أفرد المؤرخ السودانى عصمت حسن زلفو في كتابه الذى حمل عنوان : ( كررى ) - والتى وقعت فى ٢ سبتمبر ١٨٩٨م - صفحة كاملة للأمير إبراهيم الخليل مشيداً بفكرته الإستراتيجية التي قدمها في مجلس الخليفة عبدالله التعايشى ناصحاً بالهجوم على الجيش الانجليزى خلال الليل, إلّا أن مجلس الخليفة قد استقر رأيه على الهجوم النهارى بنتائجه المعلومة, ومضى هو بقواته من جيش الكاره وخاض الحرب بكل جرأة وشجاعة وثبات إلى أن أُصيب وسُحب من أرض المعركة إلى أم درمان وتُوفى بعد وقت قصير ودُفن فيها وقبره معلوم وأحفاده موجودون إلى يومنا هذا. وكان تعليق الأمير إبراهيم الخليّل للخليفة عبدالله عندما رُفضت نصيحته هو قولته المشهورة " المهدية مهديتكو ... لكن نصر مافى".
وكانما التاريخ يعيد نفسه فانه يصح ان نقول مع كثيرين : ( الحكومة حكومتكم ...لكن نصر مافى ) . ولا تنى الأزمات تتناسل فى بلادنا مع صباح كل يوم جديد والعالم يمضى من حولنا تتجدد فيه الأفكار وتقع الانتقالات ويخطو بل يهرول الى الامام نحو المستقبل بسرعة الضوء فيما نحن نعمق تحت أرجلنا الحفرة التى وقعنا داخلها . ونذهل بأعراض الازمة فى السياسة والاقتصاد والاخلاق والعلوم والثقافة والفساد عن المرض نفسه وهو غياب الفكر الذى يقود حياة الانسان فى مجتمعنا ليحقق مع الجماعة كمالات وجوده ففى غياب الحرية تسقط كل القيم . دولة مثل كوريا الجنوبية كانت حتى الستينات من القرن الماضى يبلغ الدخل القومى للفرد فيها حوالى ٢٣٠ دولارا أمريكيا سنويا وهو يقارب مثيله عندنا آنذاك لكنه تضاعف هناك بحوالي ١٠-١٢ مرة فى التسعينات بينما حسب تقديرات ٢٠١١م لا يتجاوز الدخل القومى السنوى للإنسان السودانى ٥٠٠ دولار امريكى .وقس على ذلك فى دول وبلاد الله الاخرى فى اسيا وإفريقيا . وفى كتابه الذى صدر سنة ١٩٩٣م بعنوان : ( الاستعداد للقرن الواحد والعشرين ) يقول بول كينيدي احد أشهر المؤرخين المعاصرين والأستاذ بجامعة ييل الامريكية المعروفة ان مجموعة دول النمور الآسيوية - و هو لقب يطلق على ا <https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF> قتصاد دول تايوان ، سنغافورة ، هونغ كونغ وكوريا الجنوبية و سميت بهذا الاسم لتحقيقها معدل نمو اقتصادى كبير وتصنيع سريع خلال الفترة ما بين الستينيات والتسعينيات, وفي بداية القرن الواحد والعشرين - تحولت الى بلدان متقدمة وما يجمع بينها من أسباب نهوضها السريع هو اولا- ولعله اهم الأسباب - الاهتمام الجاد بمسالة التعليم وابتداع طرق تربوية تحقق التناغم الاجتماعي وتخلق قوى عاملة فائقة التدريب من دون اغفال بث روح التنافس الفردى. ويسوق كينيدي مثالا على ذلك بان عدد الطلاب المتخرجين فى كليات جامعية او معاهد هندسية فى كوريا الجنوبية فى الثمانينات كان يعادل عدد الطلاب من خريجى الهندسة فى الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة وألمانيا والسويد مجتمعة. والعامل الثانى هو حجم الادخار الوطنى المرتفع وذلك باتباع إجراءات مالية وضرائبية وضبط الاستيراد لتشجيع الادخار الشخصى بحيث يتم تراكم رأسمال منخفض الفائدة يوظف للاستثمار فى التصنيع والتجارة. اما العامل الثالث فهو الإطار السياسي المتين الذى يرعى النمو الاقتصادى ويشمل ذلك على سبيل المثال الصناعات المستهدفة بالنمو والتى تنال حظا وافرا من الدعم للتصدير ومنح التدريب والحماية فى التعرفة والرسوم لمنافسة المستورد. اما العامل الرابع فهو الالتزام الصارم بالتصدير الى درجة انه جرى اعادة هيكلة الإدارات العليا والقوى العاملة فى تايوان وكوريا الجنوبية بحيث تكون المنتجات المصدرة تلبى تماماً طلبيات الزبائن الخارجيين . ويتضمن هذا العامل خفض قيمة العملة المحلية لرفع الصادرات وتقليل الواردات وايضاً قلة كلفة القوى العاملة عن مثيلاتها فى الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا . ويضيف كينيدي عاملا خامسا لكنه غير محسوب بلغة الأرقام وهو نموذج المحاكاة الذى اتبعته النمور الآسيوية وقد اتخذت من تجربة اليابان مثالا يحتذى فى النهوض ومن ثم الوثوب. وخلال الحقب التى تلت الاستقلال وانقضاء الكولونيالية فى بلادنا سقطت كل مشروعات الحكم من الطائفية والعسكرية والسودان الجديد والإسلام الحركى ولم يعد يجد ترقيع متوهم او إصلاح مزعوم . ولا أميل الى التشاؤم او الياس والقنوط من قدرتنا على الالتفاف وتغيير الوجهة وخط السير فقد بان الطريق وتبدت مشرعة واسعة أبواب الأمل فى الانسان من قبل ومن بعد فنحن كما قال المستشرق والمترجم والمؤرخ الإنكليزي المعروف، بيتر كلارك فى حوار نشر بـ “الوطن” السودانية بتاريخ ٢٥ مارس ٢٠١٠م - عاش في السودان لسنوات في سبعينيات القرن الماضي حيث عمل في المجلس البريطاني. تفاعل خلال سنواته تلك مع الحياة والمدن والشخصيات السودانية، وربطته علاقات مع عدد من النُّخب الثقافية والسياسية والأسر السودانية. وجدير بالذكر أن بيتر كلارك يعمل حالياً مستشاراً ثقافياً لعدد من المؤسسات الثقافية، وصاحب فكرة جائزة بوكر العربية للرواية؛ التي أطلقت في العام ٢٠٠٧م بالتعاون مع جائزة بوكر البريطانية الشهيرة، وهو عضو في مجلس أمنائها- ان أحد أصدقائه قال مرة إن السودان حارٌّ كجهنم، جاف كالعظم؛ لكن أهله كانوا أقرب الأشياء إلى البشر على أرض الله.
وحول أكثر ما شدَّ انتباهه في الشخصية السودانية قال. : (ليست هناك شخصية سودانية بذاتها، هناك ثلاثون مليوناً! أعجبتني صفات عدة؛ كالمرح تحت الضغط، والكرم الغريزي، وروح الدعابة، والكرامة الحقَّة ). انتهى
وعود على بدء فان بيتر كلارك قد قام بترجمة كتاب زلفو المشار اليه أعلاه الى اللغة الانجليزية ونشرته دار فريدرك وارني في لندن ١٩٨٠م . وتلك كانت معركة فى الماضى فمتى نبدأ معركة المستقبل؟