرتقب للدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية بتوقيف رئيس جمهورية السودان بدعوى المسؤولية عن جرائم حرب في دارفور أعلنت الحكومة موقفها الرسمي واستعدادها لتحمل نتائج هذ الموقف. ولقد عبر السيد نائب رئيس الجمهورية، الأستاذ على عثمان محمد طه، الذي صار هو الرئيس الفعلي، بدلا عن النائب الأول، للجنة القومية لإدارة الأزمة بعد أن تبين أن ليس من سبيل للتوفيق بين موقف المؤتمر الوطني المتمثل في الرفض التام وعدم التعامل مع المحكمة وموقف الحركة الشعبية الذي ينادي برفض قرار توقيف الرئيس ولكن ضرورة التعامل مع المحكمة بالطرق القانونية والسياسية المباشرة وغير المباشرة، عن نائب الرئيس عن الموقف الرسمي المتمثل في رفض القرار والعمل على مناهضته بكل الوسائل السياسية والقانونية الممكنة. وهذا الموقف المتوازن صاحبه في الوقت نفسه موقف تعبوي يتحدث عن عدم اهتمام السودان بالمحكمة وقرارها وأن الحياة ستمضي عادية كما كانت بالنسبة لرئيس الجمهورية وبقية جهاز الدولة كأن شيئا لم يكن، ومن البديهي أن هذا الكلام لا يستقيم ولن يفيد في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد. وموقف الرفض والمقاومة بكل السبل الذي عبر عنه السيد نائب الرئيس يدل على أن الحكومة قد اختارت موقف المواجهة مع مجلس الأمن ومع العديد من عناصر المجتمع الدولي وعليه ينبغي أن تكون على استعداد لهذه المواجهة وأن تدير أمرها بما ينبغي من حكمة ودراية وأن توفر لها الإمكانات المادية والبشرية القادرة على تفهم عمل النظام الدولي وذات القدرات والتفويض السياسي اللازم لإدارة الأزمة.
ويبدو أن الدبلوماسية السودانية ومن يقومون بإدارة الأزمة مع المحكمة الجنائية الدولية قد أدركوا، محقين، أن مفتاح الأزمة يمر بالضرورة بمجلس الأمن الدولي لذا قرروا معاودة الكرة مرة أخرى للطرق على بابه بعد عدة محاولات لم تكن موفقة في الماضي كان آخرها مسعى وفدي الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي لمخاطبة المجلس في فبراير الماضي في محاولة أخيرة استباقا للقرار الوشيك ولم تكلل المحاولة بأي نجاح وأعلن الوفدان، في سابقة نادرة، فشل المسعى. والسؤال المطروح هو ما هي احتمالات تكلل المسعى هذه المرة بالنجاح وما هو الجديد الذي يحمله الوفد الرفيع الذي يمكن أن يجعل بعض الأعضاء يفكرون في الأمر بشكل جديد.؟ وربما يكون من المفيد قبل وصول الوفد التفكر في سبب فشل المهمة في المرة السابقة وقراءة ما حدث في نهاية الإسبوع الماضي في أروقة المجلس بواقعية.
في نهاية الأسبوع الماضي، دعت ليبيا، بوصفها رئيسا لمجلس الأمن لهذا الشهر أعضاء المجلس لاجتماع تشاوري بشأن تداعيات صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف رئيس دولة عضو في المجموعة الأفريقية والمجموعة العربية واستمع الاجتماع التشاوري أيضا لإحاطة من نائبة منسق الشؤون الإنسانية والطوارئ في الأمم المتحدة السيدة كاترين براغ. وبحكم انتماء ليبيا للاتحاد الأفريقي وللجامعة العربية أحاطت الأعضاء علما بما قررته المؤسستين عند صدور القرار وأعلنت عن قدوم وفد رفيع المستوى لمناقشة الأمر مع أعضاء المجلس في الأسبوع القادم وطالبت بإعمال المادة 16 من نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية لتعليق إجراءات ملاحقة الرئيس البشير لمدة عام. واستشهدت بطرد حكومة السودان بعض المنظمات الإنسانية دليلا على التداعيات التي حذرت منها من قبل وحذرت من تداعيات أخرى إن لم يستخدم المجلس المادة 16 لتعليق إجراءات الملاحقة القضائية في حق الرئيس البشير ولم تذكر شيئا عن توقيف الوزير أحمد هارون أو قائد مليشيا الجنجويد على كوشيب. كما هو متوقع ساندت بوركينا فاسو ويوغندا ليبيا بحماس وشاركتهم بدرجة أقل من الحماس الصين وفيتنام وبشكل ما تركيا وروسيا. ووقف جميع من تبقى من أعضاء المجلس موقفا مناهضا لدعوة ليبيا تمثل في أنه ليس من مدعاة لاستخدام المادة 16 لتعليق إجراءات المحكمة في الوقت الحالي لأنه لم يستجد شيئ في موقف حكومة السودان يدعو لذلك، بل أن بعض الدول رأت في طرد المنظمات سببا لتشديد موقفها الرافض مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يسفر النقاش المطول عن اتفاق حول بعض النقاط تشكل مادة لبيان رئاسي يصدر باسم المجلس ولقد قادت فرنسا عملية إعداد المسودة والتفاوض مع الوفود ونجحت في إقناع المندوب الروسي بتبني قرار رئاسي متوازن يدين بشكل لا لبس فيه عملية طرد المنظمات ويرحب بالوفد القادم إلى نيويورك ولكن إصرار الصين على الإشارة للمادة 16 أدى إلى عدم إصدار البيان الرئاسي لأن البيان الرئاسي عادة لا يصدر بالتصويت وإنما بتوافق الآراء والبيان الرئاسي ليس ذا قيمة كبيرة وإنما يعتبر "أضعف الإيمان" فيما يمكن أن يصدر عن المجلس لا يخلو من الأعراب عن القلق الشديد والأسف والدعوة لضبط النفس وإعادة النظر في أمر ما.  وما هو أدني من البيان الرئاسي هو "بيان للصحافة" وهو مجموعة نقاط يتفق عليها ليقرأها رئيس المجلس للصحفيين المتجمهرين خارج القاعة باسم المجلس ويبدو أنه حتى ذلك الحد دون الأدنى لم يكن ممكنا مما جعل جميع المندوبين يتحدثون للصحافة مباشرة للتعبير عن مواقف دولهم بما في ذلك ممثل ليبيا الذي تحدث بصفته ممثلا لبلده وليس رئيسا للمجلس. وقد اتفق الجميع على الرغم من كل ذلك على شيء واحد هو الترحيب بالوفد الرفيع المستوى القادم إلى نيويورك وسيكون ذلك بعد عودة بعثة المجلس إلى هاييتي وربما أعطى ذلك للوفد متسعا من الوقت للاستعداد.
وعلى الدبلوماسية السودانية قراءة علاقات القوى داخل المجلس بموضوعية فحتى الآن لم يستطع  السودان الحصول على تأييد داخل المجلس لأكثر من سبع دول في أحسن الحالات هي تحديدا: ليبيا وبوركينا فاسو ويوغندا والصين وروسيا وفيتنام وتأييد هذه البلدان ليس مطلقا أو متساويا وإنما تحكمه اعتبارات عديدة، فالصين مثلا نجحت في إبعاد ميانمار من أن تكون ضمن جدول أعمال المجلس لأنها لا ترى فيما يحدث فيها تهديدا للسلم والأمن الدوليين وبالتالي لا تسمح بأن يناقشها المجلس ولقد سعت الولايات المتحدة عندما كان بولتون مندوبا لها في وضع ميانمار ضمن أجندة المجلس وفشلت فشلا ذريعا في ذلك. وليس هذه موقفها في تأييدها للسودان وغاية ما هنالك إن تمتنع عن التصويت إذا اقتضى الأمر ولكنها لن تمضي أكثر من ذلك وهذا ما فعلت عندما تمت إحالة أمر السودان إلى محكمة الجنايات الدولية بالقرار 1593 في عام 2005.
وغاية ما يمكن أن تقوم به المجموعة الأفريقية هو أن تنجح في ضم عضوين آخرين للموافقة على وضع أمر تفعيل المادة 16 للتصويت الذي سيسقط بفيتو ثلاثي من الدول الكبرى إذا استمرت الأمور بما هي عليه الآن. وربما حمل الوفد القادم المبادرة المصرية لعقد مؤتمر دولي لمناقشة كل مشاكل السودان ودارفور من بينها ووضع خارطة تشتمل على تنازلات وضمانات محددة وذلك رغم رفض حكومة السودان لها ويبدو أنها ستكون الموقف الجديد الوحيد الذي سيأتي به الوفد. إن لم يكن الهدف هو مجرد المجاملة ورفع العتب.
 وعلى الرغم من الموقف المعلن من بعض الأطراف في الحكومة السودانية بأن المطلوب الآن هو إلغاء القرار وليس تعليقه، وأن للاتحاد الأفريقي والجامعة أن تسعيا لطلب التأجيل إن رغبتا في ذلك فإننا لان نمنع الآخرين من السعي فيما صرح السيد على كرتي وزير الدولة بوزارة الخارجية فإن هذه الجهود لا يمكن أن تتم دون تنسيق لصيق مع حكومة السودان.  ويبدو أن الواقعيين من صناع القرار يعرفون أن تعليق الأمر لمدة عام هو أقصى ما يمكن الوصول إليه في ضوء القراءة الواقعية لطرق عمل المنظومة الدولية على الرغم من أن أملها هو إلغاء القرار جملة وتفصيلا بعد تغيير الظروف. وتتناقض هذه الواقعية مع موقف مثالي لا سبيل إليه وهو الطلب من الدول الأفريقية والعربية الأعضاء في نظام روما الانسحاب من المحكمة من أجل السودان وحتى لا تدور عليها الدوائر ولا يؤكل رؤساؤها بعد أكل الثور الأبيض, وأي مسعى دبلوماسي في هذا الصدد يعتبر مضيعة للوقت وتشبثا بحلم لن يتحقق فعندما اختارت هذه الدول الانضمام للمحكمة اختارت ذلك طوعا تماما كالدول التي اختارت أن لا تنضم للمحكمة, ولمعظم هذه الدول علاقات وتحالفات ومصالح بدول الاتحاد الأوروبي لن تفرط فيها من أجل رئيس السودان. ولو استطاع السودان إقناع هذه الدول بعدم تنفيذ قرارات المحكمة التي صادقت علي ميثاقها لكان ذلك نصرا كبيرا له. ولقد فشلت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في إضعاف المحكمة ومحاصرتها طوال سنين إدارة بوش وتدرس إدارة أوباما حاليا تبعات انضمامها إليها والدور الذي يمكن أن تعلبه في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، ومن الأشياء التي لم تكن الولايات المتحدة تتوقعها هو أن تفيدها المحكمة في مسائل مثل الضغط على حكومة السودان ورئيسها لإنجاز مسائل تتعلق بسياستها ودورها في إقرار أتفاق نيفاشا وسيناريو حل مشكلة دارفور الذي هو في طور التشكل.
من الأشياء التي تطرح دائما وكانت من أول الأسئلة التي طرحت في مشاورات نهاية الأسبوع الماضي في أروقة المجلس هو ما الجديد. ما هو الثمن أو التنازل الذي قدمه السودان حتى نقدم إليه هذه الخدمة الجليلة المتمثلة برفع السيف عن رأسه وجعله معلقا فقط لمدة عام؟ لم ينس ممثل فرنسا التذكير والتعبير عن إحباطهم لأن حكومة السودان لم تساعد نفسها حتى نساعدها في إشارة لرفضها للمقترح الفرنسي بتسليم المتهمين الأولين هارون وكوشيب كبادرة حسن نية تجاه المحكمة وتشجيعا للآخرين بعمل بعض الشي لرد هذه المبادرة. كما أنها لم تقدم للصين شيئا تجادل به وتدعم به مسعاها. وعند ما يصل الوفد في الأسبوع القادم سيكون هذا السؤال أول سؤال يواجه به، هاتوا ما عندكم، كما أنه ليس من الحكمة ترديد اللعنة والشكوى من ازدواجية المعايير والظلم وما إلى ذلك ولن يفيد العالم الخارجي سماع عبارات من النوع الذي يتردد في تلفزيون السودان ليل نهار هذه الأيام من نوع  "محكمة الهوان" أو "ما يسمى بالمحكمة الجنائية الدولية" أو "ما يسمى بالمدعي العام في المحكمة" وبلغ الشطط بأحدهم في برنامج من تلفزيون السودان أن ردد "ما يسمى بأوكامبو" فالرجل اسمه أوكامبو لا أكثر ولا أقل! فليس من الحكمة ترديد مثل هذه الحجج في أروقة الأمم المتحدة لأنها ستدعو من هم أعضاء في المحكمة ويعنيهم أمرها كدول أمريكا اللاتينية مثلا أن تدافع عنها كما فعل مندوب كوستاريكا في الأسبوع الماضي، وهو أستاذ في القانون الدستوري وكان وزيرا لخارجية بلاده ومن أكثر أعضاء المجلس حنكة وخبرة، ذكر ذلك السفير الأعضاء الأفارقة في المجلس عندما أشار أحدهم إلى أنها محكمة الأوربيين بأن جميع بلدان أمريكا اللاتينية أعضاء في المحكمة وأكثر من نصف البلدان الأفريقية أعضاء فيها إلى جانب أن من بين القضايا الأربع التي تنظر فيها المحكمة ثلاث قضايا جاءت بناء على طلب من بلدان أفريقيا لمحاكمة مواطنين أفارقة متهمين بجرائم وقعت على مواطنين أفارقة وهذه حقائق مجردة لا تقبل الجدل.
وكثيرا ما يشكو حلفاء السودان من الأفارقة والعرب أن السودان لا يساعدهم ليساعدوه ومن قبيل ذلك قرار طرد بعض المنظمات الإنسانية والحملة التي شنت عليها. ومرة أخرى يتسآل المرء إلى ماذا يهدف من يديرون الأزمة من مثل هذه الأشياء هل قدروا حساب الربح والخسارة قبل اتخاذ القرار وهل سيمضون فيه إلى نهايته وهل من حكمة في ذلك؟ ولقد كان الحديث عن طرد المنظمات مناسبة لبعض الأعضاء في المجلس للتدليل على عدم حساسية حكومة السودان تجاه معاناة مواطنيها حتى أن أحد الأعضاء قد ذكر بالمبدأ المختلف عليه وهو مبدأ " مسؤولية الحماية" وهو المبدأ الذي يقضي بأن على المجتمع الدولي التدخل عندما تعجز دولة أو ترفض حماية مواطنيها وتبنت فرنسا عند رئاستها للمجلس في يناير الماضي نقاشا مفتوحا عن حق التدخل الإنساني وهذه هي المداخل التي تقود إلى الوصايا على الدول وتحديد حقها في السيادة وتغير حكوماتها إن دعا الأمر. وربما كان السودان يسير على هذا الطريق ولكن نعتقد أننا لم نصل إلى نقطة اللاعودة بعد ونأمل أن يغشى أصحاب الأمر المزيد من التدبر والحكمة قبل فوات الأوان.
أسامه عثمان ، نيويورك
نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 10 مارس 2009

 

آراء